سوريا خارج إطار الحرب والموت


09 أيلول 2015

لأن سوريا لم تعد مفهومة، ولأن الحديث عنها غارق بالجهل والنمطية والتعميم، بدءا من الحرب وليس انتهاءا بداعش التي طغت على كل شيء، يأتي معرض "سوريا خارج الإطار" كجزء من مشروع "Imago Mundi"، ليحاول النظر خارج هذه الصورة المعمّمة، خارج هذا الإطار الضيق الذي يحشر العالم سوريا فيه، من خلال معرض ضم لوحات وسرديات شعرية لمئة وأربعين فنانا وشاعرا سوريا، موزعين في كافة أنحاء العالم، بدءا من السجون، إذ تمكن منظمو المعرض من تهريب لوحات رسمها بعض السجناء إلى منافي الله الواسعة التي ملأها السوريون: غرقا ولجوءا وموتا حيّا ومؤجلا.

المعرض الذي افتتح في 31 آب من عام 2015 في مدينة فينيس بإيطاليا، تجاور مع 37 معرض فني من 37 بلداً مختلف، ضمن افتتاح ناجح قدمه مبتكر فكرة مشروع "Imago Mundi" السيد "Luciano Benetton"، الذي وجه شكرا خاصا للفنانين السوريين لمشاركتهم في هذا المعرض، كما قالت المنظمتان "دوناتيلا ريلا" و"رولا علي" في رسالة موجهة لحكاية ما انحكت، علما أن المعرض مستمر حتى الأول من الشهر العاشر، مع أمل بأن "يعرض في أماكن أخرى حول العالم مع باقي البلدان المشاركة ضمن مشروع "Imago Mundi"، بالإضافة إلى نقاش حول إمكانية عرض "سوريا خارج الإطار" في أماكن أخرى حول العالم في الشرق الأوسط و أوربا، ولكن لم يتخذ قرار نهائي بعد" كما تقول المنظمتان في رسالتهما.

المعرض يأتي لمواجهة هذا العماء الإنساني والأخلاقي تجاه سوريا، وكأنه احتجاج العولمة المضادة على عملية تسليع المآسي البشرية واختزالها إلى مجرد أرقام بعد أن " تعبت عيوننا بسرعة من مشاهدة هذه الصور المبكسلة ومنخفضة الدقة التي سرعان ما أصبحت مليئة بطريقة غير مستحبة بالدم. ولذلك، قررنا أن سوريا كانت شديدة التعقيد بحيث لا يمكن فهمها. لقد علقنا في إطار العنف المبكسل، وتخلّينا عن البحث عن ذلك في أي مكان آخر من الصورة" كما تقول دوناتيلا في كلمتها التي قدمت بها المعرض، مصرّة على البحث عن رؤية أخرى، عن مقاومة السوريين، عن الهامش الذي تعزله العولمة وتقصيه، عن صوت البشر الضعفاء، عن الجمال في هذه الحرب المجنونة، عن "الإيماءات اليومية للرسم من المنطقة المحاصرة، حيث تصبح صناعة الفن الشكل الأكثر ضرورة للعيش. في الذكريات الصغيرة لطفولة في قرية سورية يتم الحفاظ عليها وإحياؤها من خلال الألوان في الرسم والشعر".

لوحة من المعرض. المصدر: حكاية ما انحكت
لوحة من المعرض. المصدر: حكاية ما انحكت

توّزع المشاركون في المعرض بين رسامين ومصوّرين ورسامي كاريكاتير وشعراء وخطاطين وفناني مسرح ومخرجين وفناني غرافيتي وصانعي أفلام. هذا على مستوى الاختصاص. وثمة تنوع آخر بين فنانين يعيشون في المنفى وآخرين يعيشون في الداخل "وسط نقص في الكهرباء والماء والغذاء. بعضٌ منهم يعيشون تحت الحصار، وآخرون يعيشون تحت تهديد يومي بالقتل لمجرد الخروج دون أي سبب"، إضافة إلى تنوّع آخر في التجربة إذ ضم المعرض فنانين مكرسين إلى جانب فنانين شباب واعدين بدؤوا مشوارهم للتو، بدءا من منير الشعراني وياسر صافي ونهاد الترك وفادي الحموي إلى هبة العقاد وهاني عباس وفاديا عفاش، وعمار البيك الذي رسم لوحة تركيبية بها قفل ودرْز بخيوط حمراء ما دفع الناقدة التشكيلية "مالو هالاسا" لوصفها بأنها تعبير عن كون "الأفكار والكلمات والأفعال المحبوسة لا تذهب أبداً ككراهية الذات"، في حين ترى في لوحة الفنان "ياسر صافي" التي تصوّر وجهاً من وجوهه الأيقونية، أن "تحديقة المشاهد بما يبدو كأنه انسداد عابر فوق عينيه، كما لو أن الشكل يعاني من صعوبة في الرؤية"، لنكون أمام أعمال "توحي بأن سوريا، كبلاد وكفكرة، تفيض باليأس والأسرار" كما تقول الناقدة.

 الشعراء أيضا كان لهم حضورهم إذ رسمت عباراتهم بيد خطاطين وفنانين سوريين، لتنتج لوحة جمالية تأخذ من الشعر خياله ومن اللون ديمومته، وكأن الشعراء يسعون لتأكيد الجمال السوري على وجه هذا العالم، كما تلوّث بقعة سوداء بجمالها بياض عالم أصم.

لم يكن المعرض هو المشاركة السورية الوحيدة، فالمقاومة السورية لا تختزل بالفن وحده والكلمة وحدهما، فالمسرح كان له حضوره عبر أكثر الطرق تحديا وجنونا، إذ دخل الفنان السوري "نوار بليل" في مغامرة فريدة من نوعها من خلال عمل حمل عنوان "من عمان إلى حمص. الفن كمقاومة"، إذ عمل الفنان "بلبل" مع الأطفال السوريين في مخيمات الأردن فيما على الجهة الأخرى من السكايب المدرب "أبو أمين" يعمل مع أطفال سوريين يعيشون في مدينة حمص تحت الحصار، حيث قدموا للمعرض إبداع الـ 10x12كانفس، حيث سأل الرسام الفرنسي " جان إيف بيزين" الأطفال السوريين سؤالين، كي يتمكن من تصوير أفكارهم على الكانفس، وهما: عندما تنظر إلى السماء، ما اللون الذي تراه أو تريد رؤيته؟ ما الكلمة التي سوف تكتبها عليه؟

هذا بالضبط ما يجعل اللوحات تنبض بالحياة، إنها وشوشات الصغار اللاهية بعيدا عن الحرب تبحث عن حرية وعدالة مفقودتين.

الفيديو كان له حضوره أيضا من خلال مشروع حمل اسم "بيكسل سوريا"، وهو تنصيب لـ 35 "موبايل فيديو" كانفس تم إنشاؤها وتصميمها من قبل "زاهر عمرين"، فـ"كل كانفس فيه جهاز موبايل كجزء لا يتجزأ منه ويخفي جوهرة: فيديو من دقيقة واحدة تم تصويره بكاميرا الموبايل من قبل مخرج سوري. كل فيديو يحتوي على قصة قصيرة بصرية ومزاج مختلف" لتعرض الصورة الأخرى المغيبة عن سوريا، أي ما هو خارج إطار ما يراه ويريده السياسيون  وتجار الحروب لسوريا، ففيلم "ارفع علم ثورتك" يظهر مجموعة رجال ضمن فعالية حملت عنوان الفلم، وهم يرفعون علم ثورتهم بعد أن يمدوا أيديهم لبعضهم البعض. ثمة مشهد مجنون يكاد يكون هو سوريا اليوم، فبين الرجال الذين يمسكون بأيدي بعضهم البعض ثمة يد مقطوعة. لم يمنع العطب صاحبها عن الحلم ورفع علم الثورة. إنها سوريا التي تسخر من الإطار الذي وضعت به، وكأنها تواصل هي الأخرى تحدي إطارها على طريقتها.

أن يجمع المعرض في إطاره التنظيمي سوريين وإيطاليين معا، مع إصرار مجنون من الإيطالية "دوناتيلا" على انجاز هذا المعرض رغم كل المصاعب، ثمة أمل بأن العالم لا زال يضيء، وأن ثمة عولمة بديلة إنسانية قد توّحد نضال الشعوب من روما إلى دمشق. لا لشيء إلا لأن العالم كله بات يشتاق للعدل المفقود ليس في سوريا فحسب، بل في العالم كله.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد