استعادة القضية السورية


31 كانون الثاني 2016

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

غالباً ما تشكل محتويات الذاكرة السياسية للشعوب عاملاً إضافياً وأحياناً حاسماً في أي صراع سياسي راهن. يكون الماضي، على هذا، عنصراً محدداً في الحاضر. كل طرف في الصراع السياسي يشكل امتداداً لماض ينطوي على تاريخ معين يساند أو يعاند دور هذا الطرف في اللحظة المحددة. وقد كانت الثورة السورية خلال خمس سنوات، مختبراً هائلاً، استثمر فيه الماضي السياسي بطريقة كثيفة. هناك أطراف استثمرت رصيداً تاريخياً وطنياً حققته من قبل، كما ارتد على أطراف أخرى تاريخاً "حققته" في الارتهان والتبعية.

الطرف الوحيد الذي يبقى متحرراً من هذه المعادلة التي ترهن الحاضر، جزئياً، للماضي، هو الشعب وأنواع حراكاته في سعيه المتقطع والمتباعد لصياغة شروط حياته السياسية، أو للتمكن منها. أقصد أنه حين يندلع حراك شعبي فإنه يكون بداية تاريخ، ويكون متحرراً بالتالي من أي ماض أو تاريخ يمكن أن يثقل على حركته أو يرهنه، على خلاف الحال مع الدول أو التنظيمات.

ظلت القضية الفلسطينية والموقف من إسرائيل وأميريكا عصباً حياً في الحياة السياسية للشعوب العربية والإسلامية ولاسيما منها شعوب البلدان القريبة من إسرائيل. أي صلة مع إسرائيل، ولو مصافحة مع مسؤول إسرائيلي، يمكن أن تحرق المستقبل السياسي للشخص. وبالمقابل فإن الرصيد الشعبي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على سبيل المثال، زاد بحدة إثر انسحابه من مؤتمر دافوس في مطلع 2009، احتجاجاً على عدم إتاحة الفرصة له للرد على الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بشأن الحرب على غزة. كان ذلك كافياً كي يتم استقباله في تركيا حين عودته استقبال الفاتحين، والهتاف له على أنه "بطل دافوس".

على هذا المستوى من الحساسية المفرطة تستقر القضية الفلسطينية منذ سنوات طويلة، ولكنها سنوات بقيت أقصر من أن تحيل الجرح إلى ندبة. وهذه القيمة العليا لمواجهة إسرائيل التي تغتصب فلسطين وبعض جوارها، هي ما أعطت حزب الله اللبناني الذي نشأ على مقاومة إسرائيل في 1982، قيمة عليا في الشارع العربي. وجعلت أمينه العام يحتل المرتبة الأولى في الشعبية بين الزعماء العرب، بعد حرب تموز – آب 2006، رغم إشكالية تلك الحرب التي قال حسن نصر الله أنه لو علم حجم الدمار الذي ستجلبه لما أقدم على عملية خطف الجنود الإسرائيليين التي كانت شرارة الحرب. تغاضى الشارع العربي عن التركيبة المذهبية لحزب الله، وتغاضى عن العلاقة الخاصة له مع النظام السوري الرهيب، لا بل ظهر بشار الأسد حينها على أنه أكثر الرؤساء العرب شعبية بسبب تلك العلاقة.

كانت القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل تجثم على صدر القضية السورية وتغلق أمامها الآفاق. وكان ذلك أفضل ما يتمناه ديكتاتور. حليف مقاوم "عقائدي" يحقق انتصارات محدودة، لها قيمة لا شك في ميزان الصراع، ولكنها تبقى (عن وعي غالباً) دون مستوى كسر معادلة السيطرة الاسرائيلية الأكيدة. من شأن هذه العلاقة أن تضخ شيئاً من الحياة في اللغة العروبية المزاودة التي يجيدها النظام السوري، وأن تحجز له مكاناً "ممانعاً" آمناً من الثورات. فعلى الشعب أن لا يشوش على النظام عملية "دعم المقاومة"، ذلك أن المقاومة أقدس من حاجة الناس إلى الحياة الكريمة.

وقد اشتغلت هذه العلاقة وأثمرت في إرضاء قطاع غير قليل من السياسيين اليساريين وغير اليساريين. ولكن مع اندلاع وثبات الثورة السورية تطور إلى حدود لا يمكن السيطرة عليها، الصراعُ بين فكرة المقاومة التي تشكل مصدر قيمة حزب الله وشعبيته، وبين مذهبية الحزب من جهة، واستناده إلى النظام السوري الذي يقوم على القمع المعمم والتمييز والفساد، ويتعامل مع المقاومة كأداة للاستقرار لا للتغيير. في هذه اللحظة سار الحزب مع المركب السوري الإيراني الذي ينتمي إليه ضد فكرة المقاومة، ولكنه اتخذ هذا المسار مدججاً بتاريخه المقاوم ومستغلاً رصيده الشعبي والمعنوي الذي اجتهد بالفعل في تحصيله.

وكما غطى الحزب هذا الخيار الذي اتخذه، بأنها حرب استباقية ضد قوى تريد ضرب المقاومة (تجاهل الحزب وقوفه إلى جانب النظام منذ البداية وعلى مدى حوالي السنة قبل تواجد هذه القوى التي يتحدث عنها) لتوظيف قيمة المقاومة في صراعه الجديد داخل سورية. كذلك أعاد معارضون للنظام السوري النظر في كل تاريخ الحزب، وشككوا في مقاومته من الأصل، حتى أن البعض اعتبره صنيعة اسرائيلية ..الخ بغرض إسقاط ترس المقاومة من يده تمهيداً لشن الهجوم عليه. وبعد كل شيء كان للرصيد المقاوم للحزب ثقل غير قليل في صراعه إلى جانب نظام القتل الأسدي، وكثيراً ما قال موالون للنظام إن البوصلة الوطنية هي حيث يكون حزب الله.

بالمقابل، كان التاريخ السعودي عبئاً على الحراك السوري الذي وجد في السعودية مصدراً للدعم السياسي والمالي. من المفهوم أن السعودية لا تمتلك سواء بتاريخها أو بطبيعة الحكم فيها ما يجعلها حليفاً معقولاً للثورة. ومن الطبيعي أنه أثقل على المعارضة السورية اضطرارها لتلقي الدعم من السعودية (والحال نفسه ينطبق على قطر والإمارات والأردن).

أحدث الصراع العسكري الذي تبلور في سوريا بين النظام مدعوماً من حزب الله "المقاوم"، وقوى إسلامية مدعومة من السعودية وبقية دول الخليج، رضاً في الوعي السياسي العام وخلخل استقراره. في المعسكر الأول نظام يحمل تاريخاً طويلاً من القتل والقمع والفساد، يسانده حزب له تاريخ طويل من التضحية ونكران الذات في مقاومة إسرائيل ومعاداة أميريكا، وفي المعسكر الثاني شعب يريد أن يرفع سقف حياته السياسية ويسترد بلاده من قبضة طغمة حاكمة، تسانده (أو لنقل، للدقة، تساند فصائله الإسلامية) دول تحكمها طغم هي الأخرى ولا تعترف بأي قيمة سياسية حديثة، والأهم أنها دول متواطئة مع إسرائيل وأميريكا.

ظلت القضية الفلسطينة وقضية مقاومة إسرائيل، بعد كل هذا الزمن، عامل تشويش دائم على قضية السوريين في طموحهم إلى نظام سياسي يقوم على القانون والمشاركة السياسية الفعلية. وتحت ضغط الشعور بهذا الظلم المزمن الذي مارسته "المقاومة" على القضية السورية، ورغبة في كسب التأييد الإسرائيلي والأمريكي، تجرأ بعض الكتاب المعارضين على مطالبة المعارضة السورية بتطمين إسرائيل بعدم المطالبة بالجولان. وتجرأ بعض السياسيين المعارضين على زيارة إسرائيل.

في الشكل يبدو أن ثمة تخلٍ وطني، وفي الحقيقة ثمة محاولة خروج، قد تكون خرقاء، من حفرة "المقاومة" التي تحولت إلى قوة محافظة لا قوة تغيير. يبقى أهم ما تحقق على صعيد الوعي السياسي السوري العام، إدراك أن القضية السورية هي قضية مقاومة حقيقية، وأن مقاومة الاستبداد هي مقاومة المحتل في الآن ذاته، وأن المقاومة لا ينبغي أن تتعارض مع الكرامة، ولا مع المشاركة السياسية.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد