في بيت أحد الصحفيين العاملين بمجلة "لو بوان" الفرنسية، كنا نتحدث مساء الجمعة عن مقابلة راديو "فرانس أنتير"، والتي حاورتني فيها الإعلامية حول سوريا والإسلام والمنفى، كانت الحلقة قد انتهت للتو، وأنا أتأهب لمغادرة السهرة، سمعنا صوت المذيع بخبر عاجل، مقتل العشرات في ساحة "الجمهورية" وشارع "شارون" والملعب الرياضي، الرئيس في الملعب، ثمة انفجار قرب صالة "باتاكلان"، خلال دقائق، لم تعد عقولنا تستطيع تتالي الأخبار بهذه السرعة، طلبتُ من صديقي الصحفي أن نذهب لنرى ما يحصل، أجابني بأنه ليس مجنوناً ليخرج في هذه الساعة، غادرت وحدي مستذكراً أن السوري اعتاد على الحرب، وأنها أصبحت جزءاً من يومياته.
معظم محطات المترو مغلقة في باريس، والناس تهرول باتجاه بيوتها، الرئيس أعلن حالة الطوارئ وإغلاق الحدود، كل هذا حدث في ساعة واحدة، كما لو أننا نعيش حرباً أهلية، حيث تتضارب الأنباء ولا نفهم شيئاً، لكن ما حدث خلال اليومين اللاحقين فاق التوقعات، لا سيما مِن قِبل مَن ينظُرون بعين واحدة، لا شك في أن هذه الهجمات هدية ثمينة لـ"مارين لوبين" التي تنتظر الانتخابات البلدية في غضون ثلاثة أسابيع، سيفوز حزبها اليميني المتطرف "لو فرون ناسيونال" بأغلبية ساحقة، في حين أن اليسار الفرنسي استمر في تصريحاته القائلة بأن هذه الهجمات لا تمثل الإسلام، ولا نعرف مَا الفرق بين تصريحات هذا "اليسار" وبين بيان هيئة علماء المملكة العربية السعودية.
أما بالنسبة إلينا كسوريين، ومع أننا نعيش أحداثاً مشابهة منذ ما يقارب الخمس سنين، فلم يبدُ أننا قد "تعلمنا من كيسنا"، كم مجزرة وقعت في سوريا وكان ضحاياها من أبناء طائفة معينة؟، لتنطلق على إثرها دعوات القتل والثأر والانتقام والتحليلات المتضاربة التي تختفي بعد أسبوع من الحدثِ مخلفة آثاراً لا تُمحى من الكراهية؟!
من الطبيعي أن نكون قد تعلمنا بعد كل تجاربنا المأساوية أن التصريح في لحظة الحدث يؤدي إلى ثمنٍ غالٍ، فالدم الذي لم يبرد في هذه اللحظة يتفوق على الحكمة، إزاء ذلك، ولتفادي أي صدام بين الشرائح الغاضبة في المجتمع الفرنسي، أطلقت الحكومة نداء إلى وسائل الإعلام مفاده التأني الشديد وعدم إعطاء الفرصة لأيٍ من المتطرفين بتقديم أي تصريح من شأنه أن يؤجج المزيد من الاحتقان.
من جانب آخر، وعلى كثرة تواجد السوريين في فرنسا، وخصوصاً في باريس، فإنه لم تتم الدعوة حتى الآن إلى تجمع رسمي واحد للتضامن مع الضحايا، والتعاطف مع أهلهم، ونعلم أن هذا أكثر ما يحتاجه الفرنسيون منا، كون حكومتهم قد وقفت مع الشعب السوري منذ بداية ثورته، وكانت الوحيدة المطالبة في اجتماع فيينا الأخير برحيل بشار الأسد، حتى في ساحة الجمهورية، حيث وقف الآلاف دقيقة صمت حداداً، شاهدنا أعلام فرنسا ولبنان والمغرب وغيرها، ولم نشاهد علماً سورياً واحداً، أو لافتة تمثل إحدى التجمعات السورية في فرنسا.
المجتمع الفرنسي ليس متجانساً، ولن يتضرر اللاجئون السوريون مما حدث إذا تعاملنا مع الموضوع بكثير من السياسة والقليل من العواطف، ما نفتقده وسائل إعلام قوية بلغات عدة، تخوض معارك إعلامية ذكية وموظفة، كي لا يكون العرس في دوما والطبل في باريس، فـ"دوما" وحدها تضامنت مع الضحايا بطريقة فاعلة عبر رفع اللافتات والتظاهر، لكن صوتها يضيع في جعجعة لا تُحصى من التصريحات.
سبق وأن صرخ الفرنسيون إثر مجزرة شارلي إيبدو بعبارة "با دو مالغام"، ومعناها "لا لخلط الأمور"، عندما مزق شاب وفتاة المصحف في إحدى المظاهرات بباريس، لكنهم وبعد هذه الهجمات البربرية لم يصرخوا بها، وبغض النظر عن السياسة الفرنسية وأخطائها، فإن الفرنسيين يتعلمون من تجاربهم، في حين أننا لم نزل مصرين على أن نكون حقول تجارب.