إن التأمل في "الفزعة" والنشاط الذي استعاد حيويته على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى أرض الواقع بعد مقتل الصحفي والناشط الإعلامي "ناجي الجرف"، وبعد انتشار صور المجاعة من داخل مدينة مضايا السورية، حيث عاد النشاط المدني والتفاعل إلى ذروته: اعتصامات وتضامنات وتصميم بوسترات وتنظيم حملات افتراضية وواقعية فرضت نفسها على كل وسائل الإعلام العربية والعالمية، إلى درجة أن البعض قال أن إدخال المعونات إلى مدينة مضايا مؤخرا كان في جزء منه بسبب الإحراج الذي سببته هذه الحملات للمجتمع الدولي، إذ كيف يمكن لضمير أن يجد مبررا لتجويع البشر مهما بلغت درجة انحطاطه أو استغلاله السياسي!
النشاط نفسه بتنا نراه مؤخرا كلما اعتقل أحدهم (آخرهم اعتقال العم أبو علي صالح) أو حول إلى سجن عدرا أو أطلق سراحه، حيث تنتفض وسائل التواصل الاجتماعي حزنا أو فرحا، ليعود النسيان ويلف كل شيء، الأمر الذي يطرح سؤالا جوهريا: هل بات النشاط المدني السوري موسميا؟ وهل انطفأ الحراك إلى غير رجعة أم ماذا؟
لا شك أن الحراك المدني السوري تعرض لانتكاسات وتراجعات شتى مذ بلغ ذروته بين عامي 2011 – 2012 ليتراجع تدريجيا بفعل عنف النظام وقمعه الشرس أولا، وتحول الثورة السلمية إلى مسلحة ثانيا، ودخول التطرف الديني على خط الثورة ثالثا لاختلاف أجندته عن أجندة الحراك المدني، ولتحول أغلب المناطق السورية إلى ساحات حرب منكوبة رابعا، ما منع الحراك الذي لم يعد يجد أرضا حاضنة من جهة، ولتحوّل أغلب النشطاء نحو الإغاثة التي فرضت نفسها من جهة ثانية، ما جعل الحراك يتراجع في كافة المناطق السورية، وإن لم يختف كليا أيضا.
إذاك وجد الحراك المدني السلمي السوري نفسه وسط خريطة من الأعداء، فإذا كان النظام السوري طيلة عامي 2011 -2012 عدوه الأول، فإن الكتائب ذات التوجه الإسلامي والتي تعلن أهدافها بدولة إسلامية جعلت من الحراك عدوا لها لتضاد الأهداف، حيث يسعى الأخير للوصول للدولة المدنية بحدها الأدنى، كما أن كلا من جبهتي النصرة وداعش تصنفان كأعداء للنشطاء السلميين الذين باتت حياتهم في المناطق التي يسيطر عليها هؤلاء في خطر كما لو أنهم في ساحات النظام، وأحيانا أشد حيث طريقة القتل المنفرة التي تستخدمها داعش باتت لا توصف لوحشيتها، وهناك أيضا سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي في المناطق الكردية حيث يطلق الرصاص ويعتقل كل من لا يتوافق مع آراءه ما جعل هذه المناطق تنتقل عمليا من استبداد النظام إلى استبداد حزب الاتحاد الديمقراطي ذي البنية الفاشية الشمولية.
وإذا كان الخصوم/ الأعداء السابقون معروفون بوجهوهم وأحزابهم وشخصياتهم، فثمة خصوم خارج هذه الدائرة، أولها الحرب التي حولت المناطق السورية إلى مناطق صعبة للحراك الذي تحوّل في قسم منه لنشاط مدني (تعليم، تنمية، تأهيل..)، وثانيها المال الذي خرّب مفاهيم كثيرة مثل العمل التطوعي والمبادرة والحملات الذاتية، ففي بداية الثورة كان النشطاء يقومون بحملاتهم دون أن ينتظروا شيئا في حين أن أغلب الحملات باتت اليوم ممولة، ما أوصلنا إلى خضوع بعضها لأجندة الممولين واعتباراتهم وخلق "نشطاء" لا يعملون دون تمويل. وإذا كان الأمر مفهوما من جهة أن النشطاء بعد خمس سنوات باتوا ضعفاء ماديا وهم بحاجة للمال لأجل الصمود والدعم، فإن ارتهان الأمر بأكمله للمال قد يكون ساهم في الحال الذي وصلنا إليه، خاصة إذا عرفنا أن أجندة الممولين في أغلبها تتجه اليوم نحو مسائل التعليم والإغاثة وبناء السلام أكثر مما تتجه لدعم الحراك المباشر، حيث باتت النشاطات الكبرى اليوم رهينة حدث يأتي بمثابة "كف على الوجه" ليوقظ الجميع من غفوتهم، فينتفضوا وينظموا الحملات ليعودوا بعدها إلى الهدوء، ما يجعل الأمر يسجل في خانة رد فعل أكثر مما هو فعل منظم وواعي وذو هدف يندرج ضمن استراتيجية واضحة.
ما سبق لا يعني أنه لم يعد هناك حراك سلمي بالمطلق، وأن كل النشطاء يعملون في السياق السابق الذي تحدثنا عنه، بل لازال هناك نشطاء يرفعون شارة النصر بوجه الدبابة ويوزعون البوستر والمنشور في أكثر المناطق خطرا، كما رأينا في حملة "بوتين قاتل الشعب السوري" التي نظمها النشطاء في قلب دمشق، ما يعني أن الأمل بعد موجود.
ولكن ما فائدة هذا الكلام؟ ولم اليوم؟
نقول هذا الكلام، لأن الحراك المدني السلمي يبقى دائما وأبدا أحد وسائل المقاومة ضد السلطات (أية سلطة، سواء بقي النظام أو لا)، وسنحتاجه اليوم وغدا ضد السلطات الوليدة التي قد تلد سلطة الاستبداد أو قد تتعايش معه في مناطق أخرى، وأيضا لأن سورية اليوم باتت رهينة القوى الدولية التي تسعى لفرض أجندتها على الحل السوري الذي قد لا يكون للسوريين ناقة أو جمل فيه، الأمر الذي يفرض الإعداد والاستعداد ووضع الخطط لمعرفة كيف يمكن مواجهة المرحلة القادمة والسلطة القادمة، وكيف يمكن استغلال المرحلة الانتقالية التي قد تفرضها التسوية السورية (عاجلا أم آجلا) لإعادة تثبيت الأقدام في الساحة السورية من جديد، ولمنع أولئك الساعين لحكمنا من جديد في تمرير ما يريدون في المرحلة الانتقالية أو قبلها أو حتى بعدها.
هل أحد فكر بهذا الأمر؟ فلنفكر به، ولنستعد له.