كثيرة هي الأسئلة التي أطلقها موت سمير القنطار من خلال استهداف المبنى الذي كان يقطن فيه في مدينة جرمانا السورية الواقعة بالقرب من دمشق، مع معلومات غير دقيقة حتى اللحظة حول الطريقة التي قتل فيها، بين من يقول أنه قتل باستهداف الطائرات الإسرائيلية له كما أكد الأمين العام لحزب الله "حسن نصر الله" في خطاب ألقاه بعد اغتيال القنطار، وبين من يقول أن المعارضة السورية استهدفت البناء، وبين من يقول أنه ذهب ضحية تفاهمات دولية على وقع الحوار الدولي الجاري اليوم حول المسألة السورية في عواصم العالم.
كل طرف من هذه الأطراف يسعى لتبني رواية مقتله وفق الطريقة التي تخدم مصالحه، فحزب الله وإيران يصرون على فرضية قتل إسرائيل له، كي تعزز موقع المقاومة المهتز اليوم، في حين يؤكد النظام السوري على فرضية مقتله على يد المعارضة السورية، لكي يربط بين المعارضة وإسرائيل من جهة، معتبرا المعارضة مجرد "مشروع إسرائيلي"، وكي يتلافى الإحراج الذي تسبب به مقتل القنطار للنظام من خلال اختراق إسرائيل للسيادة السورية، وعدم قيام الروس بمنع الطيران الإسرائيلي من ضرب الأجواء السورية، في حين يرى المقتنعون بأن المسألة السورية برمتها باتت في يد المجتمع الدولي، أن هذه التصفية تأتي استجابة لتفاهم روسي إسرائيلي أوربي أمريكي لتنظيف سوريا من كل ما من شأنه أن يعيق المسار المرسوم لسوريا.
بعيدا عمن استهدف البناء، ثمة أسئلة وقضايا كثيرة طرحها موت القنطار، وتداول بها السوريون وتساجلوا على وسائل التواصل الاجتماعي حولها، الأمر الذي كشف عمق الانقسام الحاصل حول قضايا كان يفترض أن الثورة وضعتها وراءها، إلا أن الأمر كشف أنها لاتزال فاعلة، بدءا من مسألة المقاومة ودورها، إلى مسألة الشهيد وموقعه وعما إذا كان يمكن اعتبار القنطار شهيدا أم لا، وليس انتهاءا بموقع فلسطين لدى السوريين ودور القوى الخارجية في الأزمة، إذ كان مقتل القنطار مرآة أرتنا ما يعتمل في دواخل الناس، بما يظهر لنا تعدد مواقف السوريين من الكثير من القضايا، وهو الأمر الذي رأى فيه البعض مرضا، حيث قال الطبيب "نور الدين ناصر": " وفي كل حادثة وموقف ينقسم السوريون من جديد ... ويزداد الشرخ اتساعاً وعمقاً. السوريون الذين لا تؤطرهم حتى الآن قوى سياسية عاقلة، تحركهم غرائزهم الشخصية وردات فعلهم الثأرية العفوية . بعد زمن سيكون كل سوري حالة فريدة لوحده !هل يستطيع العالم تحمّل 23 مليون مفكر وفيلسوف وناقد ومحلل!".
شهيد أم قتيل!
لا يمكن لأحد أن ينكر موقع الراحل سمير قنطار في أذهان السوريين قبل الثورة، ولا يمكن لأحد أن ينكر مكانة القنطار كمقاوم للاحتلال الإسرائيلي، إذ قضى الرجل عقودا طويلة في المعتقل قبل أن يتمكن حزب الله من تحريره عبر صفقة تبادل، ليحتفي به السوريون آنذاك كواحد من المقاومين الأبطال. إلا أن مواقف القنطار من الثورة السورية واندراجه ضمن إطار حزب الله وذهابه إلى سورية للقتال إلى جانب قوات الأسد، وظهوره على الشاشات معلنا موقفه إلى جانب النظام ضد المعارضة، وفي مواقع القتال السورية، بدءا من دير الزور البعيدة جدا عن مواقع إسرائيل التي قيل أنه يحاربها من سورية إلى القنيطرة السورية، إلى اعتباره كل من يرفع السلاح في سورية يخدم المشروع الإسرائيلي.. كل هذه المواقف باعدت تدريجيا بين القنطار والسوريين المعارضين الذين باتوا يأسفون على تحولاته ويكيلون له النقد لوقوفه ضد طموحهم بالحرية، حيث قالت الشاعرة "رشا عمران" أن "سيرة حياة سمير قنطار تصلح لأن تكون رواية عن آلية تحول بطل إلى مرتزق رخيص"، في حين احتفى به المؤيدون للنظام إيما احتفاء، موظفين رصيده في مواجهة إسرائيل لدعم موقف الاستبداد السوري، وهو ما انعكس واضحا في مواقف الطرفين من وفاته، حيث اعتبر المؤيدون أن الرجل مات شهيدا طالما أن إسرائيل استهدفته، فقال عضو مجلس الشعب السوري الشيخ أحمد شلاش: "والله وكسرتلي ضهري يا صاحبي.. سمير.. يا ريتني كنت معك"، دون أن يتوقف أمر رثائه عند المؤيدين فقط، حيث اعتبر الشاعر "هاني نديم" أن "اسرائيل النذلة قتلت سمير القنطار المناضل الكبير الذي قضى عمره في سجون الاحتلال .القنطار الذي قاد عملية فدائية وهو ابن 16 عاماً ليحكم بخمسة مؤبدات، عاش ومات مناضلاً.. الأمر مشرف ويرفع الرأس وفي سياق تاريخه النضالي المجيد. المخزي حقاً.. أن طائرةً اسرائيلية وصلت عقر دارنا مرة أخرى وأخرى وأخرى.. وقتلته في دمشق. هل قلت عقر دارنا؟ لك آخ"، وهو الأمر الذي كان مثار جدل بين المؤيدين أنفسهم، إذ تساءل أحدهم: "ليس مهما كيف وصل الطيران الاسرائيلي الى جرمانا، السؤال كيف عرفوا أن سمير القنطار هنا"، مع تلميحات وصلت حد الحديث عن تواطؤ روسي في الموضوع.
المؤيدون للثورة السورية لم يروا في القنطار شهيدا، بل ذهب بعضهم حد شتمه وتخوينه، إلا أن أقسى رد على القنطار جاء من قبل المناضل السوري "ياسر خنجر" والذي قضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي زمنا عاصر خلاله القنطار، إذ قال: "عشت ثمانية أشهر في غرفة واحدة مع سمير القنطار، كان ذلك عام ١٩٩٩ في سجن نفحة. كنت أتمنى لو أنه اكتفى بمكانته المعنوية كأقدم سجين أمني لبناني في سجون الاحتلال، وكنت أتمنى لو أستطيع الاحتفاظ بصورته تلك. إسرائيل عدو واضح وصريح للشعب السوري، كذلك داعش وبشار الأسد، لا يمكن لمن يقف في صف أي قاتل أن يحصل على تعاطف الضحايا، نحن الضحايا. وحدها دمعة الفقد من عين أمٍ تحزنني اليوم، وحده من لم يناصر قاتلاً يوماً يُحزنني فقده"، في حين قال "مخلص ونوس" ساخرا من موت القنطار: "درهم شرف أحسن من (قنطار) ممانعة"، في حين قال المعارض والسجين السياسي السابق "ثائر ديب" مؤيدا موقف القنطار، وساخرا من المعارض السوري "ميشيل كيلو": "في نهاية كلّ حساب: القنطار قنطار، والكيلو كيلو".والمقارنة هنا مع "كيلوات" حقيقية، تعلم وتعمل عامدة وبوعي مؤذٍ على الفصل بين مسألة التحرر من الاستبداد والمسألة الوطنية، أمّا النفايات التي تتصهين وتصفق لإسرائيل بقوة البلاهة من دون أن تدرك من أمرها شيئاً، فمعاذ الله أن تكون مقصودة".
هل كان القنطار "يقاوم" في سورية؟
مقتل القنطار الذي أعلن النظام وحزب الله أنه كان يقاتل إسرائيل من سورية وليس النظام أثار جدلا حول مدى صحة هذا الكلام، وحول المقاومة نفسها، حيث اعتبر البعض أن مقتل القنطار على يد إسرائيل يأتي تأكيدا على أنه يقاوم إسرائيل ضمن ما عرف بالمقاومة الوطنية في الجولان السوري المحتل، في حين اعتبر البعض أن مقتله في مدينة "جرمانا" وبعيدا عن جبهة الجولان يسقط عنه صفة المقاومة، حيث قال "كريم الفنان أن "الحديث عن مقاومة القنطار يشبه إلى حد بعيد الحديث عن مهنية المرتزقة غسان بن جدو وعبدالباري عطوان وجورج قرداحي.. كلهم قتلة ومأجورين تحت عناوين مقدسة... لابد من هتك المقدس لفضح المدنس"، في حين اعتبر "أحمد كامل" أن "نهاية سمير القنطار، صورة عن نهاية حسن نصر الله. سمير القنطار لبناني درزي قام بعملية ضد العدو الإسرائيلي عام ١٩٧٩ عندما كان عضواً في جبهة تحرير فلسطين قتل خلالها طفلة عمرها ٤ سنوات واعتقلته اسرائيل، أفرج عنه عام ٢٠٠٨ بصفقة تبادل بين اسرائيل وحزب الله، وصار نجماً من نجوم الحزب، وبعد تفجر الثورة السورية صار جزاراً للسوريين المطالبين بالحرية. واليوم قتل في سورية وهو يقود ميليشيا طائفية درزية سماها "المقاومة السورية لتحرير الجولان" وهدفها وعملها الحقيقي استخدام الشباب الدروز في قتل المطالبين بالحرية في سورية. نفس قصة حزب الله وحسن نصر الله"، في حين قال المخرج "مأمون البني": "استقبلت دمشق الأسير المناضل سمير القنطار بعيد أيام من اطلاق سراحه كبطل الأبطال لأن زمان دخوله لسجون العدو كان زمناً ممانعاً بحق و حقيق. و لم يخبر أحد سمير أن زمان الأول قد تحول و أن الممانعة صارت امتناع و المقاومة أصبحت مساومة. و ها هو القنطار يتحول بدوره من مناضل في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية إلى قاتل في صفوف الممانعة حاملا مفتاح فردوس حزب الله".
إن عدم فتح النظام السوري لجبهة الجولان، إلا بعد أن تهدد عرشه يثبت زيف هذه المقاومة وفق البعض، حيث قال أحدهم "لم تفتح جبهة الجولان على مدى أربعين عام من وقت احتلالها، ولم يحاول حزب الله بيوم فتحها من وقت تأسيسه وفترة الغزل بينه وبين النظام السوري، بل أكثر من ذلك حاول مجموعة من الشباب الفلسطيني تشكيل حالة تنظيمية عسكرية، ولدى محاولتهم تنفيذ عمليتهم الأولى مطلع التسعينات من الجولان قام النظام بإعتقالهم وعذبوا حتى شارفوا على الموت والآن هم أحياء بإمكانهم أن يقدموا شهادتهم للتاريخ".
ثار جدل كبير بين أطياف المعارضة ذاتها أيضا حول مقتل القنطار، حيث اعتبر البعض أن القنطار مقاوما، مطالبين من يعتبره أنه غير مقاوم بدليل يثبت قتله أو قتاله السوريين، قائلين أنه كان بمهمة تشكيل مقاومة سورية وحرب إسرائيل لا غير، ليرد عليهم المعارضون بأن تصريحات الرجل وإطلالاته الإعلامية كافية كدليل، لأن اعتبر كل من يرفع السلاح بوجه إسرائيل هو يخدم إسرائيل ما يعني أنه يعتبر المقاومة ونظام الاستبداد واحدا، وهو ما دفع "أبو سلمى خليل" للقول: "راح أفترض إنه السوريين اللي شارك بقتلهم كانوا حجر العثرة بطريقه وهو رايح يحرر فلسطين و الجولان وجنوب لبنان، وخليه حررها يا سيدي وهينا عم نضب أغراضنا لنرجع..يلعن روحه من بين الشهدا...بس بيعز علينا إنه اللي قتلوه أعداءنا كمان.. والله يشل أرحام نسائهم".
القنطار ولعبة الدول:
البعض رأى أن مقتل القنطار يعكس خريطة الصراع الإقليمي الدولي في سوريا وعليها، فقد يكون الرجل ذهب ضحية تفاهات الخصوم على نقاط معينة، في ظل الحركة الدبلوماسية التي تجري حول سورية اليوم، خاصة أن التقارب الروسي الإسرائيلي حول الساحة السورية لا يخفي نفسه، حيث قال أحمد عيساوي أن "سمير القنطار هو أول ضحايا زيارة علي مملوك للأردن. اجتماع مخابراتي سوري-أردني-اسرائيلي في عمّان أطاح بسمير القنطار ضمن حلقة من حلقات المواجهة الروسية والسورية ضد الحليف الإيراني. قريبا سينتحر علي مملوك برصاصتين في رأسه. الأمور لا تُقرأ إلا في هذا السياق بعيدا عن الهوبرة والشاعرية والكيدية"، في حين قال "خالد حاج بكري": "لأمر ما.. قتلت إسرائيل سمير القنطار بعد العمادة الأممية في مجلس الأمن لبشار الأسد وعصابته.. بيومين!"، بينما قال "عماد غليون": "إذا أردت معرفة أين وكيف قتل سمير القنطار ... عليك معرفة أين وكيف قتل عماد مغنية ... ؟ القنطار مجرد نمر من ورق .... لماذا قتلته اسرائيل وهل ينهي قتله سرا "ما"؟
خاتمة:
بعيدا عن مقتل القنطار كفرد في معركة مفتوحة مع الكيان الإسرائيلي أو من قبل قوات المعارضة، فإن السجال الدائر كشف عن عمق الخلاف بين السوريين، وعن متانة موقع قضية فلسطين رغم كل انشغالهم بالقضية السورية، والأهم أنه كشف عن عمق الإيديولوجيات الضدية التي لم تزل تحكم ذهن قسم لا بأس به من السوريين المعارضين وهو ما يساعد في بقاء النظام بطريقة أو بأخرى لأنه لا يمكن التخلص من النظام كبنية سياسية قبل التخلص من الذهنية والعقلية التي أنتجته، وهذا ما يستغله النظام ليبقى، ولذلك يصر دائما على تقديم نفسه بأنه "مقاوم" و"ممانع" بوجه إسرائيل رغم أن جبهة الجولان لم تفتح يوما، ورغم أن الطائرات الإسرائيلية لم تتوقف عن العربدة في سماء سورية منذ بداية الثورة السورية.. ولم لا؟ طالما هناك من يصدق هذا الكلام أو بتبناه!