بدت ساحات التواصل الاجتماعي يومي الرابع والخامس من أيلول عام 2015 وكأنها مشهدا مستعادا من مشاهد زمن الثورة السلمية، إذ رغم الألم والغضب الواضحين على السوريين كان ثمة "فرح" ما يطل برأسه، "كرامة" ما تندس بين الكلمات، لغة عرفها السوريون في عامي 2011 و2012 تستعاد بطريقة أو بأخرى على وقع أحداث رغم فوضويتها وعدم دقة معلوماتها حملت معها "أملا" و"حلما" بدا وكأن السوريين استعادوه ولو للحظات! بل إن هذا الاحتفاء بما حصل في مدينة السويداء يدل على تعطش السوريين لكل ما يذكرهم بثورتهم بعد أن غرقت بالكثير من الدماء والفوضى والتطرف، إذ لم يكد تصل الأخبار عن قيام الأهالي بتحطيم تمثال الدكتاتور الأب "حافظ الأسد" في السويداء بعد اتهام النظام بالقيام بتفجيرات استهدف أحدها شيخ الكرامة "وحيد البلعوس" الذي تحدى سلطة الأسد أكثر من مرة، حتى بدأ السوريون يحتفون بسقوط يسميه أهالي السويداء تمثال "خمسة شاورما أبو سليم لو سمحت"، فما هي الحكاية؟
قبل عام 2011 كانت السويداء جزءا من مملكة الصمت السورية، حيث الكلام السياسي فيها يتم بالومى والإشارة أو عبر السخرية التي طوّر السوريون على مدى عقود آليات مقاومتهم الدكتاتورية من خلالها، عبر إطلاق تسميات ساخرة تأخذ طابع النكتة على أشياء يعجزون عن انتقادها علنا ومنها السلطة السياسية.
ضمن هذا السياق كان تمثال الأسد الرابض في وسط مدينة السويداء مثالا للرعب المفروض على المدينة دون إمكانية الناس لمقاومته، إذ يقول ابن مدينة السويداء الفنان "عامر الشاعر" لحكاية ما انحكت أن التمثال مصمّم بحيث أن يده اليمنى تحيي الجماهير في ساحة السيربحيث يبدو وكأنه يطل على محل شاورما لصاحبه "أبو سليم"، الأمر الذي جعل الناس يسخرون من الدكتاتور قائلين أنه يطلب "خمسة شاورما " من عند أبو سليم. وهكذا أصبح تعبير "خمسة شاورما" معروفا في المدينة بأنه يشير إلى الدكتاتور الرابض في ساحتها، وهو ما عاد للتداول اليوم على ساحات الفيسبوك، حيث كتبت الناشطة "لبنى الزاعور" على الفيسبوك أن "تمثال خمسة شاورما صار تحت الإجرين. يا الله انو تماثيل حافظ الأسد من حجار بس بتخوف. بحسها مجبولة من حقد وموت. كل تمثال بينزل برجف عرش الطاغية"، علما أن ثمة حوادث سابقة تشير إلى الصنم إذ استيقظ الناس في أحد الأيام ليروا سطل سمنة موضوعا على رأسه بعد أن مرت البلاد بمرحلة غلاء دفعت المواطن الفقير نحو الحضيض، وكان أحد الأهالي أقدم على حمل مطرقة في عام 2012 وانهال على الصنم ضربا وتكسيرا قبل أن تعيد الأجهزة ترميمه أيضا.
تكسير الصنم ترافق مع شعور عارم بالفرح عبّر عنه النشطاء، بما ذكرنا بمناخات سابقة عاشها السوريون في الأعوام الأولى للثورة مع تكسير كل صنم أو صورة له في المدن السورية، وهو ما دفع "هالا البكري" للكتابة: "عمترجعولنا أيام حلوة. بحمى الرحمن يا شباب السويداء"، في حين كان أبناء مدينة السويداء الأكثر فرحا بما يحصل، إذ قال الشاعر "تمام هنيدي": "تحطيم تمثال "حافظ علي سليمان الأسد"، في ساحة السّير في السويداء. ثأرٌ آخر يُضاف لثأري الشخصيّ من بشار الأسد. ألّا أكونَ هناك في هذه اللحظة! التمثال الذي جثم طويلاً على صدورنا باتَ هباءًا الآن"، وكتب "أكرم أبو حمدان" أن "تمثال الصنم بساحة الشهيد خلدون زين الدين ( الرئيس سابقا" ) عاد إلى مكانه الطبيعي: تحت أقدام الأحرار"، بل إن تسمية "ساحة الرئيس" سابقا باسم الشهيد "خلدون زين الدين" وآخرون أطلقوا عليها "ساحة البلعوس"، يذكرنا أيضا بمناخات الثورة عام 2011 حين أقدم السوريون على تغيير أسماء الساحات والمرافق العامة في بلادهم، وهو ما كان لحكاية ما انحكت وقفة خاصة معه آنذاك.
البلعوس والاعتصام: مقدمة الصدام
عبر مسار الأحداث السورية نشأ في مدينة السويداء ما بات يعرف بظاهرة "رجال الكرامة" أو "شيوخ الكرامة" وهم مجموعة من رجال الدين الدروز الذين أعلنوا موقفهم أنهم ضد الفساد والرشوة ومع حماية الدروز في هذا الصراع، حيث كان للرجال عدة مواقف واجهوا من خلالها نظام الأسد، وإن لم يرفعوا سقف التحدي معه، إذ ظل صراعهم في إطار مواجهة مع الأفرع الأمنية المنتشرة واللجنة الأمنية والدفاع الوطني في المدينة للحد من تجاوزتهم ومنعهم من الاعتداء على الناس، وتأمين مستلزمات المدينة اليومية ومنع النظام من أخذ شباب السويداء للحرب ضد السوريين خارج المدينة، ومنع تسليم المنشقين عن الجيش إلى القوى الأمنية، مما أدى إلى حصول عدة صدامات بين الأجهزة الأمنية ورجال البلعوس الذين تحدوا الأجهزة الأمنية أكثر من مرة، من خلال إجبار الأخيرة على إطلاق سراح المطلوبين للخدمة العسكرية ومنع النظام من نقل السلاح الثقيل خارج المدينة، معتبرين أن السلاح وجد لحماية المدينة وليس النظام، الأمر الذي جعل من البلعوس "بطلا" في عيون أبناء المدنية، وخصما عنيدا للنظام، خاصة أن الرجل فهم ممكنات اللعبة ولم يرفع سقف التحدي نحو إسقاط النظام محاولا السير بين حدي سكين، رافضا النظام من جهة ورافضا الفصائل الإسلامية المتطرفة مثل النصرة وداعش وغيرها من جهة أخرى، وهو ما تجلى من أكثر من فيديو تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
التصعيد الأخير بدأ حين دعا أهالي المدينة إلى اعتصام أمام مبنى المحافظة في الأول من شهر تموز تحت عنوان "خنقتونا، مطالبين بتأمين المواد الغذائية والمازوت والكهرباء للمدينة، حيث استمر الاعتصام لمدة ثلاثة أيام متواصلة تعهد البلعوس خلالها بحماية المظاهرات التي تصاعدت يوما بعد يوم، مع ترديد شعارات "الله. سوريا وبس" واقتحام مبنى المحافظة كما نقلت وسائل الأنباء، الأمر الذي جعل النظام يخشى من تراكم كرة الثلج، خاصة أن الاعتصام جاء بعد اعتصامات عدة شهدتها دمشق والبيئة الساحلية التي تعتبر موالية له على خلفية مطالب متعددة، ففي دمشق اعتصم البعض مطالبين بفك الحصار عن القرى الشيعية المحاصرة في الشمال في حين اعتصم أهالي مدينة طرطوس لدفع النظام لفك الحصار عن الجنود المحاصرين في مطار كويرس، وذلك كله بعد مظاهرة نفذها أهالي اللاذقية ضد قريب الرئيس "سليمان الأسد"، الأمر الذي دفع النظام لمواجهة الأمر بالطريقة الوحيدة التي يعرفها أي القمع والحصار، فعمد إلى قطع الأنترنت مبدئيا عن المدينة حيث كتبت الشاعرة "أميرة أبو الحسن" من قلب السويداء: "انقطاع عن العالم. ثلاث أيام والانترنت مقطوعة. عقاب جماعي بسبب مجموعة من الشباب المتهور الذي قرر أن يعتصم ليطالب ببعض الأمور التافهة مثل تيار كهربائي لساعات أطول من الساعة والنصف المتاحة بعد انقطاع خمس ساعات أو من أجل خبز نظيف يصلح طعاماً للبشر. شباب طائش من الذين لم يسعفهم الحظ كغيرهم في الهجرة من المحافظة. شباب أراد حياة أفضل فتجرأ ورفع ورقة صغيرة كتب عليها "خبز" أو "كهرباء". شباب لم يتمكن أهله من زرع الخوف كما ينبغي في قلوبهم فقررت الدولة أن تعيد تربيتهم.. وتربيتنا معهم".
وفعلا لم تتأخر التربية، حيث جاء اغتيال البلعوس ورجاله ضمن هذا السياق بعد أيام من الاعتصام، حيث وقع انفجار في موكب الرجل تبعه انفجار آخر على باب المشفى الذي وصل إليه من نجا من التفجير، في رسالة واضحة تحدي واضحة وهو ما رد عليه أهالي المدينة بالتظاهر وتكسير صنم "خمسة شاورما".