في الفترة الأخيرة، حدثت عدة اغتيالات لشخصيات بارزة، ولم يكن منفذ هذه الاغتيالات مهماً بالنسبة إلى المتابعين، أو من يهمهم شأن سوريا، سمير قنطار، سواء قُتل بصاروخ إسرائيلي أم لا، وزهران علوش، سواء صُفي بغارة روسية أم لا، كان ذلك شأناً ثانوياً، أما اغتيال الصحفي ناجي الجرف بواسطة مسدس كاتم للصوت في غازي عنتاب فإن من المهم أن نعرف الفاعل، لأن ناجي لم يدخل لعبة سياسية تجعله طرفاً في النزاع، بل كان ناشطاً سلمياً، وهو من أكثر الصحفيين اشتغالاً على إحياء الذاكرة السورية عبر مجلة حنطة التي أسسها عام 2012، كما أنه نشط في مجال توثيق انتهاكات "داعش"، بإشرافه على فريق الرقة تُذبح بصمت، عدا عن ذلك، فقد كان محبوباً وقريباً لدى شريحة كبيرة من السوريين، حيث قام بتدريب عشرات الصحفيين منذ بدء الثورة السورية، إضافة إلى إخراجه فيلم داعش في حلب، هذه الأعمال والعوامل تدفعنا إلى التساؤل عن الفاعل، فمن خلال معرفته ستتكشف مآلات تنتظر كل من يفضح أسرار التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها نظام البعث.
من الفاعل؟
ناجي الجرف كان مستهدفاً من قبل النظام، فقد صدرت بحقه عدة مذكرات اعتقال منذ عام 2011، وهو مستهدف أيضاً من "داعش"، ومن جبهة النصرة، وسواهما مِن من يقف في وجه أي مشروع مدني سوري، لكن طريقة الاغتيال بمسدس كاتم للصوت تذكرنا بالاغتيالات البعثية التي قام بها النظام ضد مناوئيه، وهي مماثلة لتلك التي يقوم بها "داعش" اليوم، أبو محمد، أحد الكوادر المؤسِّسة لفريق "الرقة تُذبح بصمت"، والذي كان مقرباً من الجرف، قال لـ(حكاية ما انحكت) إن أي شخص عدواً للثورة السورية له مصلحة في قتله، لكنه رأى أن "داعش" يقف وراء هذا الاغتيال، فقد سبق وأن قام التنظيم بتصفية الناشط أحمد الموسى بنفس الطريقة في إدلب، وهو أحد أعضاء الرقة تُذبح بصمت، كما قام بذبح كل من ابراهيم عبد القادر وفارس حمادي في مدينة "أورفا" التركية، علماً أن ناجي كان قد تعرض لعدة تهديدات ومحاولات اغتيال، منها زرع لاصق متفجر على سيارته كما أوضحت الناشطة ريم تركماني بنشرها حواراً بينها وبين الفقيد ذكر فيه إحدى محاولات اغتياله.
مِن ما سبق، نفهم أن هناك قائمة سوداء مرشحة للتصفية، ولا شك في أن الجهة المنفذة تابعة إما للنظام أو لـ"داعش"، هذه القائمة تضم كل مَن يسعى لإعادة بناء سوريا دولة ديمقراطية، ويعمل على توثيق الانتهاكات، وترسيخ الذاكرة السورية، وبالربط بين ما تشهده سوريا في الفترة من تغيرات ميدانية وسياسية، حيث تتزامن هدنة الوعر مع إخلاء جنوب دمشق من "الدواعش"، وتستعد المعارضة للتفاوض مع النظام، يبدو أن هناك حلاً أممياً لن يكون لصالح السوريين، هذا الحل ستسبقه موجة تصفية حسابات لكل من يشكل تهديداً لمشروع أحد الأطراف المتنازعة.
اغتيال حُلُم
عودة إلى المقارنة بين الاغتيالات السابقة، وبين اغتيال الجرف، فإن رحيل الأخير وحَّد السوريين حول كلمة واحدة، بعدما فرقهم قتل كل من زهران علوش وسمير قنطار، فناجي يمثل بالنسبة إلى السوريين حلُماً بالأصالة السورية، وبالصوت النقي الذي يكادُ يُفقد في الحرب، لذلك فإن قتله أصاب حتى مَن لم يعرفه من قبل بصدمة وانكسار شديدَين، نتذكر هنا ما أصاب السوريين إثر مقتل هادي الجندي وغياث مطر وباسل شحادة ومعن العودات ومشعل تمُّو وماهر نقرور وفرانسيس فاندرلخت وعشرات غيرهم مِن من كان مُجمعاً على أنهم صوت وطني يكسر مخططات النظام والإسلاميين، ما جمعَ هؤلاء أنهم قُتلوا بطريقة وحشية مشابهة لقتل ناجي الجرف، كما جمع الوجعُ جميع من تلقوا خبر رحيلهم، في هذا السياق كتبت ريم تركماني "ناجي الجرف شوكة بعين من يحاول تصوير معارضي النظام على أنهم دواعش والحزن عليه الذي جمع السوريين دليلٌ على أنه والقيم التي يمثلها ليست حالة فردية"، فهم لم يكونوا أفراداً بل حلماً بالحرية، لذلك فإن تصفيتهم تعني بالتدريج تصفية مصطلحات "النضال" و"الوطن" من أذهان الناس، تحطيمَ إرادتهم وجعلَ نفوسهم خالية إلا من الانتقام، وهو ما كتبه خضر الآغا "بيننا وبينكم دم، دم السوريين ودم ناجي الجرف"، وبالمقابل فإن هذه الحادثة تشكل ردة فعل عكسية، فاغتيال هذا الشخص يجعله حياً، كما كتب محمد المطرود "طلقتان لا تُصدران صوتاً، الفاسدة أو الجبانة، وأنتَ الناجي، وهم الأموات"، ولأنه الجرف حلم اغتيل في هذه الفترة المُعقدة، فلن يكون ذكره عابراً مثل غيره، هكذا كتب حسان عباس "ليكُن ذكرك مؤبداً يا ناجي".
خاتمة
لا شك في أن الوضع السوري بعد ناجي الجرف ليس كما قبله، فهذه الحادثة المأساوية سيكون لها تبعات على أصعدة المُثل التي انطلقت من أجلها الثورة، وقد نبهت الكثيرين على أن الصوت المدني مازال حاضراً بقوة، وعلى أنه ما زال مستهدفاً، ولكي لا نكون مستسلمين لهذه الحرب، علينا أن نحوِّل رحيل الفقيد إلى طاقة إيجابية تدفعنا لمزيد من العمل من أجل سوريا التي نريد، فكما أن اغتياله وحَّد السوريين، لا بد وأن يوحدهم حلمه ببلاد حرة، هذا هو عزاؤنا الوحيد، متمثلين عبارة ناجي الجرف "إذا أردنا أن نربح، علينا أن لا ننظر إلى الخسارات".