تسعى هذه "المطوّلة" إلى محاولة فهم أرضيات ومحرّضات الاحتراب الطائفي، والمتمكن اليوم من شرائح اجتماعية وطائفية متنوعة في سوريا، اعتماداً على الوقائع الملحوظة اليوم وسابقاً، والمرشحة للازدياد.
لن نعود إلى الماضي القريب، ونعني بداية حكم البعث ثم وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، إلا بمقدار ما يمكن رصده من سياسات طائفية تمييزية أسست لما يحدث اليوم في البلاد. كما لن نعود إلى "الماضي الغابر"، على ما يفعل بعض الكتاب والباحثين الذين يختزلون المسألة الطائفية في كونها منسوبة إلى سقيفة بني ساعدة والنزاع على الخلافة لاحقاً بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، أو إلى النص الديني "المقدّس" فقط، الأمر الذي قد يفضي إلى نظرة جوهرانية تجعل كلاً من الطائفية والتطرف الديني، صفة قارة في مجتمعاتنا المسلمة، بعيداً عن القراءات السياسية وتمكين الوقائع والعلوم الاجتماعية في فهم طبيعة المجتمع والمجتمعات المحلية وتنوعاتها، وأمزجة الناس واتجاهاتهم وانتماءاتهم المتغيرة مع تغير وطبيعة النظام السياسي الذي يدير البلاد ويتحكم بسكانها، وما يلحق بهم من عوارض ونوازل وهزات. ومن دون أن يعني ذلك أن الدين ليس رافداً ودافعاً إلى مآلات طائفية دموية، تبعاً لحالة النظام السياسي وطريقة تعاطيه مع المسألتين: الدينية والطائفية، ولغياب مشروع إصلاح ديني حقيقي وجذري.
قبل الثورة، "بإيجاز"
هناك انقسام في أوساط الكتاب والباحثين، السوريون منهم تحديداً، في وصف علاقة النظام مع المسألة الطائفية. منهم من يقول أنه "نظام طائفي" بمعنى أنه "علَوي"، ومنهم من ينفي عنه الصفة أو الصبغة الطائفية من دون أن يعتبره بالضرورة "نظاماً وطنياً"، وغيرهم يعتبره "نظاماً طائفياً" من دون أن يكون "علوياً". .. هكذا، يتبدّى كم أن المسألة الطائفية متمكنة اليوم من النقاش السوري، اعترافاً بها أو دحضاً لها..
والواضح عموماً، أن النظام ما وَنى يستخدم الأدوات والسياسات الطائفية في تثبيت أركان حكمه في بداية السبعينات من القرن الماضي، ثم في طريقة تعاطيه وتعامله العنفي والطائفي مع الثورة السورية.
يرى حنا بطاطو أنه "كان من العلويين ما لا يقل عن 61.3% من الضباط الـ31 الذين انتقتهم يد الأسد، بين عامي 1970-1997، ليحتلوا المواقع الرئيسية في القوات المسلحة والتشكيلات العسكرية النخبوية وأجهزة الأمن والاستخبارات، وكان ثمانية من هؤلاء من عشيرته الكلبية، وأربعة من عشيرة زوجته، الحدادين".[1]
"كما بلغ عدد الضباط المتخرجين من الكلية الحربية بين عامي 1987 و2009، 2336 ضابطاً، منهم 1786 علوياً، وبنسبة 76.5 في المئة، و368 سنياً، بنسبة 15.5 في المئة، و182 ضابطاً من الأقليات الأخرى، بنسبة 8 في المئة. ويشكل هؤلاء الضباط وزملاؤهم الكتلة الرئيسة من الضباط الميدانيين والقياديين في الجيش السوري اليوم، إذ تتراوح أعمارهم بين 27 و 48 سنة، على اعتبار أن سنّ الالتحاق بالكليات العسكرية يبدأ من عمر 18 سنة ".[2]
لا تكفي هذه الإشارات، وهي ليست قليلة الدلالة، لتبيان السياسات الطائفية التي كانت واحدة من أدوات تعاطي النظام مع المجتمع السوري، وخاصة في لحظات انتفاض وحراك هذا المجتمع. واستطراداً، يمكن القول أن النظام السوري هو نظام متعدد الأدوات والآليات التي يحكم بموجبها سيطرته على المجتمع، طائفيةً كانت أم حزبية أم عشائرية قبلية. وسوف يكون ذلك واضحاً وبشكل جليّ بعد الثورة السورية ومنذ بداياتها، إلا أن المسألة الطائفية ستكون الأخطر كما سنرى بعد قليل.
لم يكن هناك صراع سني – علوي، أو صراع طائفي عموماً قبل اندلاع الثورة السورية، إلا أن مسوغاته وروافده كانت موجودة طوال فترة حكم حافظ الأٍسد وابنه بشار. والمجتمع الذي حكمه البعث والعائلة الحاكمة لأربعة عقود، كانت الحدود والحواجز الطائفية غير المعلَنة متمكنة منه بقوة وبالفعل الأمني خصوصاً، خاصة مع الاعتماد الكبير على الطائفة العلوية، طائفة رئيس البلاد، وجعْل أبناء هذه الطائفة ذوي أولوية في المواقع القيادية وغير القيادية في الجيش والسلك الأمني المخابراتي، لتكون هذه الطائفة خزاناً بشرياً أمنياً وعسكرياً للنظام يمكن الاعتماد عليه لاحقاً، على ما نرى اليوم. وفي الوقت الذي كان النظام يتعامل مع الطوائف الأخرى بشكل يجعلها "غيتو"، كما يتعامل مع العلويين وإن بشكل مختلف، خارج أي إطار دستوري مدني وعقد اجتماعي وطني، كانت "الوطنية والقومية العربية" هما الرايتان اللتان يحملهما أمام "العالم الخارجي".
الثورة والتلويح بالورقة الطائفية
بعد ثلاثة أيام فقط من بداية الاحتجاجات في مدينة درعا في 18 آذار، اعتبر النظام السوري على لسان مستشارة الرئيس السوري للشؤون السياسية والإعلامية، بثينة شعبان، بأن "هناك مشروع فتنة طائفية في سوريا"[3]. وكانت هذه هي الإشارة الأولى من قبل السلطات السورية بأن المسألة الطائفية في سوريا ستكون حاضرة في طريقة وآليات التعاطي الرسمي مع "الأزمة". ومع انتقال الثورة إلى مناطق سورية أُخرى واندلاع المظاهرات في مختلف مدن ومناطق البلاد، كان ناشطو الثورة يركزون على "وطنية الثورة السورية" و"لا طائفيتها" في شعاراتهم ولافتاتهم وهتافاتهم في التظاهرات.
والحال، أن تلك الشعارات المرفوعة كانت تختزن رغبةً في أن تبقى الثورة السورية على شعاراتها وأهدافها الوطنية المرفوعة حينئذٍ، وتختزن في الآن عينه إحساساً وتخوفاً مضمراً من قبل الكثيرين من هؤلاء الناشطين في تركيزهم على "الوطنية والسورية"، من تصدر الطائفية للمشهد السوري، وانزلاق الحراك باتجاهها. نفترض أن معاداة الطائفية بهذا الشكل كان اعترافا مضمراً بأنها قد تكون "واقعة" ذات يوم.
وفي الوقت الذي كانت قوات النظام تُردي متظاهرين في درعا بنيرانها، خرجت في 18 آذار أيضاً تظاهرة في بانياس من "مسجد الرحمن"، وتوجهت باتجاه مقر جهاز مخابرات "أمن الدولة" في المدينة، ورفعت إلى السلطات السورية لائحة من المطالب المحلية المتعلقة ببانياس، من ضمنها "الفصل بين الجنسين في مدارس المدينة" [4]، ومطالب سورية عامة تتضمن إلغاء قانون الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
وفي ظهر يوم السبت 19 آّذار 2011، أي في اليوم التالي لتظاهرة بانياس الأولى، كانت المتاريس الطائفية – السكانية قد بدأت ترتفع في المدينة سريعاً، بعد أن تجمع "الشبيحة" في حي القصور العلوي، "مستعملين حوالي 25 سيارة مستعدين للهجوم على "أحياء السنّة"، الذين خرجوا بدورهم بالسلاح الأبيض وبعض أسلحة الصيد استعداداً للمواجهة المحتملة، قبل أن يقوم جهاز مخابرات "أمن الدولة" في المدينة بتحذير هؤلاء الشبيحة من الهجوم ضد أحياء المتظاهرين" [5] ، في محاولة منه لإعادة ضبط الوضع الأمني في المدينة ومنعه من الخروج عن السيطرة، وربما حصر استخدام العنف في يده، في بداية الثورة على الأقل وليس لاحقاً، حيث اختلف الأمر وصار اعتماد النظام على ميليشيات الشبيحة أمراً واقعاً .
الانتقائية الطائفية في محاولات قمع الثورة - "السلَمية نوذجاً"
لم تصمد البنية الهشة للمجتمع السوري، والذي لم يعرف طعم التشكل في إطار وطني سوري جامع إلا في فترات قصيرة بعد الاستقلال.. لم تصمد أمام الحل الأمني والعسكري الذي أنزله النظام بالمجتمعات المحلية الثائرة ضده، وكان دخول الجيش إلى المدن والبلدات السورية، مترافقاً مع تشكل ما عرف بــ "ميليشيات الدفاع الوطني" في معظم المناطق وخاصة مناطق الأقليات أو أحياء العلويين ضمن المدن مثل حمص، إيذاناً بأن ردود الفعل على ذلك لن تكون على شاكلة الشعارات الوطنية التي كانت ترفع في بدايات الثورة وتظاهراتها، خاصة مع انحسار المظاهرات في المناطق التي تعرضت إلى عنف كبير من قبل النظام، لصالح العمل العسكري، منذ تموز 2011 تقريباً.
"الحل العسكري" الذي استخدمه النظام في مواجهة وقمع الثورة منذ اليوم الأول لها، مرّ بأطوار وتحولات هو الآخر، كانت هي الدافع الأول والمسبب الأساسي لانعطاف الثورة السورية نحو الطور العسكري الواضح، ذاك أن بداية الثورة وُوجهت بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وعلى جنازات تشييع شهدائهم، قبل أن يدخل الجيش ودباباته إلى مدن وبلدات سورية كانت درعا هي أول تلك المدن، من دون أن يتوقف إطلاق النار على المظاهرات المتفرقة في مناطق سورية أخرى بالتزامن مع الاقتحام بالجيش والمدرعات لهذه المدينة أو تلك. وهنا، تجب ملاحظة كيفية تعامل النظام واختلاف درجات تعامله العنفي ومستوى العنف ونوعيته مع كل منطقة سورية، تبعاً لخصوصيتها ووضعها الطائفي. ويمكن أن تكون مدينة "السلَمية" ذات الأغلبية "الاسماعيلية" مثالاً واضحاً على ذلك.
هناك عاملان رئيسيان ساهما في جعل مدينة "السلَمية" أقل عرضة لنيران النظام وموته النازل بالسوريين, علماً أن السلَمية خرجت في مظاهرات حاشدة استمرت لــ 5 أشهر من بداية نيسان وحتى منتصف آب 2011، ذاك أن الأكثرية السنية السورية كانت هي الأكثر عرضة لنيران النظام، ويعود ذلك، على ما نرى، إلى سببين:
الأول: حجم التهميش المتعمد من قبل النظام، والذي كان يلحق بالريف السوري وهوامش المدن وأحيائها الطرَفية، والتي كان تسمّى "حزام الفقر في المدن"، وخاصة في دمشق. ولذلك كان المناطق السنية الريفية هي الأكثر استعداداً للاندراج في الثورة السورية ضد النظام، وهي تقدّم صورة متفاوتة لــ "ثورات متعددة" في سوريا، تتعلق بخصوصية كل منطقة من المناطق السورية الثائرة.
والثاني: مثابرة النظام على محاولة تحييد الأقليات الطائفية والدينية عن الثورة، عبر بث المخاوف في صفوفها من احتمالات التطرف، والمعاملة الأقل عنفاً من قبل النظام لتلك الأقليات التي ثار جزء منها وانخرط في يوميات الثورة، مقارنةً بعنفه تجاه "الأكثرية". هذا كان من شأنه أن يجعل البيئة "السنية" السورية المعارضة للنظام والمطالبة بالتغيير جاهزة أكثر من غيرها، تبعاً لما تلقته من عنف وموت فظيع و"نوعي"، لحمل السلاح والانخراط في المواجهة المسلحة، قياساً بسوريين من غير السنّة لم يلحق بهم تدمير وقتل وموت كالذي لحق بـ"سنّة" المناطق السورية والريفية منها تحديداً. بناء على ذلك، نجحت السلطة لدرجة كبيرة في تقسيم المجتمع السوري، وإن شكلياً وإعلامياً على ما تريد ، إلى "أقلية معها !"، و"أكثرية ضدها !" بالمشهد العام، بدلاً من أن يكون الفرز المفترض في بلد يشهد ثورة، هو بين دعاة المحافظة والاستبداد من جهة ودعاة التغيير وإقامة الدولة الديموقراطية من جهة ثانية. الفرز الثاني كان محتملاً أكثر مع بدايات الثورة السورية ومدنية شعاراتها ووطنيتها قبل بدء الانتقال من الطور السلمي إلى الطور العسكري, ثم إلى طور الإسلام الراديكالي المعلَن.
"في أول حملة اعتقالات واسعة في السلمية, وفي أيار 2011, اعتقل جهاز أمن الدولة وجهاز الأمن العسكري في حماه ناشطين في السلَمية على دفعتين, قام بإطلاقهم بعد 48 ساعة من الاعتقال. كان كاتب هذه السطور من الدفعة الثانية التي اعتُقلت ثم تم تحويلها إلى فرع الامن العسكري في حماه. لم يلحظ أي من المعتقلين من أبناء السلَمية سوء معاملة إلا بعض الشتائم بصفتنا (مضلل بنا ومغرر بنا من قبل البعض ). في إحدى جلسات التحقيق معي بصفتي ناشطاً سياسياً ومتظاهراً (من حسن حظي أن ملف الكتابة والنشر لم يفتح حينئذٍ) , كان المحقق يحدثني ورفاقي الموقوفين بما معناه (أن النظام يتعامل بحكمة مع الأزمة)، وهو يقول لنا ما معناه أننا ( لم نتعرض لأي اساءة في الفرع الأمني، وهذا دليل على أن صورة رجل الامن مختلفة عما هي بذهن السوريين). في نفس الوقت كان صراخ بعض المعتقلين من مناطق أخرى, ربما من مدينة حماه, يخترق أذنيّ وكلام المحقق معي, بسبب ما كانوا يتعرضون له من تعذيب.. الأمر الذي عرفْته لاحقاً من خلال مبيتي في زنزانة واحدة مع أحد هؤلاء وهو من قرية "كفرنبودة" في ريف حماه, والذي كانت آثار التعذيب الشديد باديةً على جسمه، وأيضاً بتهمة التظاهر، وهي ذات التهمة التي تم اعتقالي بسببها" [6].
العلويون والثورة السورية
حاول ناشطو الثورة السورية والقائمون على تسمية أيام الجمع التي يتظاهر بها السوريون ضد النظام، توجيه رسائل تحاول كسب العلويين إلى صف الثورة. أطلق ناشطو الثورة السورية على يوم الجمعة في 17 حزيران 2011 اسم "جمعة الشيخ صالح العلي". وقد حدث انقسام في صفوف الذاهبين للتظاهر في هذا اليوم حول الاسم ، إذ طالب البعض بتسميتها "جمعة الشرفاء" رداً على التسمية السابقة [7]. هكذا، بدا أنه ثمة "مسألة علوية بدأت تطفو على السطح"، وبعد تصدر الجهاديين للمشهد السوري والصراع فيه، صار واضحاً أن العلويين، كل العلويين، هم من ينالون النصيب الأكبر من مشهد تكفيري تقوده بعض القوى الإسلامية التي تقارع النظام السوري بالسلاح، وسيصبح الاستسهال والدمج بين النظام والعلويين هو دين وديدن الحركات الإسلامية تلك والمدافعين عنها والمبررين لها ولنشاطها وخطابها، "وسيبرز المكون الإسلامي في الثورة، وينزاح بعضه نحو تبنّي النسخة الجهادية، التي ستسعى ليس فقط إلى (تسنين) الثورة، بل إلى بناء ذاتية سنية لا تعي نفسها إلا عبر التناقض مع الكافرين، وهم في السياق السوري: العلويون أولاً. النظام سيغدو مع هؤلاء «نظاماً نصيرياً»، والعلويون من (القوم الكافرين)، قتالهم واجب". [8]
لكن، وفي مكان آخر من الدور البالغ السوء الذي لعبته الحركات الجهادية، وعلى رأسها "داعش" و"جبهة النصرة" في عزل العلويين عن محيطهم السوري وتعزيز المخاوف الوجودية لدى بعضهم، والعمل على تحويل ذلك المحيط إلى أرض للخلافة، لم يُعرف أن عتبة تماهي العلويين مع النظام هي أقل من عتبة تماهي غيرهم من الطوائف الأخرى، ولم يكن الصِّدام السني – العلوي في مراحل الثورة المتقدمة على علاقة فقط بتنظيمات على شاكلة التنظيمين المذكورين وأشباههما. ويمكن اعتبار المآلات الطائفية في مدينة حمص بعد حوالي عام من الثورة السورية نموذجاً على التحول نحو الصراع الطائفي في يوميات بعض المدن الثائرة.
وليس أبلغ دلالة على ذلك، من ظاهرة "سوق السنّة" التي عرفها حي عكرمة في حمص، وعرفتها مدن أخرى في البلاد بدرجة أقل، و"سوق السنّة" هو عبارة عن سوق تباع فيه المسروقات و"الغنائم" التي يغنمها شبيحة تابعون للنظام ينحدرون من أحياء يفترض أنها "علوية" تبعاً لتسمية سوق المسروقات ذاك. وجدير بالذكر أن "سوق الحرامية" كان سوقاً معروفاً للمسروقات على مدى سنوات طويلة قبل الثورة السورية، قبل أن يتحول هذا الاسم في حمص وفي عكرمة تحديداً إلى "سوق السنّة" [9].
وإلى جانب مجازر النظام التي ارتكبت ضد جل المناطق الثائرة، لأسباب تتعلق بأن تلك المناطق تحوي حاضنة اجتماعية للثورة، كانت المجازر التي ارتكبت على أساس طائفي حاضرة وبقوة، ليس الوحيد منها مثلاً مجزرتي الحولة والبيضا..
مجزرة الحولة، 25 أيار 2012: "قال ناشطون وناجون أن جنود وميليشيا الشبيحة الموالية للأسد والمنتمون إلى الطائفة العلوية هم الذين نفذوا الهجوم على سكان القرية، في إشارة إلى دوافع طائفية وراء هذه المجزرة. وقالت امرأة لم يكشف عن هويتها في لقطات فيديو أنهم من الشبيحة وقد جاءوا من قرى قريبة ". [10]
وقال ناشطون أن قرية الحولة قد اقتُحمت من قبل عناصر شبيحة ينتمون إلى قرى علوية محيطة بالقرية السنية، وبغطاء ناري من دبابات الجيش السوري النظامي.
وقد أكد الجنرال روبرت مود رئيس بعثة المراقبين الدوليين أن 92 شخصاً قتلوا في الحولة بينهم 30 طفلاً في عملية الاقتحام الحاصلة [11]. يذكر أن أبناء القرية قد أرسلوا عدة نداءات استغاثة إلى المعارضة والمجتمع الدولي قبل المجزرة في الفترة التي بدأ التحضير واضحاً لها محذرين من هجوم وشيك، إلا أن مراقبي الأمم المتحدة غادروا المكان فور بدء القصف على القرية.
يضاف إلى مجزرة الحولة، مجازر أخرى ارتكبتها قوات وميليشيات النظام على أساس طائفي، مثل مجزرة "البيضا" في بانياس "2 أيار 2013" ومجزرة كرم الزيتون ومجازر أخرى.. من دون أن ننسى أن ميليشيات طائفية شيعية على رأسها "حزب الله " اللبناني تقاتل السوريين اليوم إلى جانب النظام و"الحرس الثوري الإيراني"، وترتكب المجازر الطائفية أيضاً أسوة بقوات النظام وميليشياته الطائفية. ومع كل تلك التطورات العسكرية ذات البعد الطائفي على الأرض، صار الخطاب الطائفي يعلو أكثر وأكثر ، وهو يتخذ بعداً تحريضياً على "العلويين" عموماً كطائفة، من قبل معارضين سياسيين للنظام، صار خطابهم الطائفي في تحميل طائفة بأكملها مسؤولية عنف النظام وطائفيته يسير جنباً إلى جنب مع خطاب فصائل عسكرية "معارضة" على الأرض، وصارت مغازلة جبهة النصرة وقوى عسكرية متطرفة وجهادية وتكفيرية غيرها حالة تكاد تكون اعتيادية من قبل معارضين يفترض أنهم علمانيون "جورج صبرة وميشيل كيلو مثلاً".
لكن، تجب ملاحظة أن العلويين الذين يعيشون في مناطقهم التاريخية "الساحل تحديداً" يختلفون موقفاً من الواقع السوري اليوم عن آخرين، وهم قلة قليلة جداً بطبيعة الحال، يعيشون اليوم في مناطق "محررة" ويتخذون موقفاً جذرياً من النظام في مناطق يسيطر عليها إسلاميون.
أحد هؤلاء الشباب المنتمين بالمعنى الاجتماعي إلى الطائفة العلوية، يعيش في منطقة يسيطر عليها "جيش الإسلام"، وهو مقيم في تلك المنطقة منذ عام 2006 كما قال في شهادته، وهو يرى "أن الطائفية موجودة أساساً منذ بداية الثورة"، وكانت عقوبته مضاعفة بسبب انتماءه إلى الطائفة عند اعتقاله من قبل قوات النظام بصفته "الابن الضال" كما يقول.
ويعتبر ذلك الناشط أن "مشكلة العلويين هي أن النظام عمل على كسبهم معه منذ بداية حكمه، ومعظم قتلى الجيش اليوم هم من العلويين، بينما يمكن اعتبار أن الطائفة العلوية بالمعنى الإيماني غير موجودة، خاصة أن معظم الشباب العلوي هو شباب بعثي وملحد" وفق تعبيره..
انخراط هذا الشاب جذرياً في الثورة السورية منذ بدايتها، جعله قريباً من قيادات المجموعات في جيش الإسلام، ويرى أنه "من حق أي قوى عسكرية أن تمتلك أي مشروع أو خطاب، شرط أن لا تفرضه بالقوة في المستقبل" ،معتبراً أن "الطائفية ورقة لجذب الدعم من الدول الإقليمية الداعمة للإسلاميين، خاصة وأنهم يريدون السلطة مثل غيرهم".
يمكن اعتبار الطائفة العلوية، تاريخياً وراهناً، رهينة، لدرجة كبيرة، في يد النظام السوري وعائلة الأسد المنتمية لهذه الطائفة، وكان الكثير من شباب ومقاتلي هذه الطائفة خط الدفاع الأول عن هذا النظام في مواجهة الثورة، باعتبار الثورة "وحشاً سنّياً" يريد أن يلتهم العلويين والأقليات الأخرى. وهذا إنما يدل على الجرح الذي لحق بالوطنية السورية الهشة أساساً عبر عقود طويلة من حكم هذا النظام، والذي تعمق مع اندلاع الثورة السورية، كاشفةً كل ما يحبل به هذا المجتمع من احتقان طائفي وغير طائفي. ومع تكاثر المكونات السنية الجهادية، منها من يقاتل مع الثورة ضد النظام ومنها من يقاتل الثورة والنظام معاً، أو ما تبقى من الثورة، ومع سقوط المزيد من الجثث اليومية بنيران طائفية أساساً، صار من الصعوبة بمكان الحديث عن مصالحة وطنية بين مكونات المجتمع السوري بشرائحه الاجتماعية وطوائفه، بذات الاستسهال الذي كان يتم فيه هذا الحديث عنها في العامين الأولين من انطلاق الثورة السورية ضد النظام، أضف فشل الثورة السورية وواجهتها السياسية المعارِضة أساساً في اتخاذ موقف موحد من المسألتين الوطنية والطائفية في البلاد، ومن الظواهر التكفيرية الراسخة اليوم بقوة في أرض الصراع.
هكذا، يمكن توصف حال العلويين والثورة السورية اليوم، بــ : "خوف من الاضطهاد، وارتباط اقتصادي بخزينة الدولة، وغياب لأي نخبة تقدّم خطاباً مختلفاً وناجعاً، ومعارضة وثورة لا تمتلكان الأدوات والظروف الملائمة لجذبهم وتغيير خياراتهم، ونظام فاشي فئوي ورّط أبناءهم بعشرات المذابح الطائفية. ويهيمن فوق ذلك كله خطاب نخبهم العسكرية والدينية والاقتصادية والثقافية، المرتبطة كلياً بالنظام وبخطابه، والأسيرة كلياً للدولة وضرورة صونها والدفاع عنها بأيّ ثمن. وفي هذه المعادلة التي لا فِكاك منها ينزف العلويون ويصرخون صرخات مكتومة، وقد غدا الثمن البشري للمعركة يفوق أيّ احتمال، إذ تتحدث الأرقام عن أكثر من 100 ألف شابّ علوي فقدوا أرواحهم، فيما تتوعدهم جهات كثيرة من بينها داعش بالمزيد من الدماء" [12].
خلاصة
من الصعب بمكان، وفي مطوّلة كهذه تبدو قصيرة تبعاً لتشعب الموضوع وتعقيداته،الإحاطة بكل أو بمعظم المشهد الطائفي الذي يلقي بظله على معظم نقاط ومناطق ومفاصل الصراع في سوريا، إلا أنه من الواضح، وتبعاً للسرد والتحليل والتدقيق في الكثير من الحوادث، أن الطائفية اليوم في سوريا هي منتج مباشر من منتجات السياسة ونحر المسألة الوطنية، أي: عدم انتظام السوريين في إطار وطني عابر للطوائف وانتماءات ما قبل الدولة، غير فئوي. وقد ازداد العمل على تغذيتها ومحاولات إبرازها هوية للمجتمع السوري مع شعور هذا النظام بالخطر الوجودي الذي شكلته الثورة عليه. ومع تكاثر الحديث عن حل سياسي قريب في سوريا، فإنه من الواضح بعد كل ذلك الشرخ والهوة الكبيرة والدماء التي سالت بين السوريين، والتي تورط فيها سوريون بصفتهم من أبناء هذه الطائفة أو تلك، وخاصةً "علويون"، وهو ما سيلقي بثقله على استحقاق المصالحة بعد رحيل الأسد، أن عودة أبناء سوريا بعد أن تضع الحرب أوزارها لن تكون عودة إلى سوريا المأمولة، التي لا يبدو أنها ستكون موحدة جغرافياً أساساً، وللأسف، تبعاً للتقسيمات العسكرية الحاصلة اليوم، وإنما عودة إلى طوائف قد تتحول كانتونات منغلقة على نفسها في مواجهة كانتونات أخرى أيضاً، إلا إن كان هناك حل سياسي مترافق بضمانات داخلية ودولية – إقليمية تمنع استمرار الاحتراب على أساس طائفي أو على أي أساس آخر، وتؤسس لمصالحة لن تكون إلا على المدى البعيد والطويل بعد كل ما حصل ويحصل في سوريا، خاصة بعد أن خرجت المبادرة والقرار من يد السوريين إلى يد القوى الإقليمية والدولية التي تدير الصراع والبلاد اليوم.
وللإيرانيين والفصائل الطائفية الشيعية المقاتلة في سوريا مبحث آخر ..
المراجع:
[1] حنا بطاطو، فلاحو سوريا، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شاناً وسياساتهم، المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسة، ص 406
[2] عبد الناصر العايد، بنية جيش النظام السوري: ميليشيا الطائفة بيد زعيم الطائفة، جريدة الحياة، الجمعة ٢٦ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٤
[3] بثينة شعبان: مشروع فتنة طائفية يستهدف سوريا
http://elaph.com/Web/news/2011/3/641895.html
[4] محمد أبي سمرا، موت الأبد السوري، رياض الريس للكتب والنشر، ص 320
[5] محمد ابي سمرا، مرجع سابق، ص 329
[6] .. وقد فصّلت ذلك وتفاصيل غيره في مطوَلة عن الطائفية السياسية يفترض ان تصدر عن مؤسسة "فريدريش إيبرت" قريباً، ونشرت مقالاً عرّجت فيه على تعامل النظام طائفياً كما هو مذكور أعلاه مع الثورة، في ملحق النهار بعنوان "الطور الثالث في الثورة السورية واحتمالات الــ ما بعد" / - 18 كانون الثاني 2013
[7] نقاشات بين ثوار سوريا حول جمعة "صالح العلي" المرتقبة
http://elaph.com/Web/news/2011/6/662240.html?entry=homepagemainmiddle#sthash.duCDCcs9.dpuf
[8] إياد العبدالله، العلويون: رحلتهم إلى سوريا ورحلتهم منها، مجموعة الجمهورية لدراسات الثورة السورية
http://aljumhuriya.net/6638
[9] للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن قراءة مقال الزميل ألكسندر أيوب في جريدة "العربي الجديد": سورية.. شبيحة يبيعون أغراض الأحياء الثائرة في "سوق الحرامية".
http://www.alaraby.co.uk/investigations/2014/5/28/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B4%D8%A8%D9%8A%D8%AD%D8%A9-%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D9%88%D9%86-%D8%A3%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9
[10] الجزيرة نت، تفاصيل مروعة لمجرزة الحولة في سوريا
http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2012/5/31/%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B5%D9%8A%D9%84-%D9%85%D8%B1%D9%88%D8%B9%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B0%D8%A8%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A8%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
[11] الجنرال مود يؤكد مقتل 92 شخصاً في الحولة، من بينهم اكثر من 30 طفل
[12] صادق عبد الرحمن، صرخات العلويين الضائعة، مجموعة الجمهورية لدراسات الثورة السورية