لو سألنا السؤال التالي: ما هي الثروة الأهم في سوريا اليوم؟
لاشك أن السؤال يحمل من الغرابة والاستهجان الكثير، إذ هل ظل حقا ثروة ما في سوريا بعد أن تهدم الشجر والحجر واختفى أنبل الرفاق في السجون وهاجرت أغلب الكوادر السورية إلى المنفى إما خوفا من مستبد قاتل أو هربا ممن يحاول وراثة دوره أو بحثا عن ظروف عيش أفضل أو..
هل ثمة ثروة باقية على قيد الحياة في سوريا اليوم حقا؟
نعم، دون شك. إنهم النشطاء المدنيون والعاملون في فرق الإغاثة والدفاع المدني والمجالس المحلية. أولئك الصامدين الذين نذروا ذواتهم لمساعدة من تبقى من المدنيين في المدن المحاصرة والمهدمة والتي تعيش رغم كثرة الموت لا قلته. أولئك الذين لا زالوا يحافظون على فكرة الثورة كما بدأت عبر لافتة هنا أو شعار هناك أو رسمة على جدار، والأهم أنهم يحافظون عليها بسلوكهم اليومي: ثانية، ثانية.
ماذا نسمي أطباء رابضوا في مشافي ميدانية تتربص بها طائرات النظام لتقصفها، ومع يذلك يصرون على إنقاذ الإنسان بغض النظر عن انتمائه السياسي أو الديني أو العرقي من براثن الموت، وفوق كل هذا يجدون الوقت ليعتصموا، مطالبين بـ "أوقفوا القتل"، حماية للمدنيين ودعوة لإيقاف هذه الحرب؟
ماذا نسمي رساما من داريا يوّزع وقته بين مكتبة يقرأ فيها ويحافظ على كتبها ومساعدة المدنيين وتعليم الأطفال، وفي أوقات "الفراغ" التي تتيحها الطائرات لا الوقت يجد متنفسا بين طائرتين ليرسم على جدار مهدّم رسائل أشبه ببوح للمعتقلين والغائبين وللثورة أيضا؟
ماذا نسمي شابا/ة ترك كل شيء وانتمى للدفاع المدني في مدينة ما، ليحمي المدنيين ويؤمن احتياجاتهم إن استطاع إليها سبيلا؟
ماذا نسمي شابا/ة يخترع من اليأس فكرة ليحول الموت إلى حياة، حين يجد الوقت لتأسيس مكتبة ليقرأ الناس في ظل ظروف يبدو وصفها بجهنم قليلا؟
ماذا نسمي شابا/ة يبحثون عن الأطفال في كل مكان ليعلّموهم الحرف كي لا نصل يوما إلى جيل مستقبله الجهل والتطرف واحتراف الجريمة؟
ماذا نسمي شبابا وشابات من خان شيخون يتظاهرون اليوم ضد "جبهة النصرة" مطالبين إياها بالخروج من منطقتهم، وآخرون ضد "زهران علوش" في الغوطة الشرقية، لإدراكهم أنهما سلطة أخرى لا تقل قبحا عن سلطة الاستبداد؟
نعم. هؤلاء غيض من فيض الصامدين في سوريا اليوم. إنهم الثروة الأهم من سوريا، وما تبقى من الثورة حقا.
ولكن، وللأسف: إن هؤلاء يدفعون الثمن الأبرز اليوم في سوريا، لأنهم الحلقة الأضعف بعد المدنيين. يزيد وضعهم سوءا عن المدنيين أنهم مستهدفين من كل صاحب سلطة لا تروق له أعمالهم الزائدة في إنسانيتها عن الحد المسموح به في ظروف حرب مجنونة، إذ لا يمر يوم دون خبر عن استشهاد أحدهم أو اعتقال أحدهم على يد سلطة الاستبداد أو فصيل عسكري ما، أو إصابة أحدهم دون توفر أدنى أدوات الطبابة والعلاج، ما يجعله "شهيدا" تحت وقف التنفيذ (والحكاية التي بسببها كتبنا هذا المقال عن ثلاثة نشطاء من داريا توّضح ذلك أيما إيضاح).
يبقى السؤال هنا: كيف يمكن تعزيز صمود هؤلاء؟ كيف يمكن إيقاف هذه الحرب بما يحفظ للناس حقوقهم وكراماتهم ويحافظ على أرواح هؤلاء الذين يمثلون الأمل الأخير لسوريا؟
مادور المجتمع المدني الذي نمى في الخارج في دعم شقه الداخلي؟ كيف يساعده ويكون صدى لصوته ودافعا باتجاه تحقيق أحلامه؟
قد لا نبالغ إذا قلنا أن هؤلاء النشطاء هم أمل سوريا الوحيد، فإن رحلوا أضحت سوريا في خطر: مستسلمة دون مقاومة للاستبداد وللقوى المتطرفة التي تحاول وراثة دوره. ولنتذكر أن النظام أول ما فعله أن اعتقل هؤلاء وهجرهم ونفاهم لإدراكه أن فكرة الثورة باقية ما بقوا، ولهذا لازال يعمل على استئصالهم، ولا تفعل بعض القوى المتطرفة الأخرى ( داعش، جبهة النصرة، جيش الإسلام...) إلا متابعة دوره، ليس بالضرورة لأنها متعاونة معه، بل لأنها تحمل آلية التفكير ذاتها.
لنعمل على إنقاذ سوريا بإنقاذ ما تبقى من ثروتنا الوطنية أو ثروتنا الثورية إن صح التعبير.