الطبيب الذي لا يهدأ
خلال دراسته الابتدائية، كان نزار يساعد والده بالحدادة وأعمال الزراعة، وذلك بسبب وضع الأسرة المحدود مادياً، لكنه ما إن أنهى دراسته الثانوية، حتى تعلم مهنة الديكور، التي أصبحت تدر عليه دخلاً جيداً يكفيه خلال الجامعة، وفي عام 2006، حصل نزار على إجازة في الطب البشري، ثم اختص بالجراحة العامة في 2009.
مع بداية الثورة السورية والمظاهرات الشعبية التي عمت كافة أنحاء سوريا، بدأ الشاب المولود عام 1981 بالتفكير بالعمل الميداني لإسعاف المصابين بالأعيرة النارية في الشوارع والساحات، ولأن خوف الاعتقال كان يسيطر على كل من يذهب إلى المشافي الحكومية، فقد اضطر نزار إلى الذهاب لمنازل المصابين، ثم تطور العمل إلى إنشاء نقاط طبية صغيرة، لكنها لم تكن مهيأة لجمع الجرحى وعلاجهم بأجهزة متطورة، فاكتفى بأن يوقف النزف ويزودهم بالإسعافات الأولية، ثم ينقلهم سراً عبر علاقاته مع أطباء يناصرون الثورة ويعملون في مشافٍ حكومية.
اكتشفت المخابرات السورية أمر نزار، فتم استدعاؤه إلى عدة أفرع أمنية مع عدد من وجهاء الأحياء المنتفضة في ريف دمشق بحجة التفاوض لوقف المظاهرات، كان ذلك في الفترة التي سعى خلالها النظام إلى السيطرة على الثورة من خلال التلاعب مع منظميها، أي بين شهر آذار/مارس وشهر حزيران/يونيو 2011، لا سيما في ريف دمشق وحمص، هكذا تم التفاوض بين نزار ورفاقه ورئيس فرع المخابرات الجوية في حي حرستا، العميد محمد رحمون، ثم مع مدير قوى الأمن الجوي في دمشق اللواء جميل حسن، وأخيراً تم استدعاؤهم للحوار مع مدير مكتب الرئاسة، ثم مع بشار الأسد، كل تلك المفاوضات كانت لعبة من النظام لكسب الوقت، حيث إنه لم ينفذ شيئاً من مطالب المتفاوضين، وأولها وقف القتل والاعتقال العشوائي والتعذيب، وبالتالي لم تتوقف المظاهرات.
في بداية تشرين الأول/ أكتوبر من نفس العام، داهم عناصر من فرع الأمن العسكري منزل نزار، لكنه كان غائباً عن المنزل، فلم يتمكنوا من اعتقاله، ومنذ ذلك اليوم تخفَّى واستمر يعمل في المشافي الميدانية ومنازل الثوار بأسماء مستعارة، إلى أن ألقيَ القبض عليه بواسطة كمين في 16 تشرين الأول، وسُجن في الفرع 215 التابع للأمن العسكري لمدة 57 يوماً، ثم حُوِّلَ إلى المحكمة وأخلِيَ سبيله بكفالة مالية.
بعد خروجه من المعتقل، عاد نزار إلى العمل في المشافي الميداني، إضافة إلى دراسته الجامعية، كما تعاون مع الهلال الأحمر السوري، فرع دمشق، فكان يخرج في مهام ميدانية إلى العديد من الأماكن الساخنة في لعلاج المصابين، إلى أن افتتح مركزاً للهلال الأحمر في حي القابون، أيار 2012، وفي نفس الشهر حاز على شهادة الماجستير في الجراحة العامة والتنظيرية.
لم تتوقف مخابرات النظام عن ملاحقة نزار، فداهمت هذا المركز وهددت نزار بالاعتقال بحجة عمله في معالجة المسلحين، حينها غادر المركز بشكل نهائي وتفرَّغ للعمل الميداني متنقلاً بين القابون والغوطة الشرقية والغوطة الغربية، وكان في كل منطقة يستخدم اسماً مستعاراً مختلفاً لتجنب الملاحقة، وعندما اشتدَّ القصف على القابون نهاية عام 2012، استقرَّ داخل الحي بشكل شبه دائم.
مشفى الحياة الجراحي
أنشأ نزار مشفىً ميدانياً كبيراً باسم مشفى الحياة الجراحي في قبو مدرسة مدمرة جزئياً في منطقة "العارضية" في حي القابون، فاستطاع ورفاقه أن يستقبلوا كافة حالات الإسعاف والجراحة، وذلك خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2013 والتي شهدَ حي القابون خلالها قصفاً عنيفاً بشكل يومي، كما قام بتدريب مجموعة من الشباب والشابات المتطوعين للعمل الميداني، من خلال تعليمهم مبادئ الاسعاف الأولي وأساسيات التمريض وكيفية التجهز والتعامل في حالات الطوارئ، لكن كيف كان يتم تنظيم العملُ في هذا المشفى؟.
يقول نزار لحكاية ما انحكت إنه لا يوجد برنامج للعمل، فهو يختلف حسب الظروف الأمنية، ففي أوقات الاشتباكات والمعارك يستنفر الفريق الطبي بكامل جاهزيته لاستقبال المصابين ، حيث يبقى الجميع داخل القبو، وإذا حدث وتوفر لهم بعض الوقت فإنهم يقضونه في متابعة الأخبار على التلفاز وإجراء الاتصالات والأبحاث على شبكة الانترنت، أما الخروج من المشفى في تلك الأوقات فإنه مجازفة لا تحمد عقباها، وفي حالات الهدوء النسبي يوجد برنامج مناوبات وتقسيم للمهام وأوقات معينة لتغيير الضمادات وإجراء الفحوص الدورية وتتمة العلاج.
هذا المشفى/القبو عمل على مدار الساعة، وبجواره شقة أقام فيها نزار مع زوجته والكادر الطبي الذي يتألف من فنيي تخدير وأطباء أسنان وممرضين ومسعفين، وقد تم تأمين المواد الطبية والأجهزة عن طريق مجموعة من الناشطين والمنظمات الإنسانية التي تُعنى بمساعدة الشعب السوري، لا سيما منظمة أطباء بلا حدود.
في 12 تموز عام 2013 بدأت الهجمة الشرسة من قوات النظام في محاولة لاقتحام حي القابون، وكان سقوط أول صاروخ أرض – أرض على الحي من نصيب هذا المشفى، حيث كان نزار متواجداً مع الكادر الطبي وبعض الجرحى. أصيب أحد أفراد الكادر، فاضطروا إلى تأسيس مشفى جديد بعيداً عن الاشتباكات، ونجحوا في نقل بعض المعدات والأجهزة والأدوية إليه، لكن وبسبب فرض الحصار المطبق على حي القابون اضطر نزار إلى العمل بأكثر من اختصاص (جراحة عامة – جراحة صدرية – جراحة عظمية – جراحة مسالك بولية – جراحة أوعية دموية و آخرها جراحة قيصرية).
لحظات صعبة
يحدثنا نزار عن المواقف الفريدة التي مر بها خلال رحلته في علاج الناس خلال سنوات الحرب، كان أبرزها نجاحه بإجراء عملية قيصرية، مع أنها ليست من اختصاصه، لكنه قام بها بعد أن شاهد كيفية إجرائها على موقع "يوتيوب"، إضافة إلى إنقاذه حياة مصابين شبه ميؤوس من حالتهم، منها إنقاذ مريض لديه انقطاع في الشريان الحرقفي الظاهر "إحدى الشريانات المتشعبة من الشريان الأبهر"، مع نزف غزير، كان هذا المريض قد وصلَ إلى المستشفى بحالة صدمة وتوقف قلب، وتم إجراء إنعاش وتعويض سوائل، كما تم وصل الشريان الحرقفي ونجحت العملية بعد فتح البطن ووصل الشريان, لكن المريض دخل بحالة DIC (تخثر منتشر داخل الأوعية) وأصبح ينزف بشدة من جميع الأسطح دون إمكانية السيطرة على النزف, فتم نقل حوالي 30 وحدة دم طازجة، أي من المتبرع مباشرة، لكسب عوامل التخثر للمتبرع والاستفادة منها في الجسد المصاب.
كان المريض فاقداً للوعي وموضوعاً على جهاز التنفس الاصطناعي، جميع الاستشارات الطبية والاتصالات التي أجراها الأهل مع عدد من الأطباء الأخصائيين كانت تؤكد أن المريض ميت لا محالة. لكن نزار وفريقه الطبية تابعوا نقل الدم حتى توقف انحلال الدم عند المريض، فشُفي وعاد لوعيه وأهله وبصحته التامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تم إنجاز هذه المادة بالتعاون بين موقع حكاية ما انحكت وفريق "الإنسان في سورية" وراديو "سوريالي".