يواجه السوريون اللاجئون في لبنان، واقعاً صعباً ومعقداً، فهم حتى اللحظة، ورغم مرور حوالي أربع سنوات على لجوئهم إلى لبنان، يفتقدون إلى التصنيف القانوني الذي يحدد طبيعة وجودهم في لبنان، فهم حتى اليوم لا يعلمون إن كانوا نازحين أم لاجئين أم غير ذلك. ومن جهة أخرى، أي من جهة الحكومة السورية، أو ما تبقى منها، فيندرج تصنيفهم في إطار القوى المعارضة لنظام دمشق، لذا يجري التخلي عنهم باعتبارهم تخلوا طواعية عن وطنهم وقائدهم، ويفقدون وفق هذا الوضع قدرة الرجوع إلى سفارتهم في بيروت واللجوء إليها في حال تعرضهم لأي أذى أو مشاكل قد تواجههم. وأما قوى المعارضة السورية الرسمية، فرغم ادعائها تمثيل الشعب السوري، أو على الأقل الجزء المعارض منه، إلا أنها تعجز، أو هي عجزت حتى هذه اللحظة عن إيجاد شكل من أشكال التمثيل السياسي أو القانوني لمجتمع اللاجئين في لبنان، كما في أماكن أخرى، وبقي السوريون من غير تمثيل وطني رسمي أو سياسي.. أو غير ذلك.
إزاء هذا الوضع الغريب والمعقد، يجد السوري نفسه في لبنان، وبشكل شبه مستمر، في مهب الريح، ولقمة سائغة في وجه العديد من التعديات على حقوقه وكرامته، وهو غير قادر عن الدفاع عن نفسه أو حتى إيجاد جهة ما قادرة على حمايته أو حتى إيصال صوته.
يتعرض السوريون في لبنان إلى عنصرية أشكال ألوان، ولا يقتصر ممارسي هذه الانتهاكات بحق السوريين على أفراد غالباً يوصفون بأنهم "زعران"، وأنه ليس لديهم أي انتماء سياسي، بل يتجاوز الأمر هؤلاء "الزعران" ليطال حتى الجهات التي تعتبر كونها تنتمي إلى مؤسسات الدولة اللبنانية، كالأمن العام والجيش اللبناني على سبيل المثال.
يجبر السوريون في لبنان على الاحتكاك بقوى الأمن العام في عدة مناسبات، فهم عندما يتوجب عليهم تجديد إقاماتهم، عليهم الذهاب إلى إحدى المراكز التابعة للأمن العام والمسؤولة عن تجديد الإقامات. وغالباً ما تخصص أماكن واسعة تتسع للأعداد الغفيرة للسوريين، كالمدينة الرياضية قرب بيروت.
تغص القاعة المخصصة للانتظار، بالعشرات وأحيانا المئات من السوريين من كل الأعمار والفئات؛ أطفال، نساء، شيوخ، وشبان، وجميعهم عليهم المرور على مجموعة من الإجراءات وأهمها الانتظار لساعات وساعات. يمنح السوري الذي يريد تجديد إقامته، رقماً من قبل موظف في الأمن العام، يجلس خلف طاولة صغيرة، ويسجل قوائم الأسماء، وبعدها يقف السوري في طابور بانتظار دوره.
يصرخ "الموظف": "وقفوا عالدور يا حيوانات"، فيهرع كل من في الصالة ويقفون خلف بعضهم البعض، بمشهد يذكرنا بحقبة الثمانينيات في سوريا، عندما كان السوريون يقفون طوابير من أجل قنينة زيت. وبحسب بعض الشهادات من شبان سوريين، أكد جميعهم على أنهم تعرضوا أثناء تجديد إقاماتهم لمضايقات لفظية وكلمات نابية بحقهم، تم وصفها بأنها كلمات سيئة جداً؛ وتتراوح الإساءات بين استخدام ألفاظ مهينة وسيئة كالقول: "ألا تفهمون يا حمير، قفوا بالدور يا حيوانات"، وبين استخدام التهكم والسخرية كالقول: "سوري حاطط جيل؟ مش شاطر غير تجيب ولاد؟". وأمام هذه الإهانات والإساءات، لا يمتلك السوريون سوى الصمت والانصياع لتلك الأوامر المهينة. وعندما توجهنا بالسؤال لأحد السوريين: "لماذا لا تتقدمون بشكوى ضد هذه الإساءات؟ كان الجواب: إننا دائماً نخشى أن يتم عقاب من يتوجه بشكوى من خلال منع تجديد إقامته، أو التعرض له بشكل شخصي، فغالباً ما يكون الانحياز لرواية "الدركي" اللبناني وليس للمواطن السوري.
وعلى الرغم من كل هذه الشهادات حول الإذلال الذي يتعرض له السوري أثناء تجديده لإقامته في لبنان، إلا أن المسألة غالباً ما تأخذ طابعاً فردياً من قبل المسيئين، وبحسب الشهادات، كانت تختلف المعاملة مع السوريين بين موظف بالأمن العام وآخر، ففي الوقت الذي يتقصد فيه بعض الموظفين الإساءة للسوريين، نجد أن هناك موظفين آخرين يتعاملون بكثير من الاحترام معهم. ومن غير المفهوم بالضبط الأسباب التي تقف خلف هذه الفروقات، فربما يكون الموقف السياسي من النظام السوري، هو ما يحدد طبيعة العلاقة بين العسكري اللبناني والمواطن السوري. وبحسب بعض الشهادات، فإن الموظفين الذين يظهرون تعاطفاً مع السوريين، غالباً ما يعبرون بكلمات عابرة عن موقفهم المعادي لنظام الأسد، وأحياناً أخرى يلعب الانتماء الطائفي لدى الموظف اللبناني دوراً في طبيعة هذه العلاقة.
خارج مراكز الأمن العام، وبعيداً عن تجديد الإقامات، يتعرض السوريون إلى أشكال أخرى من الاحتكاك مع قوى الأمن اللبنانية، فالدوريات التي يسيرها الأمن العام في الشوارع والأحياء، غالباً ما توقف السوريين في الشارع وتطلب أوراقهم، لا لشيء، سوى لأن "شكلهم" يشير إلى أنهم سوريين. وبحسب الشهادات، غالبا ما تطلب أوراق الإقامة، وفي أثناء التأكد من قانونيتها، يتعرض السوري للعديد من الأسئلة ذات الطابع التهكمي، يسأل: أنت داعشي؟ لماذا تربي لحية؟، وغالبا ما يتم أخذ الهاتف المحمول بحجة تفتيشه.
يقول أحد الشبان السوريين: "أوقفتني دورية تابعة للأمن العام، وطلبوا أوراقي، وبعد أن أعطيتهم إياها، سألني أحد عناصر الدورية: أنت داعشي؟ وضحك مع أصدقائه، لم أعرف ما أجيبه، إلا أنني صرت أضحك مثلهم ببلاهة، علّهم يتركونني وشأني". وقد تكررت هذه الملاحظة من قبل العديد من السوريين الذين باتوا يشعرون بأنهم محطّ سخرية وتسلية من قبل عناصر تابعة للجيش اللبناني أو لقوى الأمن العام. بينما السوريون الهاربون من الحرب فلا يمتلكون سوى الضحك ببلاهة على ما وصلوا إليه من إذلال.
لا يختلف الأمر كثيراً على حواجز الجيش المنتشرة في كل مكان، فبالقرب من بلدة عرسال اللبنانية والتي كانت قد شهدت العديد من حوادث العنف في وقت سابق، وفي المنطقة التي تقع بينها وبين بلدة اللبوة، يوجد حاجز عسكري تابع للجيش اللبناني، أطلق عليه السوريون تندراً اسم: "حاجز الموت".
وبحسب أحد المواطنين السوريين: "فإنه يتوجب عليك إن كنت تريد القدوم إلى عرسال أن تمرّ على هذا الحاجز، وتدخل لتسجل اسمك ووجهتك وغايتك، وإن كنت تريد مغادرة البلدة عليك أيضاً أن تخضع لذات الإجراءات، والتي غالبا ما تأخذ وقتاً طويلاً يقف فيه السوريون في طوابير الانتظار". بيد أن للحاجز مهمات أخرى غير التدقيق في هويات العابرين، وهي مهمة الإذلال كما يصفها العديد ممن تم الاستماع لشهادتهم، ووفق هذه الشهادات، فإن: "جميع من يمرّ على هذا الحاجز من الشباب السوريين متهم بالانتماء لجبهة النصرة أو تنظيم داعش حتى يثبت عكس ذلك". وحتى يثبت عكس ذلك يتعرض السوريون إلى الكثير من الإذلال والعنف اللفظي والجسدي، لا لشيء، سوى لأنهم فقط متهمون تحت الطلب.
يقول أحد الشبان الذي خاض هذه التجربة المريرة: "لا يتم التفريق على هذا الحاجز بين شاب وعجوز، فالجميع عليه أن يمر بتجربة "التشريفة"، وهي الإجراءات المتبعة على هذا الحاجز، حيث على الجميع انتظار دورهم في الدخول إلى غرفة التحقيق، وريثما يأتي دور الشخص، يقوم عناصر من الجيش اللبناني بإهانة الشبان والرجال باختلاف أعمارهم، عبر كلمات مثل: قم بتمارين الضغط.. قف ودع وجهك للحائط.. اجلس القرفصاء..، وبعدها يتم دخول الشخص إلى غرفة التحقيق، ويؤخذ منه جهازه النقال ويتم تفتيشه بالكامل، ويسبق سؤال المحقق صفعة يتلقاها "المتهم" من قبل أحد عناصر الجيش، على وجهه أو على رقبته، وتنتهي هذه المهزلة بإعادة جميع متعلقات "المتهم"، والسماح له بالذهاب في طريقه، بعد أن يكون قد تعرض للكثير من الشتم والضرب والمهانة".
ورغم كل هذه الانتهاكات التي يتعرض لها السوريون بمناسبة وبغير مناسبة، إلا أن أغلبهم لا يفكر مجرد تفكير بتقديم شكوى إلى أي جهة قضائية في لبنان، وذلك بسبب شعورهم بالخوف وعدم الشعور بالأمان، وأن شكواهم لن تأتي عليهم سوى بمزيد من النقمة.
ولا يقتصر الأمر على الإذلال الذي يعيشه السوريون على حواجز الجيش اللبناني وحسب، فقد شهدت العديد من تجمعات السوريين، في مخيمات اللجوء أو في الأحياء الفقيرة التي يقطنونها، حالات اقتحام من قبل الجيش وقوى الأمن اللبناني، وأحياناً أخرى من قبل "زعران" تابعين لبعض الميليشيات، حيث اقتيد فيها العديد من السوريين من منازلهم وتم توثيقهم خارج بيوتهم على الملأ، وتم تفتيش منازلهم وتخريب ممتلكاتهم، وبعدها تم اطلاق سراحهم، في سلوك يبدو أنه استفزازي أكثر مما يعبر عن كونه سلوكاً أمنياً ينشد استباب الأمن.