كانت الطائفية، ومازالت، أحد أهم أركان سياسة نظامي الأسد الأب والابن. وكما في الكثير من الصراعات المطلبية التي حصلت في غير مكان من العالم، جند نظام بشار الأسد أدواته وقواته لتحويل النضال المطلبي الذي ظهر في سوريا غداة بزوغ شمس الربيع العربي، إلى صراع طائفي بغية حرفة عن مساره وبالتالي إفشاله.
عمل النظام السوري منذ بداية الأحداث في سورية في منتصف آذار 2011 على خطين متوازيين لانهاء الحراك الشعبي الذي قام من أجل المطالبة بالحرية والكرامة. فمن جهة استخدم النظام ميليشيا الجيش والقوات الأمنية بوحشية للقضاء على الحراك، ومن جهة ثانية قام بتعبئة طائفية غير مسبوقة مع التركيز على الأقليات والتي كان لها مشاركة محدودة في الثورة من أجل الوقوف معه ضد (الإرهاب). في البداية عَمِل النظام جاهداً للقضاء على الأصوات السلمية والعلمانية عن طريق تغييبها في السجون أو اغتيالها وترك الباب مفتوحا للخيارت الأشد إيلاماً، وهي التوجه نحو السلاح والاحتقان الطائفي من الطرف الذي ثار على السلطة كنتيجة حتمية لما قام به النظام وخطط له.
بعد أربع سنوات من القتل والموت تحت التعذيب والبراميل المتفجرة التي تسقط كل ساعة على أبناء الشعب السوري من طائرات النظام، التي كان من المفروض أن تحميهم، أصبح موضوع الطائفية أمراً واقعاً أكثر من أي وقت مضى، وبان الاصطفاف الطائفي عند موالي النظام مثلما عند معارضيه. تحولت شعارات الوحدة الوطنية وشعارات المطالبة بالحرية عند معارضين إلى شعارات "بدنا نبيد العلوية"، وتحول قسم كبير من اليسار إلى الوقوف بجانب النظام تحت ذريعة أن النظام يحمي الأقليات وأنه يدافع عن وحدة سورية.
انتهج النظام سياسة واضحة تجاه الطائفة العلوية أهمها ضرب أي محاولة للاعتراض على سياساته ضمن أبناء الطائفة، هادفاً بذلك إلى تحويل الطائفة العلوية الى طائفة سياسية مرتبطة مباشرة بعائلة الأسد. واعتمد بذلك على الترغيب، مثل تقديم مناصب بأجهزة المخابرات، أو من خلال الترهيب عن طريق خلق عناصر من الشبيحة مهمتها ترهيب أبناء الطائفة ونشر ثقافة الكراهية والتخويف من أصحاب الحراك الشعبي ومن ثم المسلحين.
لم تكن قيادات المعارضة السورية في حال أفضل كثيراً من حال النظام، حيث عملت على تصوير العلويين بأنهم هم من يقتلون المتظاهرين، وأن العلويين ينتقمون من السنة بسبب محاولتهم الحفاظ على السلطة. وعلى هذا الأساس، تم إنشاء فرق عسكرية وألوية تحت أسماء إسلامية واضحة وبالسياق الطائفي.. تحت أسماء سنّية. أغلب هذه الفرق صارت تطرح "تطهير سورية من العلويين" بدل إسقاط النظام الذي قتل المتظاهرين وقام بتدمير سورية بأكملها ثقافياً ومجتمعياً، علاوة على تدمير البنية التحتية.
استغل النظام هذا التراجع في أهداف الثورة أفضل استخدام من أجل حشد الأقليات إلى جانبه، مقدما دلائل مما كان يصدر عن "الثوار" الذين لم ينتبهوا أو يحاولوا الانتباه لذلك. وبالإضافة إلى الفيديوهات التي قامت قوات المعارضة بتوزيعها مظهرة فيها قوات من المعارضة تعدم جندياً من أصول علوية، وما شابه ذلك.. قامت قوات النظام وعملائه بتسريب فيديوهات يظهر فيها رجال يتكلمون باللهجة العلوية وهم يعذبون معتقلين أو متظاهرين، وذلك دفعاً لمزيد من الاحتقان الطائفي والمزيد من ردود الفعل ضد الطائفة العلوية، الأمر الذي يحقق له حصاد المزيد من الموالاة والدعم الأقلوي.
وأنتج النظام السوري مزيداً من الحيل لشلّ أي محاولة من قبل الأقليات للانضمام إلى الثورة. فعلى سبيل المثال، سهل النظام دخول المسلحين إلى بلدة معلولا المسيحية واحتلوا الكنائس وخطفوا عدداً من الراهبات، ثم أعاد النظام احتلال المدينة وطرد المسلحين منها. وزارها رأس النظام ليعلن أنه حامي المسيحيين وضامن أمنهم. انتشر هذا الخبر كالنار في الهشيم، ليس فقط ضمن الحدود السورية بل في مناطق أخرى من العالم.
ومع انتشار الأخبار عن وجود تململ بين أبناء الطائفة العلوية، قام النظام، وفقا لتقارير واتصالات مع بعض أهالي المنطقة، بتسهيل حركة مسلحي جبهة النصرة الاسلامية باتجاه قرى كفرية وبلوطة بريف اللاذقية، فقتلوا عدداً من المدنيين العزل، وخطفوا أكثر من مئة من الأطفال والنساء. ووفقا لمصدر من بين أهالي المخطوفين، قام النظام بسحب قواته التي تفصل بين القرى وأماكن تواجد المسلحين قبل يوم من هجوم المسلحين مما سهل دخولهم. وأيضاً أعلن مصدر آخر من أهالي المخطوفين أن "النظام رفض قصف الجسر الوحيد بين قرية بلوطة ومناطق تواجد المسلحين من أجل منع نقل المخطوفات". استغل النظام مثل هذه الحادثة لتجييش الطائفة العلوية من أجل الوقوف معه وأفلت على منتقديه من الطائفة جماعات الشبيحة من أجل إسكات أي محاولة "للتململ".
إذن وقعت المعارضة والشعب السوري في الفخ القاتل الذي نصبه لهم النظام بخبث شديد وصارت الطائفية جزءًا من "الحراك الثوري" وأيضا وقع عدد كبير من الأقليات، ومنهم من يدعي العلمانية، في فخ النظام الذي روج أن الثورة السورية أتت لتقضي عليهم. لقد لعب النظام على وتر الخوف الموجود لدى الناس، واعتمد أسلوب التخويف والترهيب عنواناً للمرحلة الدموية التي امتدت لأربع سنوات.
ووقع كثير من اليساريين، وعدد لا بأس به من السجناء السياسيين السابقين في هذا الفخ، وخاصة بعد الانتشار السرطاني لداعش. فدعوا إلى الوقوف مع "أهون الشرين"، مدعين أن الإرهاب قادم ليحكم سورية وأن النظام، "بالرغم من استبداده"، أقل شروراً من إرهاب الاسلاميين. لم يكن هذا الموقف خال من المفاجأة والصدمة، وقد لعب دورا سلبيا للغاية لاسيما بين الأشخاص الذين كانوا مترددين في دعم النظام وأيضاً في صفوف المعارضين الذين ينتمون "للطائفة الأخرى"، والذين استخدموا هذه المواقف للتشديد على أن الأسد مدعوم من قبل أفراد طائفته، وذكروا بأنه حتى ضحايا الأسد الأب والابن "الآن يقفون بجانب الأسد".
لقد عمل النظام، الذي سجن وقمع معارضيه قبل أحداث آذار 2011 بتهمة "بث النعرات الطائفية"، على ضخ ممنهج للطائفية والتهييج الطائفي الذي يؤمّن له استمراره في الحكم، فدخل في تحالفات إقليمية ذات طابع طائفي واستقدم ميليشيات طائفية من العراق ولبنان وباكستان وحتى أفغانستان من أجل الدفاع عنه.
وكنتيجة، ظهرت الطائفية في سورية بعد أحداث آذار 2011 إلى العلن بعدما كانت تمارس في السرّ وحتى ضمن ما يسمى الدستور السوري. لكن كان لهذا الأمر جانب إيجابي، إذ أنه جعل السوريين يناقشون مسألة الطائفية بشكل نقدي وعلني. ولكن كان له جانب سلبي أكبر، حيث تحول الصراع إلى صراع طائفي على السلطة وتحولت الثورة السورية إلى ثورة "الأغلبية السنيّة"، ودخلتها مصطلحات "كحماية الأقليات" وتحولت سورية نفسها إلى أرض محتلة من قبل إيران وميليشيات مدعومة من الجانب الوهابي السعودي وأمثاله. كما تحولت الثورة إلى صراع طائفي دولي على أرض سورية ومازال مصمم هذه الكارثة يأمل أن يستمر حكمه على هذه الأنقاض.
بناء على ذلك، يرتفع الحديث عن تقسيم سوريا مستقبلاً إلى دويلات طائفية، خاصة مع سيطرة "داعش" على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، ومع الاحتقان الذي حصل بين مكونات المجتمع السوري بفعل الحرب المستمرة، بطوائفه وإثنياته التي تعود إلى اصطفافات ما قبل المواطنة. وبغض النظر عن إمكانية التقسيم أو عدمها، فإن العمل يفترض أن يكون أولاً على تحقيق العدالة للشعب السوري بالخلاص من القتلة الذين كانوا سبب هذه المأساة الرهيبة، والعمل على تسويات بعد تحقيق التسوية المفترضة "الحل السياسي"، تسويات بين المكونات السورية الداخلية وفق ما يحقق مصالح الجميع على أرضية العدالة ووقف القتل أولاً، ثم تكريس فكرة المواطنة وخلقها على أرضية دستور سوري يضمن حقوق الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم .