أين هي الثورة السورية اليوم؟ أين موقعها في الحرب الدائرة على الأرض السورية؟ من يمثلها اليوم؟
لغتان تشغلان جزءاً مهماً من الرواية السورية الراهنة، إحداهما يمكن تسميتها "لغة المؤامرة"، وهي تنصرف في كل تنويعاتها إلى فك ما جرى ويجري منذ منتصف آذار 2011، عن حقوق السوريين المشروعة في الخلاص من الاستبداد الساعي إلى تأبيد ذاته. في أحسن صيغة من هذه اللغة يبدو أن الأمر "الثورة السورية" في مجمله لا يتجاوز كونه تركيب مؤامرة (أمريكية، اسرائيلية، خليجية، تركية، الخ) على مطالب مشروعة. كان هذا قول الأسد في أول خطاب له أمام مجلس الشعب بعد اندلاع الثورة (30 آذار 2011). ومع تطور الحدث السوري راح منحنى هذه اللغة يهبط، وأخذت "المطالب المشروعة" تتلاشى لتنغلق اللغة أكثر وتتمادى في المطابقة بين كل عناصر الحراك وتضعها جميعاً في خانة عدائية واحدة، فيصبح المعارض السلمي في خانة المسلح، والمعارض العلماني في خانة الداعشي، وجميعهم في خانة الخيانة، وليس أقل. مع جاهزية نفسية وسياسية تامة لاعتبار هذا المركب كله (عناصر الحراك كافة) كتلة واحدة معادية، ما يمهد لقبول أي مصير مهما يكن لأي من مكوناتها، دون استثناء المدنيين بالطبع (حصار، تجويع، قصف، اعتقالات، موت في السجون..الخ).
أنتجت هذه اللغة اغتراباً تاماً عن المجتمع الآخر، قطيعة نفسية شبه كاملة مع ذاك المجتمع الذي "ظهر على حقيقته": يميل "طائفياً" إلى دول الخليج، ولا يحمل العداء لإسرائيل ويستعين بأميريكا ..الخ. ليس لدى أهل هذه اللغة أدنى عذر لمن "خان وطنه" و"ارتضى الأجنبي" ..الخ. وبلغ التعبير الأعلى عن رفض هؤلاء، أن شاع تشبيه طالبي الحماية، سواء من الجامعة العربية أو من الأمم المتحدة، بمن يقبل العار لأمه نكاية بأبيه. دون أن يتمكن أهل هذه اللغة من رؤية ما يدفع هؤلاء لطلب الحماية. فلا تبدو يوميات الأهالي على يد النظام السوري، من الموت والدمار والإصابات والحصار والجوع وأشكال العوز، سوى "قسوة أب".
بهذه الحجة التي تقوم على أرضية من المخزون السلبي المتراكم لدول الخليج في الوعي السوري العام، ثم من الموقف العام السلبي إزاء التدخلات الخارجية عموماً والأمريكية خصوصاً، يحيّد أصحاب هذه اللغة طبيعة النظام السوري كسبب أساسي للحراك، ويحيّدون بطشه الفظيع كسبب أساسي لبحث السوريين الثائرين عن مساندة خارجية. ويصبح الصراع مختزلاً بين الدولة من جهة والإرهاب من جهة أخرى، هذا الاختزال الذي يبتلع كل شيء، بما في ذلك أعمال الإبادة.
واكب تطور الحدث السوري تبلور لغة مقابلة اعتبرت نفسها "لغة الثورة"، هي في الواقع مقلوب اللغة الأولى. لغة مترفعة ونزقة، استمدت صفتيها هاتين من وضوح الهدف "إسقاط النظام" والتصميم عليه، مع قلة الاكتراث بالوسيلة أو الطريقة. الشعور الذي ساد باقتراب الهدف، أعفى أصحاب هذه اللغة من الانشغال بالوسائل ونقدها. ومع تعثر بلوغ الهدف، تعثرت هذه اللغة ولكنها سعت إلى إخفاء تعثرها في الحفاظ على نبرة إيمانية راحت تتلون بصبغة مأساوية ثم هزلية مُرّة مع مرور الوقت.
الشيء الذي حافظت عليه اللغتان هو الاستهانة بالآخر من حيث الحقوق ومن ضمنها الحق في الحياة. لغتان مشبعتان بالسياسة إلى حد الاستهتار المتبادل بمعاناة الناس هنا وهناك. فريق يرى خراب العالم في سقوط النظام، ويعمى عما سوى ذلك. يبدو له كل عمل يساند النظام ويمنع سقوطه، هو عمل مقبول ومحمود وبطولي، ولا تبدو له جرائم هذا العمل، إذا بدت له، سوى آثار جانبية في سبيل الغاية الأسمى.
بالمقابل، يرى الفريق المقابل خراب العالم في استمرار النظام، ويعمى عما سوى ذلك. كل عمل يساهم في إسقاط النظام يبدو عملاً ثورياً من أي جهة جاء. وإذا سمح هذا الفريق لسؤال بديهي أن يخترق تحصيناته النفسية، مثل: هل يسقط النظام إذا جاء سقوطه على يد تنظيم القاعدة مثلاً؟ ، يكون الجواب دائماً: ليسقط النظام ثم نرى.
على ما في تباعد سياسي حاد بين هاتين اللغتين، ثمة تقارب إلى حد التطابق بينهما فيما دون السياسة. في المادة الأساسية للحياة، في احترام حقوق الآخرين في الاعتقاد والتعبير وفي الأمان وفي الحياة أيضاً بصرف النظر عن لون السلطة السياسية وأشخاصها. وهذا ما يؤشر إلى وجود فراغ كبير في المستوى ما دون السياسي في المجتمع، هو الفراغ الذي يحيل قيمة أي تغيير سياسي إلى ما يقارب الصفر. المجتمع الذي ينام طويلاً على ضياع حقوقه الأساسية، ثم ينتفض فجأة ليجعل من تغيير السلطة مفتاحاً لحل كل شيء، سيجد نفسه نائماً على ضياع حقوقه الأساسية من جديد.
السؤال الذي يمكن طرحه من زاوية وطنية عامة، هل يمكن تحويل هذا التطابق ما دون السياسي بين اللغتين، من كونه تطابقاً تنافرياً يتنكر فيه كل طرف لحقوق الآخر طالما أنه يخالفه سياسياً، إلى كونه تطابقاً جامعاً؟ هل يمكن تحويل الحقوق الأساسية إلى نقطة التقاء نبني عليها جسماً وطنياً فيه من التماسك ما يجعل من الصعب على السياسيين، بصرف النظر عن ألوانهم وشخوصهم، العبث بالحقوق الأساسية للناس؟ أن ننظر في الحقوق الأساسية للناس بمعزل عن السلطة السياسية القائمة؟ أن نقول مثلاً: لا يهمني أن تكون سلطتك يسارية أم يمينية، لا يهمني ما تقول، يهمني أن لا يتم الاعتداء على الحقوق الأساسية للناس. هل يمكن نشوء تنظيمات ما دون سياسية بعد أن أشبع المجتمع السوري بالتنظيمات السياسية التي يرى كل إلى نفسه على أنه نبي الخلاص؟ تنظيمات دون سياسية لا تبحث عن السلطة ولا تريدها، لكنها تقاتل ضد انتهاك حقوق الناس، تنظيمات يمكن أن تتنوع وتتعدد تنوع وتعدد حقوق الناس، في العمل والتعلم والسكن وحرية التعبير ومعقولية الأسعار قياساً على الدخل وعدم التعسف في الاعتقال وفوق هذا وذاك، الحق في الحياة.
هنا تكمن اليوم روح الثورة السورية. هنا وليس في مؤتمرات الدول واجتماعات الساسة حيث جل ما يجري هو توزيع الحصص، والتفاهم على أسس جديدة لهدر حقوق السوريين من جديد. نتوهم حين نظن أن السياسيين، كل السياسيين، يحملون لنا الخلاص ما لم نحمله بأيدينا.
والعمل على بناء هذه التنظيمات ما دون السياسية، تنظيمات الحقوق الأساسية، هو اليوم العمل الثوري الفعلي. وقد يكون العمل الإغاثي الذي ينظر إلى حقوق الناس الأولية بعيداً عن التمايزات السياسية أو غيرها، هو نواة يمكن استلهامها لمثل هذه التنظيمات التي تشكل المعنى الفعلي للمجتمع المدني الذي جرى سحقه بدأب لعقود خلت، وفي هذا يكمن ما يمكن تسميته بناء السياسة من تحت.