يا كل المدن البعيدة..
اسمعي صوت المدينة..
وسط كل هذا الزيف فلنكن أمام لحظة حقيقة واحدة
بالنسبة إلى أبو عروبة فإنه ما إن سمع بأن مسرحية ستعرض في حلب المدينة المصنفة كأخطر مدينة في العالم، وهو المقيم في ريف حماه، حتى تعجب وشعر بالدهشة، وحرص على الحضور، لأن مجرد عرض مسرحي في مكان ينام ويستيقظ على مشهد القصف المتواصل هو إنجاز ثوري بامتياز، وتمسك بالحياة، لا شيء يشبهه، بحسب أبو عروبة.
تأسست فرقة "طريق الخبز"، في آب من عام 2014 في مدينة حلب، وأتى تأسيس الفرقة نتاج جهد مجموعة من الناشطين الذين سعوا إلى إيجاد طريقة فنية للتعبير عن أفكار الناس وتصوراتهم وأحلامهم. وبعد الكثير من النقاشات التي دارت بين الأفراد المؤسسين للفرقة، تم اختيار اسم "طريق الخبز" ليكون اسم الفرقة المسرحية في حلب، وبحسب مؤسس الفرقة سلمان ابراهيم: "استوحينا اسم الفرقة من اسم فرقة العاشقين الفلسطينية، وكان الاسم ملهماً، تساءلنا: هل نطلق على فرقتنا اسم" العاشقين، الحالمين..؟ واتفقنا فيما بعد على اسم طريق الخبز، وقلنا: هو طريق الخبز، ولكن ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان".
شكلت فرقة "طريق الخبز" مفارقة، لا لأن العمل المسرحي غريب عن السوريين وعن تاريخهم الفني، بل لأن تأسيس الفرقة أتى في مدينة كانت قد صنفت تواً على أنها أخطر مدينة في العالم. وبحسب ابراهيم: "سعينا من خلال الفرقة هذه إلى إيصال رسالة إلى العالم أجمع، وإلى أنفسنا قبلاً بأنه يمكن، يمكن أن نصنع الحياة، ويمكن أن نصنع الجماليات في ظل هذا الخراب"، ويتابع ابراهيم بالقول: "سيُكتب التاريخ، وستأتي أجيال فيما بعد وستقرأ هذا التاريخ، وسنكون نحن حاضرين فيه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا".
أسس الفرقة خمس شبان وشابات من أهالي مدينة حلب، وبينهم كان الطبيب والإغاثي والصحفي والمقاتل في صفوف الجيش الحر، وفي البداية أطلقوا على أنفسهم اسم "مجموعة الخمسة" قبل أن يتم إطلاق الفرقة التي باتت معروفة اليوم باسم "طريق الخبز".
أول عمل قدمته الفرقة كان عام 2014 وأتى تحت اسم "دكاكين"، وهي مسرحية تنتمي إلى ما يدعى بالكوميديا السوداء، توجه سهامها إلى الذين استغلوا ثورة السوريين، وإلى المطبات التي وقعت فيها ثورتهم، وبحسب ابراهيم: "كان أول عمل لنا ذو طابع نقدي ساخر، وينتمي إلى الكوميديا السوداء، حاولنا أن نشير فيه إلى دكاكين الثورة وتجارها، تجار الدعم والتمويل داخل سوريا وخارجها".
عمل كادر الفرقة في ظروف هي أشبه بالمستحيل، داوموا على تدريباتهم وعملهم الفني في ظل القصف وظروف الحرب الطاحنة في المدينة، حتى أنه وقبل عرض مسرحية دكاكين بأسبوع أصيب أحد كوادر الفرقة أثناء محاولته إسعاف أحد المصابين من سكان المدينة، وبسبب إصرار مؤسسي الفرقة على عرض عملهم، وجدوا حلاً للمشكلة من خلال إيجاد ممثلين بدلاء عن أي ممثل قد يضطر أن يتغيب.
هو شيء مدهش أن يتمكن بضعة شبان في ظروف رهيبة، من أن يقدموا لحظة جمالية بعيدة ولو قليلاً عن ظروف الحرب والدمار والموت المعمم في مدينة حلب. يقول ابراهيم لحكاية ما انحكت: "حتى على صعيد إعلان مكان العرض، نكون متحفظين، فلا نعلن عن المكان بالضبط خوفاً من استهداف الطيران الأسدي لمكان العرض، بل نقوم بدعوة الناس إلى مكان قريب وبعدها نقودهم إلى مكان عرض المسرحية".
واجهت الفرقة مصاعب لا تعد ولا تحصى، ليس أولها نقص التمويل وفقدان الأماكن المناسبة للتدريب وعرض الأعمال، وليس آخرها التكتلات السياسية والعسكرية في المدينة، حيث كان هناك العديد من التشكيلات العسكرية التي تقف ضد أي عمل فني، فما بالك أن يكون عملاً فنيا بصبغة نقدية، إلا أنه وجد أيضاً العديد من التشكيلات العسكرية الداعمة للعمل والتي حضر بعض قادتها بعض أعمال الفرقة، وبحسب ابراهيم: "لا يوجد عمل سهل، لا يوجد لدينا ظروف إيجابية للعمل، ولا الحدّ الأدنى من الإمكانيات، نعمل ونتدرب تحت الأرض، حتى خشبة المسرح ليست خشبة مسرح بالمعنى الدقيق، بل عبارة عن بعض الألواح الخشبية التي نجمعها مع بعضها البعض ونحولها إلى ما يشبه خشبة المسرح، ولكن رغم ذلك لدينا الإرادة، وحتى الآن كانت هي محفزنا على الاستمرار، والبعض الذي يرى بأن العمل في هذه الظروف غير ممكن، أقول بأنه ممكن وممكن".
إلى جانب العروض المسرحية، قدمت الفرقة مسرحاً للأطفال، وركز فيه أعضاء الفرقة على تقديم عروض ممتعة للأطفال ويمكن أن يشعروا من خلالها بقليل من الفرح إلى جانب عرض بعض المبادئ الأخلاقية والقيمية التي يمكن أن تساهم في تعليم الأطفال وتنشئتهم.
وخلال الأيام القليلة الماضية تمكنت الفرقة من عرض مسرحيتها الأخيرة، والتي كانت بعنوان: "حفلة عربية من أجل الحرية"، من تأليف وإخراج سلمان ابراهيم. تدور فكرة المسرحية وبحسب المؤلف، حول: كيف تنظر الشعوب التي تعرضت لانتهاكات في زمن الطغاة للحرية، هل يفقدون إنسانيتهم ويتحولون لطغاة جدد؟ ولماذا؟ ماهي الحرية إذا لم تنبع من قيم أخلاقية ترفع من مكانة أفراد المجتمع؟. السيناريو يتحدث عن صحفي تم اعتقاله في المطار لحضور مؤتمر عن صحافة الحرية.. حين خروجه من المعتقل تقيم له زوجته حفلة احتفالاً بعودته من السفر لتخفي سبب غيابه، يحضر الحفل مجموعة من الأشخاص يطالبون بهدايا، فتخطر في باله فكرة "هواء الحرية" الذي يحول الذي يستنشقه إلى شخص حرّ، فتسقط الأقنعة ويتدخل الجمهور في العرض ويعبر كل فرد عن حقيقته، تنتهي المسرحية بمشهد إيمائي يحاكي الثورات العربية.
أثارت المسرحية الكثير من الشجن في أوساط المشاهدين، وبحسب أبو عروبة أحد الشبان الذين شاهدوا المسرحية يقول: "طوال مدة العرض كنت أتنفس ملء رئتي، لأن الفن هو رئة المدينة، تجسيد ما يجري خارج المسرح من حرب و دمار على خشبة المسرح بقبو ليحميه من القصف، هو جوهر الحرية التي نطالب بها، حرية التعبير عن الرأي بأجمل أشكالها وهو الفن".
وحول الأفكار التي سعت المسرحية إلى تقديمها، يقول أبو عروبة: "بالنسبة لفكرة المسرحية أعتقد أن المخرج استطاع إيصالها إلى الجمهور من خلال الطرح الفني بشكل واضح ومباشر، والفكرة كانت حول تعريف كل واحد منا للحرية، واختلاف التعريف وعدم قبول تعريف الآخر هو ما أوصلنا بالنهاية للتناحر وإلغاء الآخر، المسرحية تحاول أن تقول: الحرية للفن وليست للقاتل، الحرية للمسؤولية وليست للفوضى، الحرية للإنسان وليست للمستبد، الحرية ليست استبدال بل تغيير".