شكلت حرب تشرين 1973، نقطة انطلاق أو محطة تأسيسية لمذهبين سياسيين من التعايش مع إسرائيل. الأول هو المذهب المصري الذي سار باتجاه الصلح المنفرد، وما نجم عنه من مقاطعة عربية، ولكن دون رفض شعبي مصري مؤثر (حتى في ثورة يناير الشعبية العارمة التي أطاحت بالرئيس المصري حسني مبارك 2011، لم يكن لاتفاقية كامب ديفيد أي حضور بارز). والثاني هو المذهب السوري الذي اختار (مضطراً على الأرجح) نهج الاستمرار في العداء، والاستثمار في مشاعر الرفض الشعبية لإسرائيل فيما عرف لاحقاً بنهج الممانعة. كلا النظامين، في مصر وسورية، أسس لاستمراريته بطريقة مختلفة، بالاستفادة من تلك الحرب التأسيسية. خدمت المبادرة العربية الأولى بالحرب على إسرائيل، والموقف العربي الموحد واستعمال سلاح النفط لأول مرة، في تغذية نهجين متعاكسين ظاهرياً إزاء إسرائيل والقضية الفلسطينية.
وفي الواقع كان ما يجمع النهجين (المصري التسووي والسوري الممانع) أكبر مما يفرقهما. في الحالتين خدم النهجان استمرار النظام القمعي هنا وهناك، فمقابل السادات بطل العبور والسلام في مصر، كان الأسد في سوريا بطل الصمود والتصدي والتحرير (على أن تحرير القنيطرة لم يتم بالحرب بل بالجهود التفاوضية مع هنري كيسنجر ضمن بنود اتفاق فك الاشتباك). وفي الحالتين ظلت إسرائيل في أمان تام واقتصرت خسائرها في جبهة الممانعة على الخسائر الهجومية وليس الدفاعية، إذا اعتبرنا أن خط وقف إطلاق النار في حرب تشرين هو الخط صفر. ما خسرته إسرائيل في لبنان تحت ضربات المقاومة اللبنانية كان بفعل احتلالها جنوب لبنان، أي احتلال أرضاً إضافية بعد 1973، بعد أن حاصرت بيروت وأخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان. وفي الحالتين كان ثمة تطبيع، فإذا كان التطبيع المصري يقوم على إنهاء حالة الحرب وجعل العلاقة طبيعية كما تكون العلاقة بين بلدين جارين، باعتراف متبادل وسفارات وعلاقات تجارية..الخ، فإن التطبيع السوري قام على تحنيط العداء لإسرائيل وجعله "طوطماً" يستمد منه النظام السوري "الممانع" البركات والأعذار والديمومة.
من خلال ما يمكن تسميته "التطبيع الممانع"، تعايش النظام السوري، وفرض على الشعب السوري أيضاً التعايش مع عدو "لا يمكن هزيمته لأن الغرب وأميريكا وراءه"، كما يقول الإعلام الممانع، ولاسيما المستتر منه. هذا العدو هو "الخنجر المغروس في قلب الأمة العربية" التي يحمل راية وحدتها و"رسالتها" النظام السوري البعثي. وهكذا تبين أنه من المفيد تكريس أن إسرائيل هي "العدو" لكي يصبح نظام البعث السوري هو "عدو العدو" في علاقة تعايش لانهائية وثابتة لكل التبدلات، وتخدم طرفيها على خير ما يرام. النظام السوري يعتاش على عدائه مع إسرائيل فيحوّل أكثر من 70% من الموازنة إلى وزارة الدفاع، لكي يشتري كبار ضباط الجيش بالفساد، ولكي ينفق على أجهزة أمنية متورمة تحصي على الناس أنفاسهم، وأيضاً لكي يعتاش جماهيرياً على لغة ممانعة تحولت مع الوقت إلى كلام ذي مضمون واقعي شحيح للغاية. ليكتشف الجمهور السوري تالياً أن إسرائيل بعد كل ذلك قادرة دائماً على اختراق الأجواء السورية والقصف حيث تشاء دون أن يكون لدى النظام أي قدرة على المنع أو على الرد، اللهم إلا باللغة الممانعة إياها.
بالفعل ليس قليلاً حجم الأرباح السياسية التي جناها النظام السوري من الاستثمار في نهج "الممانعة"، ساهم في ذلك المسار التسووي الشبيه بالاستسلام الذي سارت فيه مصر أولاً ثم كل من الاردن ومنظمة التحرير والذي حاز على مباركة غالبية الدول العربية، وإن كان محبطاً للشعوب العربية. على هذه الخلفية بدا الموقف السوري أكثر التزاماً بقضايا الأمة وتمسكاً بالحقوق والأرض..الخ. غير أن الحقيقة التي تكشفت على نحو لا يخطؤه إلا كل من لا يريد أن يرى، أن الممانعة كانت شكلاً آخر للتعايش مع اسرائيل، أو لنقل كانت طريقة أخرى في الحفاظ على النظام الممانع.
لم يكن للموضوع الوطني (الذي يعني في سوريا قضية فلسطين والجولان والوجود الإسرائيلي) حضور وازن أو مباشر في الثورة السورية، في هذا دلالة على انتهاء صلاحية لغة الممانعة وتبخر الوهم المتعلق بهذا الموضوع. نقصد الوهم العام المتمثل في القول إن الاستبداد الأسدي إنما غرضه صون الحقوق الوطنية أو استردادها. صحيح أن الاستبداد ترافق في التاريخ مع تحقيق مهام وطنية، مثلاً الستالينية والحرب الوطنية العظمى أيام الاتحاد السوفييتي، غير أن الاستبداد الأسدي البعثي، وأمثاله، يرى إلى كل وظائف الدولة ومهامها في الداخل أو الخارج، الاجتماعي منها أو الوطني، من موشور استمرار النظام، أو الأدق من منظور استمرار الطغمة الحاكمة. فيبدو استمرار النظام أو طغمة الحكم هو المحور الذي تنتظم حوله القضايا وتتخذ قيمتها وطريقة معالجتها وفق موقعها من هذا المحور. ليس النظام هو من يخدم قضية ما، القضايا هي التي ينبغي أن تخدم النظام. على هذا تتحول أي قضية، مثل القضية الوطنية، إلى مجال استثمار للنظام، ويصبح النظام في المحصلة هو غاية ذاته، ويصبح استمراره نصر، او يصبح استمراره هو النصر بألف ولام التعريف. استمرار النظام يعني استمرار النصر، وكل الانتصارات الأخرى تكتسب أهميتها من مساهمتها في تغذية هذا النصر، الذي هو استمرار النظام.
بعد آذار 2011 في سوريا، تفسخت الصيغة الممانعة وتكشفت عن فراغ شبه تام في المعنى. على هذا تحول الجزء الأكبر من مشاعر العداء الشعبي السوري ضد النظام. وبموازاة عجز النظام السوري عن الرد على الغارات الإسرائيلية المتكررة على مواقع سورية منتخبة، انخفضت إلى الحدود الدنيا الحساسية الشعبية تجاه هذه الغارات. وكان تفاعل السوريين مع العمليات الإسرائيلية المتكررة في سوريا وآخرها عملية اغتيال سمير القنطار برهاناً آخر على انقلاب المعادلة وتحول النظام السوري ومسانديه إلى مرمى المشاعر السلبية والعدائية للسوريين.
استهلك النظام السوري "الحساسية الوطنية" إلى آخرها، حتى لمس السوريون بأيديهم أن الممانعة كانت وسيلة للتعايش مع العدو وذريعة لتطبيق شتى صنوف السياسات القمعية وبالمحصلة دون أي نتيجة مهمة على صعيد التحرير أو التحرر. واكتشف السوريون بأجسادهم العارية أمام الرصاص "الممانع" أولوية الحريات العامة على ما عداها، باعتبارها المعيار الأول.