بمجرد ما نشرت وكالة الأنباء الروسية الإعلان عن وجود خط ساخن بين القوات الروسية المتواجدة في مطار حميميم في اللاذقية وإسرائيل، حتى كان السوريون المعارضون على اختلاف مشاربهم وتنويعاتهم السياسية يتناقلون الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، متبعا بالسخرية والحزن والاستهزاء من محور الممانعة والمقاومة الذي طالما قدم بنفسه بوصفه يحارب إسرائيل ويدافع عن نظام مقاوم، وذلك وسط صمت مطبق للموالين.ِ
بدأ الأمر حين نقلت وكالة أنباء "إنترفاكس" عن الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية "إيغور كوناشنكوف" قوله أن "تبادلاً للمعلومات حول تحركات الطيران تم عبر إقامة خط مباشر بين مركز قيادة الطيران الروسي في قاعدة حميميم الجوية غرب سورية ومركز قيادة سلاح الجو الإسرائيلي"، وذلك بعد أن زار رئيس الوزراء الإسرائيلي فلاديمير بوتين روسيا، ليعلن من موسكو عن اتفاقهما على آلية لتنسيق العمل العسكري في سورية تجنباً لحالات "سوء الفهم" وحصول مواجهات.
وإذا كان الخبر تزامن مع الإعلان أيضا عن كون روسيا وأمريكا ستوقعان اتفاقا عسكريا مماثلا لتجنب صدام المقاتلات في السماء السورية، فسنكون أمام توافق روسي أمريكي إسرائيلي في السماء، مدعوما على الأرض بتوافق إيراني سوري ومساندة الميليشيات الفاعلة معهم على الأرض السورية (حزب الله، قوات الحماية الشعبية، الميليشيات الشيعية..) على رغم ما بين هؤلاء وأمريكا وإسرائيل من خلاف، إلا أن النتيجة النهائية تصب في خدمة المصلحة الإسرائيلية العليا، وهو الأمر الذي كان مفاجئا للسوريين المعارضين، إذ رغم اقتناعهم أن ثمة رضى إسرائيلي وتنسيق ما مع النظام سرا، إلا أنه لم يتوقع أحد أن تصل الفجاجة إلى هذا المستوى، من نظام وقوى حليفة له لم تتوقف يوما عن المتاجرة بقصة المقاومة والممانعة عند كل منعطف من الأزمة السورية، مع كيل التهم للمعارضين بأنهم يحققون مصلحة إسرائيل ويقاتلون إلى جانبها، وهو ما تجلى في قول الأسد أكثر من مرة، فبعد الغارة الإسرائيلية على دمشق في 2013 قال: "بعد الغارة، بتنا مقتنعين بأننا نقاتل العدو الآن، نلاحق جنوده المنتشرين في بلادنا"، في حين قال حسن نصر الله أن طريق القدس تمر في الزبداني!
وجاء اندلاع الانتفاضة الفلسطينية ضد المحتل الإسرائيلي وسط صمت ممانع ليزيد من مأزق محور الممانعة، إذ يقوم هؤلاء بقتل السوريين في كل مكان وسط إشاحة عما يحدث في فلسطين، لتصبح الممانعة أمام سقوط ورقة التوت الأخيرة، الأمر الذي ركز عليه المعارضون السوريون، إذ قالت الفنانة "مي سكاف": "روسيا وإسرائيل واحد، تفحصوا يا ممانعين، إذا فيكون عقل "، في حين خاطبت الشاعرة "رشا عمران" أصدقائها القوميين والممانعين قائلة: "المؤيدين للتدخل الروسي يلي بصفحتي من القوميين والمرعوبين شو رأيهن؟ بخص بالذكر القوميين العرب واليساريين بالعراق ومصر وتونس والجزائر والاردن. تعاون روسي اسرائيلي بما يخص سوريا واسرائيل حاليا عم ترتكب المجازر بالفلسطينيين، وانتو من المصفقين للتدخل الروسي بسوريا بذريعة انو رح يسقط المؤامرة الصهيواميركية !! بحياة ربكن اشرحولنا هي المعادلة لنفهم وجهة نظركن ؟!".
هذه المعادلة التي باتت معقدة فعلا في سورية، التي تحولت أرضها وسماءها إلى ساحة حرب بالوكالة للقوى الدولية، فثمة حرب بادرة جديدة بين روسيا وأمريكا، وثمة احتمال غرق روسيا في مستنقع أفغاني آخر، وثمة صراع إقليمي شرس بين تركيا والخليج من جهة، ومصر وإيران من جهة أخرى، ناهيك عن الصراع ضد الإرهاب والدولة، والصراع على مواقع النفوذ الجيوسياسية بما يعني ذلك من صراع على خطوط الطاقة، وخاصة الغاز، والصراع الإسلامي المدني، ما يعني أننا بتنا فعلا أمام لوحة معقدة، سترسم شكل الشرق الأوسط الجديد، ولهذا هي بعيدة عن الحل حتى الآن.
هذا التعقيد عبر عنه المعارض السوري "حازم نهار"، حين كتب: "محور "الممانعة والمقاومة" = بوتين + نتنياهو + خامنئي + السيسي + الأسد + العبادي + نصرالله/ الداعم الرئيسي للمحور = أوباما/ الداعمون الثانويون = محمد بن زايد + قابوس + الصباح + بوتفليقة + السبسي/ داعمون من حيث لا يدرون (أي على الضد من نواياهم المعاكسة للمحور) = أردوغان + سلمان + تميم/ متفرجون = رؤساء وملوك أوروبا/ مساعدون (جهلاً أو مكراً) = القوى والشخصيات المصنفة "معارضة" بألوانها المختلفة/ الهدف = القضاء على القسم الأكبر من الشعب السوري الذي طالب بالحرية والكرامة".
كيف يفكر العقل الممانع؟
رغم وضوح الرؤية وانكشاف الوقائع عبر تصريحات روسية لا مكان للشك فيها، ما يؤكد اندراج الممانعة وسط محور يخدم مصلحة إسرائيل أولا وآخرا، فإن البعض منهم لم يزل يعتبر نفسه ممانعا ومقاوما بوجه إسرائيل عبر اعتبار أن الأولوية اليوم لمحاربة إسرائيل، الأمر الذي يطرح سؤالا جوهريا عن كيفية تفكير العقل الممانع، إذ ما الذي يجعله يرفض الواقع ويتصوره على هذا النحو؟
من جهة أخرى، ثمة سؤال أخر، عن الفائدة التي تجنيها عقول "الممانعة" عن الاستثمار في ورقة الممانعة رغم احتراقها على هذا النحو؟
في الإجابة عن السؤال الأول، تحضر الأدلجة التي تغطي على العقل، حيث تحتل الإيديولوجية مكان المعرفة لتلغي كل الوقائع الحاصلة على الأرض، فيصبح العقل الممانع أسير إيديولوجيته الخاصة، يفسر الواقع بمقتضاها، ولا شك أن العقل الممانع ينطلق من بديهية تقول بأن النظام السوري مقاوم وممانع ويواجه الامبريالية الأمريكية، وهو يتعرض لإرهاب إسلاموي، ليبرروا له كل أفعاله تحت ستار ذلك، فـ "هنا "يشتغل العقل" داخل ذاته، لا يخرج لمعرفة الوقائع، ولا لتفسيرها طبعاً، بالضبط لأنه يمتلك الإجابات. فالواقع هو انعكاس للأفكار التي في "الذهن"، الأفكار الأيديولوجية التي تملأ "الذهن"، كما يقول المفكر سلامة كيلة في مقال له في صحيفة العربي الجديد(15اكتوبر 2015) حمل عنوان "ستار الإيديولوجية"، ليتابع قائلا: "من المعروف أن "الأيديولوجية الممانعة" تعتبر النظام السوري على حق، وأنه "معادٍ للإمبريالية"، وأن ما يجري مؤامرة عليه. بالتالي، لا حاجة لمتابعة الوقائع، أو التدقيق فيما يجري، أو وضع سياق لسياسات دول أو قوى. فهذه كلها ضد النظام السوري، وتعمل على إسقاطه"، ما يفسر لنا أسباب تفكير هؤلاء على هذا النحو.
في الإجابة عن السؤال الثاني، فإن السلطات التي تدعي الممانعة تدرك أن عقل هؤلاء مؤدلج بهذه الطريقة، وهؤلاء يشكلون شرائح كبرى تمتد من الداخل السوري إلى قوى يسارية وقومية في لبنان ومصر وتونس، وعليه فهي تبقي خطابها الممانع على حاله لإبقاء هؤلاء مشدودين إليها ودائرين في فلكها، فهي تدرك أن هؤلاء لا ينظرون في التفاصيل والوقائع التي تحدث عنها المفكر سلامة كيلة، ولهذا يستمر الخطاب الممانع في تقديم نفسه كذلك، ولو كانت الوقائع تقول غير ذلك، مستمدين خبرتهم من الحكمة الغوبلزية: "اكذب اكذب حتى يصدقك الناس ويقتنعون بما تقول"، وهنا تبدو مهمة هذه السلطات سهلة طالما من يصدقهم ويؤمن بكلامهم موجود سلفا كما شرحنا أعلاه، خاصة أن القضية الفلسطينية تحتل مكانة كبرى في ذهنية العرب والسوريين الذين طالما اعتبروا فلسطين قضيتهم الأولى، بدافع من وعي عروبي تكوّن مبكرا عن السوريين في مستوى أول، وبفعل متاجرة البعث بفلسطين وقصة الممانعة منذ تأسس ولا يزال، وهو ما ساهم في تكوين وعي سوري عروبي مقاوم حتى لو كان النظام يهدف منه الاحتواء لا المقاومة الحقيقية، حيث كان أغلب السوريين قبل الانتفاضة يشاطرون نظامهم موقفه من فلسطين، ويعتبرونه ممانعا، وهو ما عبر عنه المعارض "بكر صدقي" إذ قال: "شاعت بهاليومين صدمة لدى مؤيدي الثورة بخصوص انضمام إسرائيل لمحور الممانعة. السبب أن جمهور الثورة السورية كان، إلى وقت قريب، مشاركاً للنظام في بروباغندة (معاداة إسرائيل والإمبريالية)".
الانتفاضة الفلسطينية والثورة السورية:
إلا أن تزامن التصريحات الروسية أعلاه من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثالثة حيث يقاتل الفلسطينيون قوة الاحتلال الإسرائيلي بما تقع عليه أيديهم (سكاكين، حجارة، مقلاع، نقيفة، زجاجات حارقة) بعد أن وصلوا حافة اليأس من نكران العالم لقضيتهم ومطالبهم العادلة.. تزامن هذه الانتفاضة مع التصريحات السابقة زاد من مأزق الممانعة التي تجد نفسها صامتة أمام هذا التغوّل الإسرائيلي على أجساد الفلسطينيين وحياتهم، إذ لم يبق لهم إلا التضامن الفيسبوكي عبر تناقل صور المناضلات والمناضلين الفلسطينيين، الأمر الذي زاد غضب السوريين عليهم، إذ بيّن الأمر اذدواجية نظرتهم بين سوريا وفلسطين، فما يؤيدونه في فلسطين يرفضونه في سوريا، الأمر الذي دفع الكاتب "دارا عبد الله" للقول: "الممانعون السّفلة، الذين يقومون بمشاركة صور من انتهاكات الجيش الإسرائيلي المجرم طبعاً، ألا يخجلون؟. ما في ذوق أو حياء شوي؟. عشرات آلاف الفيديوهات من سوريا ما حرّك فيكم شي؟. لا يشرّف الفلسطينيون تضامنكم يا سفلة. أنتم في موقع المرتكب والمجرم في سوريا. لا تقتربوا من الضحايا في أمكنة أخرى"، في حين قال الفنان الفلسطيني السوري "هاني عباس" أن "مستوى الوقاحة قد يصل بمحور الممانعة بأن ينظم مسيرات شكر لـ ( اسرائيل ) ... كما فعلها شكراً لروسيا قبل أيام".
هكذا جاء هذا التزامن ليعري ازدواجية أهل الممانعة، وهو ما ركز عليه المعارضون، إذ قال "هاني عباس" بعد أن نشر صورة لفلسطينية بمواجهة المحتل الإسرائيلي ولسورية بمواجهة سلطة الاستبداد: "هكذا أفهم ما تبقى من حياتي . الشعب واحد. الحرية لا تتجزأ، المواقف لا تتجزأ"، وهو الأمر الذي أقدم عليه كثير من السوريين، الذين حيّوا الانتفاضة الفلطسينية، وهم يتذكرون بذات الوقت أيام انتفاضاتهم السلمية، عبر صور تجمع بين الأمرين، مؤكدين بذلك على أن معركة الحرية بمواجهة الاستبداد ومعركة التحرر بمواجهة المحتل تكملان بعضهما البعض.
سخرية رغم الألم:
رغم كل الألم واليأس، ورغم ذهاب سوريا والصراع فيها وعليها إلى مستويات لم يتوقعها أحد من قبل، فإن السوريين لم يفقدوا حس السخرية الذي طالما تمتعوا به، فالسخرية هي من جهة وسيلة مقاومة، ومن جهة أخرى هي تعبير عن عجز في العمق، إذ لم يبق للسوريين غيرها من وسيلة بعد أن خرجت سوريتهم من أيديهم، ينتظرون أن تقرر الدول والمحاور مصير بلدهم الذي يتمزق.
ضمن هذا السياق، كتب "دارا عبد الله" أن "الطيران الحربي الروسي ينسق مع الطيران الحربي الاسرائيلي، عقبال ما بنيامين نتنياهو، يستلم زاوية أسبوعية بجريدة الأخبار!."، في سخرية واضحة من محور الممانعة التي تعتبر جريدة الأخبار اللبنانية الناطق الرسمي باسمه، في حين قال "حازم نهار": "سمعت أن جريدتي (الأخبار) و(السفير) "المقاومتين" جداً في حاجة إلى "معارض" سوري "ممانع جداً" (قومي أو شيوعي) لكتابة مقالة بعنوان "الطريق الجديد إلى القدس"، والتي تبدأ من مطار حميميم وتنتهي في أرياف حمص وحماة وحلب ودمشق، بالتعاون بين بوتين والأسد ونتنياهو وخامنئي والسيسي ونصرالله، ويشترط في المقالة أن تركز على الرؤية المشتركة بين السابقين للإرهاب، وعلى تنسيقهم المشترك ضد "الإرهابيين" في سورية والقدس"، في حين اختارت الشاعرة "رشا عمران" أن تذهب نحو مكان آخر تماما حين تساءلت: "هلق الخط الساخن بين موسكو وإسرائيل هو نفسو تبع السيكس؟".
خاتمة:
رغم أن الممانعة تعرّت، وجاءها الإعلان الروسي عن الخط الساخن بمثابة ضربة على الرأس، خاصة أن حسابات الحليف الروسي الممتدة على كامل الساحة العالمية تختلف عن حساباتهم الضيقة، فإن الأمر كارثي على السوريين، لأن النتائج العملية لهذا الكلام ستزيد الحرب السورية تمزقا واشتعالا، وهذا دليل على أن "الممانعين" حققوا ما يريدون، فهم لا يخشون الفضيحة بقدر ما يخشون سقوط النظام، وورقة الممانعة التي سقطت عنهم اليوم، هي أحدثت لأجل هكذا لحظة، فهي حققت من خلالها بعض أهدافها (بقاء النظام حتى الآن مثلا لا حصرا) وحان وقت استنفاذها، بينما سورية تتمزق وتتلوى وتقف على شفير الهاوية!