أصبح الحديث الأكثر انتشاراً اليوم، بل الهاجس الأكبر عند السوريين يكمن في تساؤلهم ومخاوفهم من سوريا مستقبلية يحكمها التطرف والتشدد بظواهره التي نراها اليوم واضحةً للعيان على بقاع كثيرة من الأرض السورية.
كثيرون يمنحون فضل نشوء مجتمع سوري منفتح على بعضه ومتقبل لكافة مكوناته إلى النظام السوري الأسدي الذي طرح نفسه (نظاماً علمانياً) منذ وصوله للحكم في عام 1970. ولن أتحدث هنا عن تلك البروتوكولات الشكلية التي اعتمدها الأسد في تعيين كبار مسؤولي الدولة ( وزير الخارجية – وزير الدفاع – رئيس الحكومة ...) من الطائفة السنية عند استلامه الحكم ، لتكون بذلك دليلاً على علمانيته، ومثالاً على النموذج الذي طرحه لدولة العيش المشترك، والتي أثبتت الأيام بطلانها بل ونقيضها تماماً. إلا أن السؤال المطروح هو: «متى كانت سوريا دولة شعبها من المتطرفين والمتشددين؟ وما هو حال سوريا دينياً وتعايشياً قبل حكم الأسد الأب؟».
لو عدنا بالزمن ما يقارب المائة عام قبل انقلاب الأسد (الأبيض) عام 1970، وتحديداً إلى عام 1878م، تلك الحقبة التي لمع بها اسم رائد المسرح السوري والعربي الغنائي أبي خليل القباني، والذي أسس فرقةً مسرحيةُ هي الأولى في سوريا يومها. نال القباني في تلك المرحلة إعجاب ورضا شرائح كبيرة من الناس، (وحديثنا هنا عن المجتمع الدمشقي)، وعرفت عروضه المسرحية إقبالاً شديداً من مختلف الشرائح الدمشقية، بل ومن ريف دمشق وغوطتها أيضاً. العدو الاكبر للقباني كان الشيوخ وعلماء الدين في دمشق، والذين رأوا في القباني رجلاً كافراً ببدعه التي أسموها فيما بعد (التشخيص)، وألبوا الناس ضده وحرضوا الوالي العثماني عليه لايقافه ومعاقبته.
اليوم، لا ذكر لهؤلاء المشايخ، ولا يعرف إلا من ندر من السوريين أسمائَهم، من بقي حاضراً في أذهان السوريين هو القباني، ولا زالت أغاني وموشحات ( ياطيرة طيري ) و ( صيد العصاري ) على ألسنة السوريين حتى اليوم. وهذا إنما كان مثالاً على سبيل المثال لا الحصر في توضيح الطبيعة الداخلية للشعب السوري بأغلبه، كشعب منفتح على كل جديد، قادر على التعايش مع الغير وتقبّل الإبداع، إنما سطوة المتشددين والأصوليين هي ما تلعب دوراً في كثير من الأحيان، وهم ذاتهم من وجدوا في القباني (السني الطائفة) رجلاً ملحداً مرتداً لا بد من ردعه وعقابه.
بعد تلك الواقعة بما يقارب الخمسين عاماً، وربما للمصادفة أن يتعرض حفيد أبي خليل القباني الشاعر نزار قباني لحملة شعواء استهدفته بعد نشر ديوانه الأول (قالت لي السمراء) والذي عد وقتها تمرداً على المجتمع والدين في مضمونه، قام الأصوليون بإيصال اعتراضهم عليه للمجلس النيابي السوري وأصبح موضوعاً للنقاش في جلسات المجلس، صراع قباني مع الأصولية استمر وصولاً إلى الهجمة الواسعة التي تعرض لها واتهامه بالزندقة من قبل أصحاب (الذقون المحشوة بغبار التاريخ) حسب تعبير القباني. وعموماً، وكما هو الوضع الطبيعي، فالقباني بقصائده هو من ظل باقياً بقصائده في أذهان السوريين، وليس أصحاب الذقون المغبرة.
هو صراعٌ تاريخي لصبغ المجتمع السوري بصبغة أصولية تحارب الإبداع والفكر المتحرر، وقد فشلت في كل مراحلها التي استمرت إلى يوم استلام الأسد الأب كرسي الحكم في سوريا. ما تغير بعد عام 1970 في البلاد كان تجميد دور المشايخ والسلطة الدينية بشكل شبه كلي، بقرار سياسي وأمني من الأسد الأب، القرار لم يكن نابعاً من بئرٍ علمانية أو هادفاً لإحلال التسامح في المجتمع السوري، بل كان بدايةً لمرحلة عبادة الفرد التي عمل الأسد على توطيدها في المجتمع السوري يوما بعد يوم وعاماً بعد عام. فهو من يحلل ويحرم، ويسمح ويمنع، ويوافق ويرفض. ولم تكن العلمانية المزعومة إلا مطيةً للوصول إلى أسطورة القائد الخالد الذي تسير البلاد بأمره وقراره.
لقد زالت سطوة الأصولييين ربما في فترة حكم الأسد، إلا أن أصوليةً من نوع آخر هي الأصولية السياسية سيطرت على تفاصيل حياة المجتمع السوري، هذه الأصولية نجحت لعشرات السنين في فرض شبحها الأمني والتخويفي على الناس، إلا أنها كانت في الوقت ذاته نقطة توحد ورائها السوريون بمعظم شرائحهم وانتمائاتهم وتوجهاتهم خلفها، كان الرفض الصامت لهذه الأصولية السياسية يتراكم يوماً تلو الآخر، وبدا من الواضح مع الوقت رغم صعوبة تخيل ذلك أن هناك يوماً سيتفجر فيه هذا الصمت صراخاً يغير وجه سوريا تغييراً جذرياً، وينتقل بالبلاد إلى مرحلةٍ تكون سمتها الأبرز تحطيم الاستبداد المتمثل بتلك القيود الأصولية أياً كان شكلها ومعدنها ودعاتها.
وجاء ذلك اليوم، واندلعت في سوريا ثورة طالبت بالحرية والعدالة والمساواة، لم تكن الثورة عند انطلاقها ثورة سنية ولا شيعية، لم تكن عربية ولا كردية ولا آشورية، كما لم تكن مسلمة أو مسيحية. كانت ثورة سورية رفعت شعار الشعب السوري الواحد منذ بدايتها معلنة بداية النهاية لشبح الاستبداد الأسدي، ومفقدةً النظام صمام الأمان الذي كان يحتمي خلفه.
ولم يجد النظام بداً من إعادة إطلاق مظاهر التشدد والتطرف التي كان قد منعها لمصلحته في وقت سابق. كان لا بد من إكساب الثورة طابعا تطرفياً تخويفياً يخيف به من في الخارج قبل من في الداخل صانعاً معادلة «إما انا وإما الإرهاب التكفيري».
وقد نجحت هذه المعادلة إلى حد ما، لكن ليس كما كان يرتجي النظام منها. إلا أنها ساهمت ولا شك بإطالة أمد الثورة بشكل أو بآخر خصوصاً بعد انتشار عشرات الآلاف من المقاتلين التابعين لجماعات متطرفة ومتشددة (النصرة – داعش – جيش الإسلام ... إلخ).
ما الذي ساهم في انضمام أعداد ليست بالقليلة من السوريين إلى تلك التنظيمات؟
هل هي قابلية المواطن السوري بطبعه للانخراط ببيئة متشددة؟
تاريخيا لا شيء يثبت ذلك، لن نسير خلف شعار الإسلام المعتدل الذي تبجح به النظام السوري مراراً وكأنه هو من زرع الاعتدال في نفوس السوريين، إلا أن العيش المشترك كان تاريخيا سمةً في سوريا تميز مجتمعها عن كثير من المجتمعات الأخرى. ولا نتكلم هنا بالتعميم بكل تأكيد فلكل قاعدة استثناء، والاستثناء السوري بدا واضحاً في الثمانينات في سوريا إضافة إلى وجود الميول التعصبية في كثير من المناطق السورية، إلا أنها لم تكن يوماً رغم تعصبها ذات توجهات إلغائية أو تكفيرية أو ذات ممارسات إرهابية.
في زمن الحرب يتغير كل شيء، يتغير المنطق وتتغير الحسابات وحتى المبادئ والقيم والمفاهيم. ويبدأ زمن تصفية الحسابات ويصبح شعار «الغاية تبرر الوسيلة» الخاطئ مضموناً وفعلاً شعاراً مباحاً لدى الكثيرين، فهل يمكن أن نجزم أن كل من انضم لتنظيم متشدد هو بطبيعته مؤمن بمبادئ وأفكار وعقلية هذا التنظيم؟ قد يكون الجواب نعم بالنسبة لنسبة كبيرة، غير أن هناك نسبة لا يمكن تجاهلها ممن نالت الحرب منهم ومن أهلهم وعوائلهم وكل ماكان لهم وعندهم ذات يوم. ووجد هؤلاء في التنظيمات تلك ملاذاً ربما لنيل حقوقهم التي اغتصبت من قبل نظامٍ لا مكان عنده لكلمة الرحمة. وهذا بالتأكيد ليس تبريراً ولا دفاعاً عمن سلك هذا المسلك، إلا أن الإنصاف يقتضي أن ننظر بكلتا العينين نظرةً واقعية لهؤلاء، فضحية الحرب لا تكون قتيلا أو جريحاً، بل قد تكون مضللاً ومغرراً به في كثير من الحالات. وكما أنه لا يجوز إسباغ صفة الإرهابي والمؤمن بعقيدة الإرهاب على كل هؤلاء، لا يجوز أيضاً إسباغ صفة التشدد والأصولية على السوريين ككل، ولا يجوز تسمية الثورة بتسميات من قبيل (الثورة الأصولية) أو (السلفية) أو حتى (الثورة السنية). هي الثورة السورية كما بدأت وكما ستبقى، وزوال الأصولية الأسدية والأصولية التكفيرية هي ولا شك قادمة لا محالة وبزوالها ستكون بداية العودة إلى سوريا حرة متسامحة تستوعب جميع أبنائها مهما طال انتظار ذلك اليوم. وسيبقى شعار (الشعب السوري واحد) باقياً كما بقيت أغنية (يا طيرة طيري) رغماً عن أصحاب الذقون المحشوة بغبار التاريخ.