قرروا أن يبقوا مجهولين، دون اسم ولا انتماء ولا كيان، فقد علمتهم دروس الثورة أن الأسماء تستلزم الولاءات، وبالتالي يصبح العمل من أجل الاسم وليس الهدف، يفاجئوننا بين الحين والآخر بأنشطتهم وإبداعهم دون أن نعرف من هم، ونتساءل: بعد خمس سنوات من الحصار الأمني والقمع والدمار، العسكرة والتدخل الدولي في سوريا، كيف يكمل هؤلاء النشطاء الطريق؟.
في الذكرى الثالثة للثورة السورية، عام 2014، اجتمع ثمانية وأربعون شاباً وفتاة مِن مَن كانوا ينشطون في مجموعات متفرقة منذ بداية الحِراك، وقرروا أن يعيدوا إحياء الأنشطة السلمية في قلب دمشق بعد أن كانت على وشك الوأد بسبب تفرق المجموعات وهجرة أو اعتقال كثير من الكوادر، كما يؤكد الناشط أبو وائل الشامي لـ(حكاية ما انحكت)، وكانت أول فعالية لهم إحياء ذكرى الثورة في ذلك العام برفع لافتات في العاصمة.
الوضع الأمني وعدم وجود هيكل واضح لهذه المجموعة أديا إلى صعوبة التواصل معهم، إلا أن أنشطتهم وحدها تدل عليهم، فبعد إحياء ذكرى الثورة بدؤوا بدعم الحملات التي تنطلق في مدن أخرى عن طريق التنسيق معها وتفعيل نشاطها في العاصمة، تقول روز الدمشقي إحدى مؤسسات المجموعة لـ(حكاية ما انحكت) إنهم أثناء حملة "أنقذوا البقية" التي سلطت الضوء على المعتقلين، نشروا صوراً على شكل نقود عليها من إحدى الجهتين عبارة لدعم أحد المعتقلين، كذلك حملات "أنقذوا حلب"، و"انتخابات الدم"، و"استنشاق الموت"، فقد كانوا يستغلون انطلاقها لإيصال صوتهم وصوتها عن طريق نشرها في شوارع دمشق.
تعتمد هذه المجموعة في أنشطتها على الجهد الداخلي بشكل كامل، ولا تتلقى دعماً من أية جهة، فكيف يستطيع أعضاؤها أن يوائموا بين أعمالهم اليومية لكسب العيش وبين أنشطتهم؟، تجيب روز بأن الثورة أصبحت بالنسبة إليهم، ومع مرور الوقت، أسلوب حياة وليس عملاً إضافياً، فقد كانوا سابقاً يقضون أيامهم بين المظاهرات وإعداد الأنشطة، أما اليوم فقد وصلوا إلى يقين بأنهم هم الثورة والثورة هم، إن توقفوا توقفت.
يتواصل مؤسسو المجموعة الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و30 عاماً عن طريق حسابات وهمية على الإنترنت، ولأنهم يعرفون بعضهم على أرض الواقع منذ بدايات المظاهرات فإن هذا سهل عليهم عملية التفاهم التنسيق، كما أن أغلبهم جامعيون.
يختم أبو وائل حديثه بالقول إن المسؤولية تجاه رفاقهم الضحايا والمعتقلين الذين عملوا معهم منذ البدايات دفعتهم إلى عمل المستحيل لإعادة الثورة إلى رونقها، ولو عبر أنشطة بسيطة، فالمهم الاستمرار انتظاراً لظروف أفضل، وأملاً بغد أجمل.
هؤلاء المجهولون اليوم، والذين لا نعرفهم إلا بأعمالهم، هم البوصلة التي نعرف أنفسنا من خلالها، هم افتراضيون، مع أنهم الأكثر واقعية بثورتهم، سرِّيون، ووحدهم يعلنون أن دمشق لم تمت، ويوماً ما، عندما يزول الاستبداد، وتشرق شمس الحرية، ربما نكتشف أسماءهم، وربما لا، فأمثالهم يعملون ويصمتون، يغيرون التاريخ ويمضون.