واحدٌ وأربعون عاماً، أمضاها السوريون وهم يتلقون دروس الولاء اليومية لشخص الأسد الأب، ومن بعده الإبن، الولاء القسري الذي أصبح قوت السوريين اليومي في المدارس والجامعات والوظائف وحتى في المساجد.
واحدٌ وأربعون عاماً، كان العنوان الوحيد خلالها لحياة السوريين هو ذلك الإله البشري الذي تُقدّمُ له فروض الطاعة والتبجيل، فإمّا الإيمان بهذا الرّجل، وإمّا الأفرع الأمنية وبئس المصير.
ليست سوريا بالتأكيد هي موطن ظاهرة عبادة الفرد أو الأفراد، إلا أنها كانت دون شك من أبرز الدول التي طُبّقت بها تلك الظاهرة في القديم والحديث، الظاهرة التي ظهرت بشكلها الأبرز منذ العصور القديمة لدى الفراعنة ومن بعدهم الفرس والرومان، واستمرت الى عصور متتالية حتى العصور الوسطى عندما انتزع رجال السياسة في أوروبا السلطة من يد الكنيسة ونقلوها إليهم تحت اسم « العناية الإلهية » لتصبح الكنيسة سلطةً رمزيةً فحسب، ولتستمر العبادة على حالها مع تغير المعبود فقط.
في القرن الماضي، برز الشرق كأكثر بقاع العالم تميزاً بهذه الظاهرة، بدءاً بستالين الاتحاد السوفيتي مروراً بماو في الصين وأخيراً وليس آخراً الأنظمة الشمولية العربية وآلهتها التي فاقت آلهة الفراعنة شهرةً وجبروتاً.
في سوريا، عرفت البلاد بعد الاستقلال نماذج مختلفة من الجبروت السلطوي الذي قارب فكرة التأليه بشكل أو بآخر ، كان ذلك في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وتحديداً في الفترة التي سيطر خلالها الجيش والعسكر على الحكم في البلاد، وما رافق ذلك من انقلابات متعددة كان آخرها انقلاب حزب البعث في عام 1963 الذي أثمر عن تسلم حافظ الأسد حكم البلاد في عام 1970، ليعلن نفسه الإله الجديد للسوريين.
تنطلق فكرة ألوهية الفرد بالدرجة الاولى من مزيج مابين مشاعر العظمة أولاً، وشعور مناقضٍ خفي بالنقص لدى الفرد إضافة إلى القلق من تجارب سابقة ربما تكون قد حدثت لأسلافه، وهو بالضبط الوضع الذي وجد به حافظ الأسد نفسه به على رأس دولةٍ عرفت عشرات الانقلابات في غضون عقدين فقط من الزمن، ودائماً، وبالنظر إلى التجربة الستالينية وما تبعها، فإن نجاح حاكمٍ متأله، لا بد وأن يقف ورائه الطرف القمعي والاستبدادي الذي طبّقهُ الأسد من خلال عشرات الأفرع الامنية والمخابراتية التي سلطت سيوفها على رقاب السوريين، في تخيير صريحٍ لهم بين الإيمان بهذا الشخص كمصير لا مهرب منه، أو المصير الآخر مجهول النهاية.
واستمرت تلك الخطة لترسخ سلطة الحاكم الأب، ومن بعده الابن إنما بشكل مختلف، فكان الاله الجديد بمظهره العصري المتمدن الذي يركب الدراجة ويأكل في المطاعم بين الناس ويوصل أبناءه إلى المدرسة، الإله «المودرن» سعى لفرض سلطته بشكل مختلف عن أبيه، ومع اختلاف الأسلوب بقيت النتيجة واحدة أمام السوريين، الايمان أو الهلاك.
واندلعت الثورة السورية، وأدرك الجميع في الخارج قبل الداخل أنها بداية زوال أسطورة الخلود الأسدي. وكان ما توقعه الجميع، وبدأ الإله الأسدي بالتلاشي لتظهر عشرات الآلهة من بعده، آلهة بأشكال متعددة منها العسكري ومنها الديني ومنها المتطرف ومنها المفكّر، في إشارة إلى جديدة إلى تلاشي الإله وصمود الظاهرة، ليكون المرء إلهاً بشرياً، يحتاج إلى عدة ركائز لألوهيته، تلك الركائز يمكن جمعها في مثلث أضلاعه هي السلطة، القوة ، والإعلام. ولعل فقدان عنصري القوة والسلطة هو وراء فشل المفكرين والكتاب الساعين نحو الألوهية. ومن جهة أخرى، وبينما نجد اليوم في سوريا عشرات المجموعات المقاتلة على اختلاف أرضياتها وتوجهاتها، فإنه ليس من المستبعد أن نجد شخصاً كزهران علوش مثلاً قائد جيش الإسلام قد بدأ بالسير على خطى الأسد (عدوه الظاهري فقط)، في جعل نفسه ربما إلهاً على من تبعه سواء أكانوا مقاتلين انضموا إلى جيشه، أو مؤيدين عبر الفايسبوك وبعض مواقع التواصل الاجتماعي.
الملفت للنظر أن هذا الإيمان لدى الاخيرين إيمانٌ طوعيٌ وليس قسرياً، وتأليهُ ذلك الرجل والدفاع عنه وحتى شتم كل من يتعرض له بكلمة قد أصبح مسألةً ظاهرةً للعيان. فعلى سبيل المثال، ضجّت وسائل التواصل الإجتماعي منذ أسابيع قليلة بموضوع وصور الأقفاص التي احتوت رهائن علويين لدى جيش الإسلام، وتم نصبها على أسطح المنازل في دوما و في الطرقات تحت ذريعة منع الطيران الروسي وطيران النظام من قصف المدينة.
لن نتحدث عن خلفيات هذا العمل من قبل جيش الإسلام، والهدف الحقيقي من القيام به، فجيش الاسلام كما نعرف يأتمر بأمر مجلسه العسكري الحاكم الناهي الآمر بكل شيء، لكن لنخرج من الدائرة العسكرية لجيش الاسلام ولنسلط الضوء قليلا على الدائرة الشعبية من أنصار علوش وجيش الإسلام. وبنظرة سريعة إلى ردود الفعل لدى الاخيرين، والتي كانت من قبيل: «يحق لزهران علوش القيام بما يريد، فهو ثائر ضد النظام الأسدي ويجب أن ندعمه»، أو في تعليق آخر «من يجب أن يعترض عليه أن يحمل السلاح ويحارب كما فعل علوش، وإلا فليصمت»، وغيرها الكثير من التعليقات التي تدافع عن الشخص بحد ذاته بغض النظر عما يفعله، ولا تدافع عن فعله، لتذكرنا صفحات التشبيح الأسدية التي دأبت على ترداد تلك العبارات بذات النبرة إنما مع اختلاف الشخص المقصود وهو الأسد، وهنا، تبرز عدة أسئلة أمام هذا المشهد تستحق النظر، هل يظن هؤلاء اننا نعيش في المدينة الفاضلة ليمتنع النظام أو طيران بوتين عن قصف الأحياء تلك فقط لأن هناك علويين حياتهم مهددة بالخطر؟ وهل كان النظام يسأل عن حياة مؤيديه يوماً؟ وكم من الجنود العلويين قد تم التخلي عنهم وتركهم محاصرين في وحداتهم العسكرية؟
إلا أن السؤال هنا هو: هل أصبح زهران علوش فرداً منزّهاً عن النقد إلى درجة أن من يعترض على سياساته يُتهم بالتخوين والتخاذل وألف صفة اخرى؟
حين نتحدث عن تلك الحادثة وشخص علوش، فإننا نطرح مثالاُ ما هو إلا غيضاً من فيضٍ وحادثةً من آلاف الحوادث التي تحاول أن تنسي السوريين أن ثورتهم في بدايتها قد حطمت تماثيل الأسد وأحرقت صوره، ومن ثم أجهزت على أسطورة خلوده وسموّه وعظمته، وكما أن للسلاح اليوم دورٌ في فرض الذات على الغير، فإن اللوم يقع أولاً على الإعلام الداعم لتلك الظواهر، الإعلام الذي بدأ تحت مسمى «بديل» وأصبحَ بمعظمه مع الأيامِ إعلاماً مأجوراً يهدف إلى تجميل صورة هذا القائد أو ذلك الشيخ وطرحه كمخلص لا بديل عنه للشعب، معيداً إلى أذهاننا ما دأب إعلام نظام الأسد على فعله لعشرات السنين.
ليس من المبكر الحديث اليوم عن محاربة المعتقدات والإيمان المطلق بمن هم في مراكز السلطة والقوة اليوم على اختلاف خلفياتهم، فنظرةٌ سريعةٌ إلى الأرض تثبت لنا أن عبادة الأفراد « بمفهوم الإله البشري» هي ظاهرةٌ لا تزال تلازم السوريين حتى اليوم ولا بد من النظر إليها بكل جدّي ومدروس، الجولاني والبغدادي وعلوش والأسد ومخلوف وطلاس و صالح مسلم و القائمة تطول، أسماءٌ بات المساس بها لدى نسبة ليست بالقليلة أمراً مرفوضاً تحت أي مسمّى، وتم تنزيهها عن النقد وعصمها عن الخطأ بسياسة واضحة تكاد أن تجعلنا نعتقد أن السوريين قد تركوا تمجيد الأسد ليمجدوا غابةً كاملةً من الأسود.