شهادة من عاملي الهلال الأحمر (3)


20 كانون الثاني 2016

عملي كان بالهلال الأحمر من منتصف عام 2012 (بداية معركة دمشق الكبرى) وانتهى بأواخر عام 2015. بصدق قدمت للهلال كل وقتي خلال ثلاث سنوات كي أساعد ثورة بلدي بما أقدرعليه، وهو عملي كمسعف.

خلال عملي صادفت الكثير من القصص، وهي لا تعد ولا تحصى، ولو أردت أن أسردها كلها فهي تحتاج كتابا دون مبالغة، ولكني سأختصر ببعض ما تبقى محفورا في ذاكرتي حد أنه لن يزول نهائيا.

سأبدأ من قصة أب يستحيل أن أنساه بحياتي. كان يوما هادئا بالنسبة لمنطقة ساخنة مثل القابون، قبل أن يمر رتل دبابات من اتوستراد حرستا، وكالعادة أحب الجنود أن يقوموا بإطلاق بعض القذائف على البيوت في القابون، أربع قذائف كانت كافية لهدم بيوت وقتل أطفال ونساء كانوا في بيوتهم.

خلال لحظات كان داخل المركز سبع جرحى بحالات خطيرة، والأخطر رضيعة بعمر شهرين مصابة بشظيتين بالرأس، فكان الاهتمام الأكبر بحالتها، لكنها استشهدت رغم كل محاولات الطبيب المناوب لإنعاشها. بعد عشر دقائق دخل والد الشهيدة على المركز وكان ضخم ومتوتر ويريد أن يطمئن على ابنته. الجميع تردد بإخباره بوفاة ابنته، إلا أنه قال كلمة يستحيل علي أن أنساها، إذ قال أنه سلّمها لرب العالمين وشو ما صار أنا مؤمن بقضاء الله وقدره، فكان أن تشجعت وأخبرته بوفاتها، فاستسلم وهدأ على غير المتوقع، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل سلمتها لله،  وما بعترض على حكمو أبدا.

هناك أيضا، تاريخ لا أنساه لا أنا ولا أي شخص من القابون هو يوم 14/4/2013، أي يوم حدوث مجزرة الأطفال في القابون، إذ ضرب يومها طيران الميغ على حارة في القابون، معروفة بأنها تجمع للعب الأطفال. كان يوما أسودا ومفجعا. دخل على المركز خلال لحظات سبع أطفال أعمارهم لا تتجاوز الـ 10 سنين، وقد استشهدوا للتو. أعتذر عن الوصف القاسي، لكن كان لونهم أسود رمادي بسبب الاحتراق، أحدهم كان دماغه منفصلا عن جمجمته، ومناظرهم محزنة. وبعد أقل من ثلاث دقائق دخل للمركز خمس أطفال غيرهم، أربعة في حالة وفاة وواحد فقط يتنفس، واحد من 12، أربعة أخوة استشهدو بلحظة وابن عمهم. ماكان بإمكاننا فعل شيء، أكياس الجثث لم تكف، وضعنا كل ثلاثة بكيس جثث واحد، كنا طبيب وسبعة مسعفين نقف بعجز أمام الأطفال، إذ لم نقدر على إنقاذ إلا واحدا أوصلناه للمشفى.

وهنا نصل لقصة المشفى، فحين نريد أن نأخذ أي أحد إلى المشفى علينا أن نتصل بحاجز الحرس الجمهوري المسؤول عنه العقيد (ع) الموجود جانب جامع الغفران لأخذ الأذن لأجل الخروج، كان علي أن أتصل فيه وأعطيه كل معلومات الهوية تبع المصاب أو المريض والمرافق مشان يفيشهم وبعدين بيسمحلك تطلع، وحصرا من عنده، وعندما نصل الحاجز علينا أن نقف عندهم ليفتشوا السيارة، ويتأكدون من المعلومات التي أعطيناهم إياهم، ليسمح لنا بالخروج.

في إحدى المرات جاءتنا حالة ولادة الساعة الثانية صباحا، وكان علينا أن ننقلها للمشفى فورا، ولكن حين اتصلنا لم يرد علينا أحد، فيبدو أنهم كانوا نائمين، وإذا خرجت السيارة دون إذن فهناك ستتعرض للقصف، لذا اضطررنا للبقاء في المركز حتى الساعة السادسة صباحا حتى تمكنا من الاتصال ونقلها.

أكثر قصة فاجأتني كانت لطفل أعتقد أن عمره ست سنوات، دق الباب بمركز جوبر وسلم علينا، وقال: أنا مصاب وبدي اتعالج، بدي تعالجوني، فضحكنا، وقلنال له: وين متصاوب، فأخرج يده من جيبه وأرانا إياها، لم أصدق لقد أصابه القناص بكف يده قرب الإبهام، حين استهدفه هو وأوبوه الذي أصيب أيضا، حيث ظن الناس أن الطفل لم يصب فجاء لوحده ليتعالج وهو يضحك.

وبعد علاجه قال لنا: أنا كبير، ماحدا يحملني.

هكذا يكبر أطفال سورية قبل أوانهم.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد