جاد الجباعي: ربطات العنق لا تحول دون انفلات الغرائز


02 آذار 2016

إنه نموذج للمثقف النقدي العمومي، ذاك المثقف الذي لم يهادن السلطة في عز جنونها، إذ منعته من السفر واستدعته مرارا لأجهزتها الأمنية, ولم يركن للإيديولوجيا التي سجن بسبب انتمائه إليها، فأشبعها نقدا ونقدا لم ينفك يمارسه حتى اللحظة إلى درجة الاعتذار إذ يقول في هذا الحوار معه، وبكل تواضع العارف: "أنا آسف لذلك"، تخليا عن فكرة دافع عنها سابقا ثم اكتشف خطأها اليوم، ولم يركن أيضا للثورة التي كان من أوائل المشيرين إلى أخطائها وأعطابها، فلم يركن لخطاب المجموع ليكسب "جمهورا" و"شعبوية" زائفة، إذ تمكن وسط "الفرح" بالثورة أن يحافظ على عقله النقدي ومسافته الثقافية من الحدث رغم انتمائه الكبير إلى حلم التغيير.

"حكاية ما انحكت"، يحاور المفكر "جاد الكريم الجباعي" في حوار يبدأ من أحوال دمشق اليوم وأوضاع الحياة فيها، ولا ينتهي عند "المجتمع المدني" و"اللامركزية السياسية" و"حقوق الكرد" كمواطنين وكشعب أيضا، مرورا باقتصاد الحرب وسورية الجديدة.

أجرى الحوار: طارق عزيزة

 

  • أرحب بك أستاذ جاد، وأشكرك على تلبية الدعوة للحوار. قبل الخوض في الأسئلة، وباعتبارك مقيماً في دمشق وتتابع الأحوال السورية عن كثب، هل لك أن تضعنا في صورة الأوضاع هناك، في ضوء المعطيات المستجدّة (الشروع بمؤتمر جنيف3 وتعثّره السريع، تصاعد العمليات العسكرية الروسية، ثم الحديث أخيراً عن قرار لوقف إطلاق النار)، كيف يتفاعل الناس في الداخل مع هذه التطورات، وما مدى انعكاسها على الحياة اليومية، وكيف تقرأ مجمل تلك التطورات؟

- أشكرك صديقي العزيز، وأشكر الأصدقاء القائمين على موقع "حكاية ما انحكت" آملاَ أن نستأنف حواراتنا في دمشق عما قريب. المقيم في دمشق هذه الأيام، كالمقيم خارج سوريا، لا يعرف عن أحوال البلاد إلا من الإعلام (الحربي)، باستثناء ما يسمعه ويراه في محيطه المباشر، وما يتسقَّطه من أخبار أصدقائه. لكن أجواء التصعيد العسكري المحموم في محيط دمشق، توحي بأن الحال كذلك في بقية المناطق، وتوحي، من ثم، بأن قصة جنيف 3، مثل قصة جنيف 2، لن تفضي إلى شيء أكثر من منعطف جديد في أزمة مفتوحة، تزيد من معاناة السوريين وعذاباتهم.

يفترض أن يبدأ وقف "الأعمال العدائية" الآن (منتصف ليلة الجمعة) وأنا أكتب هذه السطور، فيما يرتج بي البيت من انفجارات القذائف والصواريخ التي تتساقط على داريا وغيرها من ريف دمشق، حتى بت أخاف أن تتداعي أبنية في الأشرفية وصحنايا من شدة الانفجارات. يبدو لي أن الأصدقاء الروس مصممون على "حسم عسكري ما"، وبمقدورهم تمييع القرارات الأممية المائعة أصلاً والالتفاف عليها أو عدم تنفيذها.

وثمة ظاهرتان تجعلان المرء أكثر تشاؤماً: الأولى هي تواتر الأعمال الانتقامية، كالتفجيرات في حمص والسيدة زينب وغيرها. والثانية غطرسة قوات الدفاع الوطني، الشبيحة سابقاً، وتجرؤهم على شرطة الحكومة؛ فقد حدث في مدينة شهبا بمحافظة السويداء تبادل إطلاق نار بين عناصر من الدفاع المدني وبين الشرطة التي "تجاوزت حدودها" وأوقفت واحداً منهم مطلوباً للعدالة بعدة جرائم. هاجم الشبيحة، ومعظمهم أصحاب سوابق جرمية، المجمع الحكومي في وضح النهار، وقتلت امرأة برصاصة طائشة، ولم يجرؤ أحد على الكلام.

تتجه الأمور، على الأغلب بخط مستقيم، كما يريدها الروس وحلفاؤهم، نحو أوضاع غير مواتية للحياة الآدمية، لأن الأعمال الانتقامية قد تستمر، وتتصاعد، ولأن هؤلاء المسلحين الأشاوس وأمثالهم في الجانب المقابل هم الذين سيحكمون الناس، تحت رايات مختلفة. قد يكون هناك كثير من الذين ما زالوا في "الداخل" يحسدون اللاجئين، الذين تتزايد أعدادهم باطراد، في شمالي البلاد، بله المهاجرين. سيكون هناك سوريون بلا سوريا. لقد انتصرت السلطة، وهزمت سوريا، اللهم إلا سوريا الأسد، حيث نعيش غرباء عن أنفسنا.

  • أنتقل إلى سؤالي الأول، والذي أشتقّه من عنوان دراسة لك نشرها (مركز دراسات الجمهوريّة الديمقراطيّة)، "نتائج كارثية لاقتصاد الحرب في سوريا". ما المقصود بعبارة "اقتصاد الحرب" وما هي تجلّياته في الحالة السوريّة؟

- فرقت في تلك الدراسة بين "اقتصاد الحرب" وفق تعريفه الكلاسيكي، أي تعبئة الموارد البشرية والمادية وتوجيهها نحو الإنتاج الحربي والأعمال الحربية دفاعاً أو هجوماً، لتلبية الحاجات الطارئة، وبين الاقتصاد السياسي للحرب، الذي يعني السيطرة على جميع مصادر القوة في المجتمع، لتحقيق غايات السلطة الحاكمة. والسلطة، أي سلطة، لا تتغيَّا سوى التوسع والامتداد والديمومة وإحكام قبضتها على محكوميها.

السيطرة على مصادر القوة، وفي مقدمها تنظيمات المجتمع ومؤسساته، علاوة على مؤسسات الدولة، التي جرى تخصيصها، فتحولت إلى مؤسسات سلطة خاصة، بدلاً من كونها مؤسسات عامة، أي مؤسسات دولة، تستلزم من السلطة التمادي في العنف وصولاً إلى العنف غير القانوني وغير الأخلاقي، كما كانت الحال في سوريا، منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، ولا تزال كذلك، وإن بوتائر أشد. السلطة، في هذه الحال، تخوض حرباً باردة وساخنة على المجتمع، وتعمل على تعبئة الموارد البشرية والمادية والثقافية وحشدها لهذه الحرب، التي يتوقف عليها مصير السلطة. هكذا كانت الفاشية والنازية والستالينية. وقد لاحظت حنة أرندت أن هذه السلطات المذكورة قتلت في المواطنات والمواطنين أشخاصهم القانونية، فجردتهم من الحقوق، بما فيها حق الحياة، ثم قتلت أشخاصهم الأخلاقية، فحولتهم إلى قطعان بشرية، (جماهير)، تتصرف بمقتضى غرائزها.

فليس التوحش الذي نعيش في كنفه اليوم سوى نتيجة إيقاظ الغرائز الكامنة في الخافية الجمعية أو اللاوعي الجمعي، كما في خافية كل واحدة وواحد من الأفراد. البدلات الإفرنجية وربطات العنق والأحذية الملمعة والشهادات الجامعية، وخاصة تلك الملمَّعة في الدول الاشتراكية السابقة، لا تحول دون انفلات الغرائز، فما بالك بالشوارب واللحى والدشاديش والجهل والأمية! الاقتصاد السياسي للحرب، هنا، يعني تشكيل نخبة إسبارطية لا تساوي أثينا في نظرها شيئاً أكثر من حذاء هيلين، نخبة لا تجد غضاضة في أن يكون الحذاء العسكري رمزها المقدس. وهذا اقتصاد سياسي للمقدس. الاقتصاد السياسي للحرب هو عسكرة جميع مجالات الحياة وإيقاظ الغرائز الحيوانية وتربية التوحش (تستعمل كلمة "وحش" في الجيش للثناء على القوة والشجاعة). وأنت تعرف جيداً عسكرة التعليم ودورات الصاعقة والمظليين للشباب والشابات واعتبارها معياراً للتفوق، وعسكرة الحياة الجامعية، وعسكرة السياسة وتشكيل المليشيات الحزبية و"الجيش الشعبي" .. فضلاً عن توجيه الموارد المادية لـ "القضاء على الإمبريالية وتحرير فلسطين" .. هذا كله وغيره اقتصاد سياسي للحرب.

  • في الدراسة المُشار إليها، تناولت بالتحليل والنقد المرسوم رقم 19 لعام 2015 الخاص بإحداث "شركة سورية قابضة مغفلة"، وبحسب الدراسة، يجيز المرسوم "قيام شركةٍ قابضةٍ خاصّةٍ كبرى أو عملاقة تعزّز احتكار القلّة ودكتاتورية السوق". ما العلاقة بين هذه المسألة وبين "اقتصاد الحرب"، وما الآثار المستقبلية التي ستترتّب عليها، والتي ستؤدي إلى تعزيز "ديكتاتورية السوق" كما وصفتها؟

أحيلك وأحيل القراء والقارئات على كتاب الصديق جمال باروت: "العقد الأخير من تاريخ سوريا" فقد بحث فيه بالتفصيل سيرورة الانتقال إلى "اقتصاد السوق الاجتماعي"، بل إلى الليبرالية الاقتصادية، وما رافق ذلك من استبدال أدلوجية "التشاركية" بأدلوجة الاشتراكية. وقد هلل الاشتراكيون (الأحزاب الشيوعية الجبهوية وجريدة قاسيون الناطقة باسم الدكتور قدري جميل) للتشاركية، ضاربين بالاشتراكية عُرض البحر. المرسوم المذكور يأتي في هذا السياق "التشاركي"، ولا نعرف من سيتشارك مع من. وقد رأيت أن المرسوم يفتح الباب على مصراعية على عملية خصخصة استنسابية، لنهب ما تبقى، وحرمان المجتمع والأجيال القادمة من الثروة الوطنية وعوائد رأس المال الوطني، وإطلاق رصاصة الرحمة على التنمية، التي باتت توصف بأنها حرية وعدالة، حسب أمارتيا صن. وإذا كان معنى اقتصاد الحرب قد اتضح في الفقرة السابقة، فإن المرسوم 19 يندرج في الاقتصاد السياسي للحرب المفتوحة على المجتمع منذ عام 1963، وقد أشرت إلى بعض محطاتها.

  • الحرب ستنتهي في نهاية المطاف، وسينتهي معها "اقتصاد الحرب"، ما النموذج الاقتصادي الذي تراه الأكثر مواءمة لسوريا ما بعد الحرب، لتجاوز نتائج الحرب الكارثية التي لحقت بها؟

من المؤكد أن الحرب ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، ولكن الاقتصاد السياسي للحرب قد لا ينتهي. لأن السلطة في بلادنا حرب، والسياسة حرب، والثقافة ثقافة حرب، ثقافة بطولة وشهادة وفتوحات وغزوات وما شئت. ما زلنا نعلم طلابنا الفخر بما يسمى اليوم جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. يجب أن تتذكر نشوة أستاذ اللغة العربية وهو يلقي عليك قصيدة "فتح" عمورية:

ما ربع ميَّة معموراً يطوف به غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب

ولا الخدود وقد أدمين من خجل أشهى إلى ناظري من خدها الترب

تسعون ألفاً كأساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب

وغداً سنجد شعراء يتغزلون بخدود حمص وحلب وتدمر وسائر الخدود التربة ... والسيف أصدق أنباء من الكتب.

الشق الثاني من سؤالك يُعجز المتخصصين في علم الاقتصاد والضالعين في الاقتصاد السياسي، وأنا لست من هؤلاء ولا من أولئك. كل ما أعرفه أن المستقبل هو ممكنات الحاضر، لذلك إن ما نتوقعه غير ما نتمناه. غير أن عملية إعادة الإعمار، إذا ما انطلقت، قد تحدد النموذج الاقتصادي الممكن. بومة منيرفا لا تطير إلا في الظلام.

  • العديد من كتبك ومقالاتك تبحث في "المجتمع المدني"، تشكّله، خصائصه، دوره، وآليات عمله. كيف تنظر إلى "المجتمع المدني" في سوريا، خلال السنوات الخمس التي مضت من عمر هذا الصراع المركّب من عناصر مختلفة (الثورة، الحرب، الإرهاب، الصراعات الدولية)، وما المهام المنوطة به راهناً ومستقبلاً؟

لقد قمت بمراجعة رؤيتي للمجتمع المدني، إذ كنت قد وضعته في مقابل المجتمع الأهلي، على التضاد المطلق، وربما غمزت من قناة المدافعين عن المجتمع الأهلي، في غمرة الحماسة، وأنا آسف لذلك. بعد أن كتبت شيئاً عن "المجتمع الموازي" تبين لي أن المجتمع الأهلي يحمل جنين المجتمع المدني، وأن على القوى الديمقراطية العلمانية أن تعمل على رعاية هذا الجنين، وأن تراهن عليه، للحد من تغول إنسان فرنكشتاين الذي صنعته السلطة الشمولية، أعني المجتمع الموازي، الذي صار أباً لأبيه وعدواً لأولاده. الحماسة تجر إلى الغلط في كثير من الأحيان.

أنشأ سوريون داخل ما كان سوريا وخارجها عدداً كبيراً من الجمعيات والمنظمات، تحت عنوان "المجتمع المدني"، وصرت تسمع عبارة العمل المدني والمجتمع المدني في كثير جداً من المجالس والندوات، ولكن بنغمة تختلف عما طرحته لجان إحياء المجتمع المدني، عام 2001، وبدلالات مختلفة. انقمست لجان إحياء المجتمع المدني، بعد ذلك التاريخ، على أمرين: العلاقة بالسفارات الأجنبية والتمويل الخارجي، (ولم يكن هناك في الواقع لا علاقة بالسفارات ولا تمويل خارجي، في حدود معرفتي، وكنت واحداً من مؤسسيها. كان الخلاف على زيارة عضوين من الأعضاء لإحدى السفارات، فطرحت قضية العلاقة بالسفارات وقضية التمويل، نظرياً، سياسياً وأخلاقياً، وربما كانت عوامل الانقسام أبعد من ذلك). اليوم معظم الجمعيات والمنظمات على صلة ما بالخارج وتتمول من الخارج، ولا تخفى علامات اليسر والرخاء على بعض منظِّميها ومنظِّماتها، وكثير من الأنشطة تقام لتلبية شروط الجهات الممولة وبرامجها، وتعتمد أساليبها ومصطلحاتها وتتبنى منهجياتها. لا أعترض على ذلك، في هذه الظروف، ولكنني خائف على المجتمع المدني. وفي مقابل ذلك هربت الرساميل والصناعات الوطنية والخبرات من سوريا إلى دول الجوار ودول بعيدة. هذه المفارقة ستترك آثارها في مستقبل المجتمع المدني.

هناك صلة لا تخفى بين المجتمع المدني وبين الصناعة وتصنيع الزراعة وتطورير الحرفة، ومن ثم بين المجتمع المدني والإنتاج الاجتماعي الموسع، الغزير والكثيف، مع التخصص أو تقسيم العمل، ونشوء النقابات وجماعات الضغط والأحزاب السياسية .. إلخ. هذا النوع الرائج من الجمعيات والمنظمات حسن، ولكنه لا يشكل وحده مجتمعا مدنياً. المجتمع المدني عند هيغل هو منظومة الحاجات، وعند ماركس هو المسرح الواقعي للتاريخ .. هذا أكبر بكثير مما صار يسمى "مجتمعمدني" (تعمدت كتابتها كذلك).

  • في إحدى مقالاتك الأخيرة ناقشت مسألة "اللامركزية" وقلت أنها "خيار وطني ديمقراطي"، ونعلم أنّ لمفهوم اللامركزية أشكالاً ودرجاتٍ عدّة، أيُّ "لامركزية" تلك التي تعتقد أنّها "يمكن أن تكون سبيلاً إلى استعادة وحدة سوريا أرضاً وشعباً، وجعل الاختلاف والتنوّع نعمةً وثروةً وطنيةً وإنسانيةً، وسبيلاً إلى تحوّلٍ ديمقراطيٍّ راسخٍ يصعب الرجوع عنه"، وفق تعبيرك، وما هي إمكانيّة تحقّقها في سوريا؟

أجل، هذا صحيح، لقد صرت مقتنعاً أن الديمقراطية هي المجتمع الديمقراطي، لا النظام السياسي الديمقراطي فقط، وأن المركزية ذات البعد الأسطوري والمعززة لاهوتياً، هي أدلوجة سلطة تريد أن تتوسع وتتعمق وتبتلع محكوميها وتسيطر على مقدراتهم، علاوة على كونها ذكورية متطرفة. ومن ثم فإن المركزية التي تنحل اليوم في مقولة السيادة الوطنية أو القومية، ولا فرق، هي نوع من لاهوت علماني، لم ينقطع عن ماضيه القريب، ويحمل جرثومة التسلط. المركزية الأوروبية مثال ساطع، والأكثر سطوعاً مركزية الدولة القومية المستعمِرة وعلاقتها بـــ "السكان الأصليين" الهمج والأوغاد المتخلفين. كل مركز يقيم هامشاً، وكل متن يقيم حاشية، وكل سيادة تقيم تبعية أو عبودية ولا فرق. هذا في المبدأ. في السياسة ثمة مسألة كردية في سورية، ومن حق الكورد أن يعيشوا أحراراً مستقلين في إقليمهم و / أو يقيموا دولتهم المستقلة أسوة بغيرهم من الجماعات السياسية والشعوب. اللامركزية حل ديمقراطي لهذه المسألة المزمنة، من الأفضل أن يتبناها العرب السوريون قبل الكورد السوريين، من أجل سوريا ديمقراطية وموحدة بالفعل.

لم تعد هذه المسألة في حاجة إلى تنظير، لأنها صارت مسألة سياسية راهنة وملحة، وتتشكل واقعاً جديداً، كان يمكن أن يتشكل بطريقة أفضل، لولا فاشية القوميين، من العرب والكورد على السواء. إغماض العين عن أي مشكلة لا يعني عدم وجودها، ماذا تريدون أن تفعلوا بالكورد أيها العرب؟! هل الوطنية السورية تعني الدوس على حقوق الكورد؟ تباً لوحدة سوريا إذا كانت ستقوم على تهميش غير العرب أو غير المسلمين أو غير السنة من هؤلاء واستتباعهم. المواطنة ليست علاقة طبيعية وانتماء وراثي، بل علاقة مدنية، وانتماء حر، وإلا كيف يكتسب شخص جنسية دولة غير دولته التي ولد فيها، ويمكن أن يتسلم فيها أعلى المناصب؟ من يريد سجن الأكراد أو غيرهم في الوطنية السورية، لا يريد سورية ديمقراطية، لأن سجن الأكراد أو غيرهم لا يمكن إلا بالاستبداد. المسألة الوطنية لا تنفصل عن المسألة الديمقراطية، ومن يفصل إحداهما عن الأخرى يخسر الوطنية والديمقراطية معاً, أليس هذا جوهر مأساتنا، منذ نصف قرن؟! ثم ما الذي يضير "الوطنية السورية" أن تنتخب كل محافظة سلطاتها المحلية ومندوبيها إلى البرلمان المركزي والحكومة المركزية، بدلاً من تسيط أشخاص فاسدين وجشعين وعديمي الضمير من زبانية السلطة المركزية على الناس وتحكيمهم برقابهم وأرزاقهم؟

  • عطفاً على السؤال السابق، أمام تمزّق النسيج الوطني بفعل الاستبداد المديد ثمّ الحرب، في بلد متعدّد القوميات والأديان والمذاهب، ألا ترى أنّ اللامركزية قد تنطوي على مخاطر تعيق إعادة بناء "الوطنية السورية"، وأنت صاحب العديد من الأبحاث حول "الاندماج الاجتماعي" ودوره الحاسم في بناء هوية وطنية عابرة للانتماءات ما قبل الوطنية؟

- اللامركزية ليست مجرد استجابة لتعدد القوميات، بل الإثنيات، والأديان والمذاهب والمرجعيات الثقافية، بل هي خيار ديمقراطي بالفعل، حتى في مجتمع لا يتوفر على تعدد وتنوع، كالمجتمع السوري أو العراقي أو غيرهما. لكن التعدد الذي أشرت إليه في سؤالك يقدم سبباً إضافياً لتبني اللامركزية أو الفدرالية. فلا يمكن تلافي آثار التفاوت الاجتماعي، الذي لا يمكن حذفه، إلا بتعزيز الحريات الأساسية، وتوفير شروط متساوية وفرص متكافئة للأفراد المختلفات والمختلفين والجماعات المختلفة، وتطوير أساليب (عادلة) لتوزيع السلطة والثروة ورأس المال، (بالمعنى الواسع لرأس المال) وسائر الخيرات الاجتماعية، وتحقيق توازن بين الحقوق والالتزامات، وتحويل الأخيرة إلى واجبات أخلاقية. يقصد بالخيرات، الحقوق والحريات والدخل المادي والشروط الاجتماعية، التي يجب توافرها لتحقيق الكرامة الإنسانية، أو احترام الذات، والتساوي في الإمكانات أو القدرارات، لا في الفرص فقط، علاوة على  حرية اختيار الإنسان لما يراه مهماً في حياته وحرية الجماعة في اختيار ما تراه مهماً في حياتها.  فالتساوي في الفرص لا يفيد كثيراً إذا لم تتساو إمكانات استغلالها، كي يتسنّى تضييق الهوة بين الغني والفقير، وبين القوي والضعيف، ولا معنى للفرص المتساوية من دون حق الاختيار. العقد الاجتماعي المنشود هو الذي يقوم على مبادئ المساواة والحرية والعدالة. إن الشروط غير العادلة وغير الإنسانية التي تدفع الفرد إلى الاغتراب من وطنه واكتساب جنسية دولة أخرى، هي نفسها التي تؤسس حق الجماعات في الاستقلال الذاتي، والانفصال أيضاً، علاوة على حرية الاختيار.

  • ختاماً، عندما ستُطوى صفحة النظام الحالي، ما هو تصوّرك لشكل نظام الحكم في سوريا الجديدة، وأنت تعلم مدى الاستقطاب الحاد اليوم بين مشروعين رئيسيين: إسلامي مدجّج بالعقيدة السلاح، وديمقراطي علماني لا يكاد يملك من القوّة إلا ما تحوزه أفكاره من قيم إنسانية عالمية؟

سؤالك يعيدنا مباشرة إلى المجتمع المدني والعقد الاجتماعي. أعتقد أن شكل النظام السياسي الممكن، سواء سقط النظام أم لم يسقط سيحدده مآل الاستقطاب الذي أشرتَ إليه، ومواقف القوى الداخلية والخارجية التي تحميه وتستثمره، بصرف النظر عن رغباتنا وتفضيلاتنا. "تجارة الخوف" أو "إدارة التوحش" لا تستطيع أن تحدد مستقبل شعب، ولا يجوز أن تفعل ذلك، وليس بوسعها أن تبني دولة. الاستقطاب الحاصل هو وليد التطرف، تطرف السلطة وتطرف الإسلام السياسي، وليس بوسعنا أن نتحدث إلا عن أفراد علمانيين ديمقراطيين لاعن قوى علمانية ديمقراطية. لذلك أعتقد أن المدخل الضروري هو معالجة التطرف لا القضاء على المتطرفين. معالجة التطرف ممكنة دوماً وتحول المتطرفين إلى الاعتدال ممكن دوماً، بنزع الأسباب وتغييير الشروط التي تولد التطرف.

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد