تتعرض مدينة دوما بريف دمشق لكل أنواع التوحش والإجرام، سواء عبر القصف بالبراميل أو التجويع والحصار، إلى درجة أن معالم الحياة اختفت فيها، إذ لم يبق نوع من الأسلحة لم يجربه النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، دون أن يتمكنوا من كسر إرادة المدينة التي وقعت تحت هيمنة جيش الإسلام الذي زاد في معاناة أهلها لجهة التضييق على الحريات وممارسة سياسات استبدادية تشبه سياسة النظام بدءا من اعتقال الإعلاميين والنشطاء إن خرجوا عن سياق المسموح به من قبل الفصائل العسكرية أو القضاء الموحد، وليس انتهاءا بالخطف كما تبين حادثة اختطاف النشطاء الأربعة في الغوطة الشرقية، الأمر الذي يجعل أهالي مدينة دوما والمجلس المحلي والنشطاء العاملين في المدينة في حالة تحتاج التضامن معهم، الذي لم يبخل به نشطاء من مدن أخرى بطبيعة الحال، إذ قاموا بتنظيم حملات كثيرة لأجل المدينة الصامدة.
إلا أن بيت القصيد ليس هنا، بل في الإرادة التي تمتلكها هذه المدينة ونشطائها، ليفكروا ويتمكنوا رغم كل الحصار والموت والتجويع والقصف ونقص الأدوية، بأن يقوموا مع اقتراب الذكرى الخامسة للثورة السورية بمظاهرة ليس للتضامن مع أنفسهم والحديث عن جراحهم، بل للتضامن مع مدينة عفرين والأكراد السوريين، رافعين علم الثورة اللافتات التي تحيي نضال الكرد وتؤكد أحقية مطالبهم، حيث قال أحد أعضاء المجلس المحلي، لدى سؤال "حكاية ما انحكت" له عن أسباب خروج هذه المظاهرة، أن لا سببا مباشرا يدفعهم لذلك، وكأن سؤالنا هو المستغرب من قبله، إذ يقول: "لو توقف القصف لساعات محددة يومياً، لخرج أهل دوما تضامناً مع كل قرية ومدينة سورية تتعرض للظلم والقهر، لكنهم لا يضمنون لو تجمعوا غارة تستهدفهم وتوقع أكبر عدد من الضحايا، وما كانت مشاركتهم في هذه الفعالية إلا لأنه قد أتي لهم قليلاً من الوقت بعيداً عن الغارات"، الأمر الذي يعني أمرين اثنين:
أولا، أن تراجع النشاط السلمي ليس بسبب ضعف النشطاء وتهجيرهم، بل لأن القصف والطيران المتواصل بشكل يومي لا يسمح بذلك، والدليل أنهم يقتنصون المساحات الممكنة بين نوبتي طيران ليرفعوا شعاراتهم ويعودوا للبيوت.
ثانيا: أن ما تحدثنا عنه سابقا، من كون أن النشاط السلمي السوري أضحى موسميا ورد فعل، فليس دقيقا كفاية، إذ رغم أن الصورة العامة هي كذلك حقا اليوم، فإن مظاهرة دوما تأتي لتنفي تلك الصورة العامة وتشوشها، مؤكدة أن ثمة استثناء، وأن هذا الاستثناء ليس استثناءا إلا لأن الظروف لا تسمح له بأن يكون طبيعيا.
ماذا يعني هذا كله؟
يعني الكثير، خاصة إذا عرفنا أن النظام وإيران وروسيا وكل الدول الإقليمية والدولية سعت لإغراق الثورة بالسلاح والإرهاب والعنف، بهدف إقصاء النضال السلمي المدني ومسحه من ذاكرة السوريين، لكن هاهو يطل برأسه من بين ردم الحجارة وبقايا البيوت المهدمة، ومن تفاصيل الوجوه الصامدة والأيدي القابضة على زناد الحق المشهر بوجه عالم أصم.
ما جرى في دوما، ويجري إسبوعيا في كفرنبل التي لم تتوقف عن التظاهر يقدم أمثولة ودرسا لكل النشطاء ومؤسسات المجتمع المدني، التي عليها أن تفكر بكيفية العمل على تفعيل الحراك المدني السلمي وإبقائه حيا، لأنه أحد وسائل النضال التي سنحتاجها اليوم وغدا، ويجب أن تكون الجهوزية عالية دائما، ولأنه يمثل دليلا على حيا على أن ثورة السوريين ليس إرهابا أو أصولية إسلامية كما يسعى البعض لتصويرها، وهذا أمر له دلالته الهامة اليوم، في ظل سعي روسيا وأمريكا لاختزال الثورة السورية بالحرب على داعش التي فتكت بجسد الثورة أكثر مما أذت النظام الذي وفر لها كل سبل النمو والتطور للاستثمار فيها.
العودة إلى الميدان، والاستعداد لملء المرحلة الانتقالية (إن أتت) عبر التظاهر بالشارع سيكونا بمثابة الطلقة التي توجه إلى صدر الاستبداد وحلفائه الذي سيجد نفسه في مربع الثورة الأول، إذ لم تتمكن كل جرائمه وقتله وبراميله وقصفه من طمس صوت الحرية الأول، ونداءات المدن السورية لبعضها البعض، والتي كان أولها: يا درعا إحنا معاكي حتى الموت"، وهاهو صوت دوما المتطلع للقاء صوت الكرد دليلا، إضافة إلى توجيه رسالة واضحة للاستبداد بأن "مملكة الصمت" التي حكمتها لم تعود كما كانت لو تتمكن الثورة من إزاحة هذا النظام اليوم، فعليه أن يتعايش مع القلق الدائم والتظاهر المستمر المطالب بإزاحته والمؤكد يوما بعد يوم ودون ملل أو كلل على عدم شرعيته وإن كانت داعش أكثر توحشا وإرهابا منه، وعليه أن يدرك أن استقرار الأمور له ستكون من المحال بعد اليوم.