أكثر من أربع سنوات ونصف انقضت على الصراع السوري الذي يزداد تعقيداً وابتعاداً عن مصالح سوريا، حين نقصد بسوريا الشعب السوري والأرض السورية. الصراع الذي انطوى بعد الإجهاز على "ثورة الحرية والكرامة" على مجاهيل تفوق ما هو معلوم فيه، رغم كل ثورة الاتصالات والمعلوماتية والصحافة. مجاهيل تتعلق بعلاقة الأطراف العسكرية المتصارعة فيما بينها، ما علاقة النظام بهذه القوى مثلاً؟ وما دوره في تعزيز وجودها في حين يبدو أنه عدوها اللدود؟ وما تفسير تناميها المستمر رغم أن النظام جرّد جيشه منذ الأيام الأولى ضد "سلفية إسلامية" زعم أنها موجودة من البداية، ومن الطبيعي إذن أن يتوقع المرء مثلاً أن تُقتل بذورها في المهد، لكنه يُفاجأ بتناميها المستمر؟ ما سر الانهيارات المفاجئة والسريعة التي نشهدها في جبهة النظام دائماً ولصالح داعش أو النصرة دائماً، من الفرقة 17 إلى اللواء 93 إلى مطار الطبقة، ثم إلى بصرى الشام إلى اللواء 53 في درعا، ثم إلى مطار أبو الضهور في إدلب ..الخ؟ وكيف يصل بترول داعش مثلاً من شمال سوريا إلى جنوبها ليغطي فجوة الوقود في السويداء التي ينهب حصتها المسؤولون؟
وثمة مجاهيل تتعلق بصراعات التشكيلات ضمن الطرف الواحد، ومجاهيل تتصل بعلاقة الأطراف المتصارعة مع داعميها، مثلاً من أين تأتي بتمويلها وعتادها دولة مرتجلة خارجة عن كل قوانين العالم و"تبقى وتتمدد" فيما تملك الدول المؤثرة، ولاسيما أميركيا، القدرة على معاقبة دول كبيرة وراسخة مثل روسيا وإيران والصين؟ ما سر هذه القوة لدى داعش والنصرة اللتان لا تتماشيان مع العصر وتكفّران الديموقراطية (معيار قيم عصر ما بعد الحرب الباردة)، بالتوازي مع الضعف المتزايد لدى القوى التي تؤمن بالديموقراطية؟ ومن المجاهيل الكثيرة أيضاً الموقف الأميريكي من الصراع السوري، فمن غير الطبيعي أن لا يكون ثمة موقف واضح منه للدولة الأولى في العالم، وذات المصالح الحيوية في الشرق الأوسط والتي دخلت حربين كبيرتين في المنطقة دفاعاً عن نفوذها فيها، الأولى في مطلع 1991 لتحرير الكويت، والثانية في 2003 لإسقاط النظام العراقي الذي زعمت (تبين كذبها لاحقاً) أنه يدعم "القاعدة" ويطوّر أسلحة تدمير شامل.
تطوّر هذا اللغز عقب تحول الصراع في سوريا إلى صراع على سوريا، التحوّل الذي كان مفتاحه إخماد كل صوت يطالب بالحرية والحياة الكريمة، فعقب ذلك فقد الصراع محركه الداخلي (كفاح شعبي ضد نظام مستبد)، وتغلّبت فيه قوى الدفع الخارجية. وقد اشترك على إنجاز هذه المهمة الطرفان اللذان احتكرا الصراع بينهما (النظام كمحل للمصالح الإيرانية والروسية، والقوى الإسلامية المتطورة التي نمت تحت جنح الثورة السورية كمحل للمصالح التركية والخليجية). عقب ذلك تحوّل الشعب السوري من شعب ينتفض من أجل التغيير السياسي ويطالب بحقه في الحرية إلى شعب يريد صيانة حقه في الحياة حتى راح يبحث عن صيانته خارج سوريا.
في سوريا اليوم سوريتان مقهورتان، واحدة لا زال يسيطر عليها النظام وقد راحت في الفترة الأخيرة تنكمش تحت ضغط القوى الإسلامية المناوئة للنظام، وواحدة تحت سيطرة هذه القوى الإسلامية المتنوعة.
في الشكل نحن أمام جبهة صراع بين النظام وهذه القوى الإسلامية، جبهة محتدمة تدمر سوريا وتقطف أعمار شبابها. ولدى البحث في المحرك الداخلي لهذه الحرب سنجد أنها نضبت من أي محرك سياسي تحرّري، وأن محرّكها الأساس، على مستوى الجمهور، هو الخوف المتبادل. جمهور النظام يخشون بالدرجة الأولى سيطرة الإسلاميين وانتقامهم ودمويتهم التي استعرضوها في غير مناسبة، فيرجون هزيمتهم ليتحرروا من هذا الرعب ويلتفتوا بعد ذلك (كما يتصورون) لمعالجة القضايا المؤجلة أكانت سياسية أو مطلبية.
وجمهور الإسلاميين يخشون "انتصار" النظام وانتقامه المعهود ومحاسبته المباشرة أو الطويلة الأمد لمن يعتبرهم "بيئة حاضنة"، فيرجون سقوطه ليتدبروا فيما بعد شأنهم مع هذه القوى التي تحاربه وتشبهه في استبدادها. وكما يرى النظام في "محاربة الإرهاب" سبيلاً سالكاً لممارسة كل أصناف القمع والتشبيح في مناطق سيطرته، ولتأجيل كل المطالب والحقوق، كذلك يرى الإسلاميون في مناطق سيطرتهم في "محاربة النظام العلوي المجرم" سبيلاً سالكاً للتهرّب من كل ما كان يأمل به الناس حال اندحار النظام. غير أن النتيجة هي أن الجمهور هنا وهناك يعاني الويلات من سيطرة "دولته". هذا الحال خلق في سوريا ماكينة تدمير ذاتي لانهائية طالما أن كل طرف في الصراع (النظام والقوى الإسلامية) يثبت لجمهور الطرف الآخر وبلا كلل إنه طرف انتقامي وإقصائي ولا يقيم وزناً لحياة الإنسان، فما بالك بحريته وكرامته؟
إذا كان طرفا الصراع يحركهما في الواقع السعي إلى السلطة أو تأبيدها، فإن هذه الحرب هي، من منظور الجمهور هنا وهناك، حرب دفاعية، يغذيها كما قلنا خوف جمهور كل طرف من إجرام السلطة الفاعلة في الجهة الأخرى.
ولا شك أن هذا الصراع الطويل أنتج فئة مستفيدة تعتاش عليه وتجعل منه وسيلة للثراء عبر كل الوسائل القسرية التي يمكن تخيلها فيما أسماه كارل ماركس يوماً "التراكم الأولي"، وهذا ما يؤدي إلى إعادة توزيع الثروة ضد مصلحة الناس المحكومين. كلّ وضع مديد يخلق آليات اقتصادية تتكيف معه وتغذي ديمومته، وهي ديمومة في غير صالح الناس على الجهتين، الناس الذين تحولت حياتهم إلى جحيم مادي ومعنوي (كان تقرير الإسكوا الصادر في سبتمبر/أيلول 2014 قد حذر من أن استمرار الصراع في 2015 سيدفع 90% من السكان في سوريا إلى تحت خط الفقر، وها هو يستمر كما نشهد).
إن استمرار الحال في سوريا على ما هو عليه بين نظام لا يريد أن يرحل ولا يستطيع أن يبقى، وقوى إسلامية لا تشكل في طروحاتها وممارساتها أي جاذبية للجمهور السوري (في الواقع تشكل صد يدفع إلى اليأس) وتحوز وحدها من بين القوى السياسية المتنوعة في سوريا على القوة العسكرية التي تقف في وجه النظام وتعجز عن إسقاطه، نقول إن استمرار هذا الوضع ينطوي على احتمال انبثاق حراك أهلي ضد الطرفين، يجمع الجمهور هنا وهناك، ضد ممارسات القهر التي يخضعون لها هنا وهناك. وتظهر بوادر مثل هذا الحراك في تزايد التذمر ضمن الوسط الموالي وتزايد عدد الصفحات الموالية التي تهاجم النظام ورئيسه من موقع العداء للإسلاميين، وذلك على وقع الفضائح العسكرية التي يجري الكشف عنها (كان آخرها فضيحة سقوط أو تسليم مطار الطبقة العسكري)، والتي تبيّن أن النظام يدفع جنوده للذبح الاستعراضي على أيدي تنظيمات تشبهه في دمويتها، لإقناع العالم بضرورة عدم التخلي عنه واعتماده كحليف في ضرب هذه التنظيمات. وتظهر البوادر أيضاً في مناطق سيطرة الإسلاميين في الاحتجاجات المتكررة، من موقع العداء للنظام، ضد استبداد الإسلاميين وممارساتهم القهرية. للحراكين روح شعبية واحدة في العمق، هي روح سوريا المتحررة الموّحدة التي يؤمل أن تخرج من السوريتين المقهورتين.
هذا، إن حصل سوف يعيد خلط أوراق الصراع على سورية الذي تنشغل به القوى المنخرطة فيه. وقد يكون هذا من عوامل التسريع في التوصل إلى تسوية ما في سورية.