لا يمكن لأحد أن ينكر أن مؤتمر فيينا أطلق عجلة قطار السياسة حول الأزمة السورية بعد طول توقف، فمنذ مؤتمر جنيف2 (22 يناير 2014) وصوت الحرب هو الأعلى لدى الطرفين، لغياب التوافق الإقليمي الدولي حول سورية، الأمر الذي انعكس حربا مدمرة على الداخل السوري، ما يعني أننا بتنا اليوم أمام توافق الحد الأدنى، إذ إن مجرد اجتماع هذه الدول حول طاولة واحدة يعني خطوة نحو الحل، خاصة بعد ضم إيران التي كان ترفض وجودها أطراف إقليمية ودولية كثيرة.
إلا أن خيبة أمل السوريين المتتالية منذ جنيف 1 و2 إلى مبادرات كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي وأخيرا ديمستورا تجعل من الصعب تصديق أن ما يحدث اليوم من حراك سياسي قد يفضي إلى شيء، خاصة أن الأمر ترافق مع تدخل روسي مكثف إلى جانب النظام وتصعيد عسكري مقابل من المعارضة مع إعلان معركة "تحرير حماة" وغموض لم يزل قائما بشأن أكثر الملفات حساسية وتراجع عن مبادئ جنيف2، والأفجع غياب السوريين عن المؤتمر: شعبا ومعارضة وسلطة ودولة!، ما يجعل مستوى التوقعات منخفضا، وهو رأي بعض المعارضين منهم رئيس تيار بناء الدولة السورية "لؤي حسين" الذي كتب على صفحته على الفيسبوك: "إذن، وبعد فيينا ٢، ما زال الأمر جعجعة من دون طحين. كما أن جميع التسريبات عن هذا المؤتمر لا أساس لها من الصحة. كذلك إن كان من الممكن عقد فيينا ٣ خلال المرحلة المنظورة القادمة، فلن يخرج منه أي طحين حتى لو رافقته جعجعة أعلى مما كانت عليه قبل أسبوع"، وهو ما خالفه فيه البعض على صفحته إذ رد عليه "سيد أسد" بالقول: "من الطبيعي أن صراعا دام حوالي خمس سنوات لن ينتهي باجتماع واحد، لكنني أعتقد أن هناك بصيص أمل".
سورية الغائبة:
أكثر ما أثار استهجان السوريين والخبراء والمحللين هو انعقاد مؤتمر فيينا الأول والثاني وسط غياب سوري فاضح، وكأن السوريين غير موجودين أو لا وجود لمن يمثلهم، الأمر الذي يصوّب أصابع الاتهام نحو النظام والمعارضة في آن، إذ كيف يرضى ضمير أي منهم أن يتم تجاهله والتعامل معه بمثل هذا الاستخفاف، وهو الأمر الذي تلقاه الشعب السوري بمرارة، بعد أن بات يرى حاله مجرد "غائب" عن مؤتمر يخصه، وهو الأمر الذي عبّر عنه السوريون بكثافة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن في الأمر إهانة شخصية لهم.
الإهانة والشعور بالخزي تجلى لدى السوريين بحضور دولة مثل لبنان ممثلة بوزير خارجيته "جبران باسيل" الذي طالما كان له مواقف معادية لثورة السوريين، ومخزية بحق اللاجئين السوريين في لبنان. وإن كان الأمر مبرر سياسيا، لأن لبنان دولة مجاورة لسوريا وتستضيف عددا كبيرا من اللاجئين السوريين، وبالتالي فإنه يحق لها الحضور كما غيرها، فإن الأمر عكس في جوانبه رؤية سورية سلبية لهذا البلد، كما للبنان رؤيته السلبية تجاه سورية، فكثير من السوريين يردون بطريقة تصغيرية لهذا البلد، ما يعكس رؤية لا تزال تنظر إليه على أنه لبنان كجزء من سوريا، إذ عادة ما يكون رد أحدهم: "الله على أيام كان الحاجز السوري يوقف كل لبنان"، الأمر الذي يعكس معضلات فكرية سياسية في أذهان الطرفين اللبناني والسوري لم تحل بعد. وهذا موضوع آخر.
الغياب السوري المؤلم عن المؤتمر، يعكس أولا انتفاء أي حس وطني للنظام، فهو أصبح مجرد ميليشيا فوضت أمرها لإيران وروسيا لتحافظا لها على بقائها وامتيازاتها بالسلطة ولو على خراب البصرة، في حين أن المعارضة السورية باتت مجرد أداة أيضا تستخدمها الأطراف الدولية والإقليمية وفق مصالحها المتعددة، ناهيك عن عجز هذه المعارضة عن الاتفاق فيما بينها حتى اللحظة رغم كل الدماء التي سالت في سوريا، فهي لم تزل معارضات مشرذمة، وهو ما جعلها تسقط من أعين السوريين الذين لم يعد أحد منهم يتابع تصريحاتها أساسا.
ولكن ثمة وجهة نظر أخرى أيضا، حيث أن المسألة السورية كفت منذ زمن طويل أن تكون سورية، فهي باتت تطرح مسألة العالم بأسره اليوم كما يقول المفكر السوري طيب تيزيني في مداخلة له ضمن مؤتمر "المجتمع والسلطة والدين في مطلع القرن 21 مغربا ومشرقا"، بحيث أن الأمر أكبر من طرفي الصراع السوري، لأن الواقع الجيوسياسي السوري واللحظة التي يمر فيها العالم كله اليوم بعد الربيع العربي ومسألة أوكرانيا وانسحاب أمريكا من الشرق الأوسط وتردد أباما وظهور داعش.. فرض هذه التحولات والتدخلات التي ما كان بإمكان أحد أن يوقفها أساسا، ما يعني أن مجرد حصول اجتماع (وليس توافق) الدول الإقليمية والدولية حول طاولة واحدة لمناقشة المسألة السورية هو خطوة أولى في طريق طويل، كان لا بد أن يحدث، إذ للمرة الأولى يتم وضع القطار على سكته الصحيحة ( وفق وجهة النظر هذه) لأن كل المبادرات السابقة كانت تتم بغياب هذا التوافق الدولي الإقليمي الذي أصبح عنصرا داخليا في الأزمة السورية أكثر من الداخلي أساسا نظرا لقوة تأثيره، وهو ما أفشل كل المبادرات السابقة، ما يعني أن لحظة وجود السوريين في المؤتمر قادمة بعد أن يتم ترتيب المائدة الإقليمية الدولية، إذ تقول "ريم تركماني" ضمن تقرير لصحيفة العربي الجديد حمل عنوان "سقوط دعوة روسيا لمباحثات حول سورية قبل حصولها" أن "قوة هذه الدول المتدخلة هي أكبر من قدرة السوريين مجتمعين، لذلك فإنه من المطلوب أن تتوافق هذه الدول في البداية كي تصبح راعية للحل وليس للأطراف .. من الضروري جداً أن يتم عقد اجتماع مثل فيينا"، موضحة أن "عدم وجود السوريين في أول جولتين من لقاءات فيينا هو دليل على أن المسؤولية الأكبر في إنهاء هذه الحرب هي على عاتق هذه الدول وليس على عاتق السوريين، لكن مع استمرار الجولات فسيكون من المهم جداً مشاركة السوريين في هذه الاجتماعات بشكل متوازن، فالأمر يتطور من محادثات لإنهاء الحرب إلى وضع الخطوط العريضة لمستقبل سورية، وهذا المستقبل لن يكون مستقراً ما لم يرسم ملامحه السوريون وهم الأكثر دراية بشعاب بلادهم وصراعاتها".
وجهة النظر هذه يؤكدها مسؤول غربي التقته صحيفة الحياة، إذ نقلت عنه في تقرير حمل عنوان "توسيع قائمة التنظيمات اللإرهابية، وعقد اللجان الأربع قبل فيينا3": "على محور موازٍ، يعكف دي ميستورا وفريقه على تطبيق البندين السابع والثامن من «فيينا-2» للعمل على «جمع ممثلي الحكومة السورية والمعارضة في عملية سياسية تفضي الى حكم موثوق وشامل وغير طائفي يليه وضع دستور جديد وإجراء انتخابات بادارة وإشراف الأمم المتحدة... طبقاً لأعلى المعايير الدولية للشفافية والمساءلة، وأن تكون حرة ونزيهة ويحق لجميع السوريين بما في ذلك من هم في الشتات"، الأمر الذي يعني أن ثمة تفاصيل يناقشها مؤتمر فيينا على عكس المؤتمرات السابقة، فهل يقيض لها النجاح فعلا أم تتبخر؟
مبادئ فيينا بدلا من مبادئ جنيف:
بين المبادئ التي أقرها مؤتمر فيينا، لوحظ وجود عبارة "الحكومة الانتقالية" التي تضم السلطة والمعارضة في حين أن مؤتمر جنيف كان تحدث عن "هيئة انتقالية حاكمة" تنقل لها كافة الصلاحيات، الأمر الذي طرح سؤالا لم يجد له جوابا بعد، هل ثمة تغيير في مرجعية التفاوض حقا؟ أم أن الأمر مجرد لبس لغوي؟
لا يبدو الأمر كذلك، فنائب وزير الخارجية السوري "فيصل المقداد" صرح من طهران قائلا: "نتحدث عن حوار وطني في سورية وحكومة موسعة وعملية دستورية ولا نتحدث نهائياً عما يسمى بفترة انتقالية"، الأمر الذي يشي بأن خلف الأكمة ما خلفها، خاصة بعد أن لاحظ المراقبون والخبراء والمحللون أن الموقف الأمريكي تراجع خطوة إلى الوراء، وبات أقرب للوسيط منه لحليف المعارضة، رغم أن مفردة "رحيل الأسد" لم تزل تتواتر على لسانها، وهو ما بات موضع تندر كلما لفظت هذه العبارة من مسؤول أمريكي، إذ قال جون كيري مؤخرا: "الطريق الوحيد لإنهاء الحرب يتطلب رحيل الأسد، لكنه أكد أن واشنطن تسعى الى توسيع التعاون مع موسكو في سياق التسوية السورية"، الأمر الذي يوضح كيف أن أمريكا تترك بات المساومة مفتوحا، ما يوصلنا أساسا إلى الصراع الروسي الأمريكي حول العالم وسوريا أحد محطاته، حيث قالت كل من "آنا بورشفسكايا و جيمس جيفري" في مقال لهما (المباحثات الجديدة حول سوريا تسلّط الضوء على بروز روسيا وتردد الولايات المتحدة) بمعهد واشنطن: "يمثل اجتماع 23 تشرين الأول/ أكتوبر في فيينا هزيمة للسياسة الأمريكية التقليدية القائمة في المنطقة منذ عام 1973، والتي تتحمل بموجبها أمريكا وحلفائها المسؤولية الأساسية لمواجهة التهديدات التي يتعرض لها السلام. وتشكل هذه الهزيمة نتيجة حتمية لتردد إدارة أوباما في استخدام القوة العسكرية اللازمة في سوريا - وقد تَمثل ذلك أولاً في الإحجام عن التهديد بتوجيه ضربات ضد نظام الأسد عندما استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه، وبعد ذلك في الحد من الضربات ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» على الرغم من تعهدها بـ "تدمير" هذا التنظيم. وفي الوقت نفسه، إن ذلك لا يعكس فقط وجود عسكري ميداني روسي في المنطقة، بل تشكيل تحالف روسي ناشئ مع إيران أيضاً".
حل سياسي أم سايكس بيكو جديد:
التفاؤل الحذر الذي أشاعه المؤتمر تزامن مع تصريحات لرئيسي أجهزة الاستخبارات الأمريكية والفرنسية، تقول بأن شكل الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى، الأمر الذي يطرح سؤالا مخيفا: لم هذه المفاوضات إذن؟ وهل هي مجرد تغطية فقط لتمرير سايكس بيكو جديد؟ وهل هذا ما يفسر غياب السوريين عن المؤتمر؟ ليتم الإتيان بهم في النهاية كشاهد زور للتوقيع على ما تريده تلك الدول؟
التأمل في لوحة الشرق الأوسط الجديد المعقدة، ومعرفة أن سوريا باتت مشكلة العالم كله كما قال المفكر طيب تيزيني والحديث عن انتقال الروس والأسد والإيرانيين إلى الخطة ب التي تقتضي الانسحاب نحو معاقل الأسد التقليدية في الساحل لوضع أسس دولة.. كلها معطيات قائمة على الأرض وقابلة للتحقق، كون المسار العسكري لم يزل قائما، وكون الروسي دخل المعركة أساسا لينتصر لا ليهزم. وإذا تأملنا مسار الأزمة السورية منذ بدايتها لجهة المؤتمرات التي عقدت والحراك الدبلوماسي الذي جرى، فسنرى أن الأخير لم يكن فعليا إلا تغطية على ما حصل ويحصل على الأرض، فهل القوى الدولية سائرة بنفس السيناريو؟
دعونا نبدأ، من القوى التي تقف إلى جانب المعارضة السورية، فأمريكا باتت أقرب للحياد ودور الوسيط، وهي تعلن انسحابها تدريجيا من مسائل الشرق الأوسط وإن كانت تعود إليه تحت ضغط التدخل الروسي عبر مساعدات من هنا وهناك للمعارضة، إلا أنها تبقى قاصرة عن حسم الأمور أو معرفة ماذا تريد إدارة أباما حقا، ما يعني أن الأخيرة بترددها مساهم عملي فيما حصل ويحصل وربما هو هدف أمريكي أن تتحول سوريا إلى مستنقع روسي إيراني يغرق فيه كل خصوم واشنطن وإسرائيل التي ستدفع باتجاه التقسيم أيضا لأن سوريا مقسمة إلى دول طائفية يجعل من إسرائيل اليهودية دولة مقبولة في جغرافيا المنطقة التي ترفضها حتى الآن.
من جهة أخرى، فإن الدافع الأساسي لتدخل دول الخليج الاستبدادية ليس الحرية ولا الديمقراطية ولا حقوق السوريين، فسوريا بالنسبة لهم مجرد ورقة صراع ضد إيران أولا، ومجرد حائط صد بوجه الربيع العربي عن دولهم، فكلما غرق الربيع السوري بالدم والعنف والتطرف والتقسيم ابتعد الربيع عن هذه الدول، التي إن خيرت بين سوريا ديمقراطية علمانية وبين التقسيم أو الحرب الدائمة في سوريا، فلا شك أنها ستختار الأخيرة.
تركيا العائدة بقوة اليوم بعد تمكن حزب العدالة والتنمية من الفوز في الانتخابات النيابية لن تفرط بحصتها السورية بسهولة، فلها هدفان أولهما منع تشكل "دويلة كردية" أو "حكم ذاتي كردي" يؤثر على أكرادها، وأن يكون لها دور في صياغة مستقبل سوريا، دون ذلك ستدفع باتجاه المنطقة العازلة ورعاية مصالحها بعيدا عما يقرره الآخرون.
بالنسبة لإيران، فهي أساسا تدفع منذ البداية لتحول سوريا إلى كانتونات طائفية، عبر العمل الممنهج على تغيير الديموغرافية السورية، إذ عملت منذ البداية على إنشاء جيوش ظل لها ومناطق نفوذ وميليشيات طائفية كي تكون قادرة على الإمساك بسوريا المفيدة حين تحين ساعة الحسم أو "سايكس بيكو الجديد".
روسيا بدورها تعمل على إنقاذ مصالحها، فهي رغم إصرارها على أن سوريا يجب أن تبقى موحدة وعلمانية وحامية للأقليات فإنها حين لن تتمكن من تحقيق سوريا التي تريدها، أو التوصل إلى تفاهم مع الدول الكبرى فإنها ستضطر للقبول بسوريا المفيدة. وهنا إذا راقبنا سلوك روسيا في عهد بوتين، سنجد أنها لم تتردد يوما في رعاية التقسيم حين تجد أن مصالحها تتهدد ولعل ضم القرم مؤخرا والهجوم على جورجيا عام 2008 ورعاية بعض الدول الصغرى في محيطها دليلا واضحا.
يعني ما سبق أن رياح التقسيم ليست بعيدة عن سوريا رغم كل الحديث المنمق عن سايكس بيكو جديد، دون أن يعني ذلك أنه أمر قائم بكل حال، إلا أنه يبقى احتمالا قائما، حال لم تتوصل الدول إلى حل لخلافاتها المعقدة والمتداخلة والمتشابكة في سوريا؟ ويزيد الأمر غموضا أن الأمور غير واضحة حتى لمن يفكر باحتمالات هذا الأمر، وهو ما عبر عنه الكاتب السوري الفلسطيني "غازي دحمان" في مقال له (مؤتمر فيينا.. إعادة صياغة) في العربي الجديد جاء فيه: " ولعل من المفارقات العجيبة أن هذا الشرق الأوسط المراد نشوءُه لا تملك أي من القوى المتدخلة القدرة على تظهيره، وفق رزنامة زمنية محددة. لذلك، تعتمد على الفوضى المديدة كآليات تشغيلية، بالإضافة إلى تزخيم الواقع بمزيد من التعقيدات التي يمكن استثمارها في تظهير هذا الواقع الجيوسياسي، من نمط الإصرار على عدم حل عقدة الأسد، وتركها تتفاعل دينامية تشغيلية تساهم في صناعة الواقع المرتجى.على شكل تسريبات من هنا، واستشرافات من هناك، وبخجل وكثير من التقية المتعمّدة، يجري الحديث عن هذا النمط الجيوسياسي المراد تأسيسه، لا أحد يجرؤ على القول المباشر، ربما لعدم امتلاك جميع الأطراف التصور الواضح عن حدود هذا التشكّل وماهيته، والأكيد لأن اكتمال إنجازه يحتاج إلى الكثير من الدماء واللحم الحي. وفي هذه الحالة، سوف تشكل المؤتمرات الشبيهة بمؤتمر فيينا واحدة من الآليات التشغيلية، نظراً لما توفره من مساحة مهمة للمناورات الدبلوماسية، فيما الميادين والجبهات تعمل على إنجاز الصياغة. المهم أن الصراع جرى تأطيره بشكل نهائي على أنه صراع سني- شيعي، وكل البيانات السابقة لن تستطيع إعادة هيكلته، طالما أن روسيا وإيران تصرّان على بقاء بشار حافظ الأسد".
وخلف الصراع الكبير بين القطبين الدوليين ، ثمة صراعات ثانوية داخل كل محور، فالمصالح الروسية الإيرانية ليست دائما على نفس الخط، والمصالح التركية السعودية أو التركية الأمريكية ليست على ذات الخط أيضا، ما يعني أن كل طرف سيستغل الساحة السورية ليدفع بالأمور نحو أن يقترب الحل من رؤيته التي يريدها، وحتى يحصل ذلك ستتشظى سوريا إلى "سوريات" متعددة (وهي كذلك اليوم)، لتذهب نحو التقسيم لاحقا أو نحو الوحدة ثانيا، فأين وكيف سيحصل ذلك؟
استنادا لما سبق، يمثل مؤتمر فيينا غطاءا دوليا لتلك القوى لتضع كل منها مشروعها موضوع التنفيذ، وهو ما نراه في تتالي الاجتماعات الدبلوماسية حول سوريا بالتوازي مع تسارع وتيرة العسكرة على الأرض، الأمر الذي يعني أن سوريا خلال المرحلة القادمة ستشهد محاولة لهندسة الأرض والواقع السوري لتناسب مقاسات الدول المجتمعة في فيينا، بدءا من تحديد من هي القوى المعارضة المعتدلة التي ستدمج بالجيش النظامي بعد الحل، إلى الإسلاميين الذين يمكن إدماجهم في الحل أيضا سواء عسكريا أم سياسيا، وليس انتهاءا ببناء الجسم السياسي الذي سيجري تركيبه على ما سبق.
وإذا قرأنا الواقع على ضوء القوى العسكرية السورية (موالاة ومعارضة) وارتباطاتها الإقليمية، سنعرف كم تبدو تلك الهندسة معقدة وصعبة التركيب، فروسيا تعمل على استغلال الوقت لضرب أكبر قدر ممكن من المعارضة المعتدلة كي لا تتضطر أن تدمجهم بالجيش النظامي الذي يعتبر تاريخيا إحدى خطوطها الحمراء في سوريا منذ أيام الاتحاد السوفياتي، في حين يعمل خصوم موسكو على دعم هؤلاء ليكونوا رعاة مصالحهم في سوريا الجديدة، ناهيك عن تعقيدات الملف الكردي وموقع الرئيس وهوية الدولة وصلاحيات الحكومة الانتقالية أو الهيئة وتشكيل وفد المعارضة وآليات إجراء الانتخابات.. وقس على ذلك من مسائل يشكل كل منها "قنبلة موقوتة" فكيف إن اجتمعت كلها على طاولة واحدة؟
سوريا الجديدة!
تشبه المرحلة التي تعيشها سوريا اليوم، مرحلة سابقة من تاريخها، إنها مرحلة الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي بعد رحيل العثمانيين وولادة سوريا باتفاق سايكس بيكو، فيومها لم تكن سوريا ولدت إلا على الورق، وكانت الثورة ضد الفرنسيين في عنق الزجاجة كما هي اليوم، لغياب قوى وطنية قادرة على فرض إرادتها، إذ كان السوريون آنذاك ( كما اليوم) موزعون بين المحاور الدولية والإقليمية، ومتضادين في رؤيتين حول سوريا الأولى يمثلها الشهبندر والثانية يمثلها خط الكتلة الوطنية ( القوتلي ومردم بيك) قبل أن يتحد الطرفان لاحقا ثم ينفصلا، إذ أدى فشل الثورة إلى الدخول في عملية سياسية مع المنتدب الذي تهرب من استحقاقاته طويلا إلى أن تغير المناخ الدولي في الحرب العالمية الثانية فخرجت فرنسا وبدأت سوريا عمليا تتجه نحو وحدة دولها الطائفية منذ عام 1936 بعد أن كانت المعارضات السورية نضجت خلال هذا المسار.
كما كانت سوريا موزعة آنذاك بين دول طائفية فرضها الفرنسيون لتسهيل هيمنتهم وذلك بالتفاهم مع قوى تقليدية كان لها دور ومصلحة في هذا التقسيم، فإنها اليوم موزعة عمليا بين مناطق نفوذ، فالشمال الشرقي تحت همينة الكرد والشمال السوري خاضع للنفوذ التركي والجنوب السوري للنفوذ الخليجي و"سوريا المفيدة" للنفوذ الإيراني الروسي، وهذا يحصل بالتوازي مع عملية سياسية فرضت للتو، ما يجعلنا نرجح أن سوريا ستعيش مرحلة طويلة بين ضم وانقسام في ظل الوحدة إلى أن تولد "كتلة وطنية" سورية جديدة قادرة على النهوض بمهمات البناء التي فشلت فيها النخبة السورية، أو ربما تنتظر سوريا رجال من نوع فارس الخوري الذي افتقده وبكاه المفكر "طيب تيزيني" في محاضرته التي تحدثنا عنها في الأعلى، فهل تحبل الأرض السورية بهم أم أنها باتت في طور الخروج من الجغرافيا والتاريخ والثقافة في آن؟