يتفق الجميع اليوم على أن إنشاء الأقضية والمحاكم الاستثنائية، يشكل اعتداءا صارخاً، ليس على حرية الانسان وحسب، بل ويشكل اعتداءا على السلطة القضائية نفسها، وقد حظرت معظم دول العالم إنشاء المحاكم الاستثنائية، إلا في الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية التي مازالت تعتمد في تثبيت حكمها على المحاكم الاستثنائية.
وإن استحداث المحاكم الاستثنائية كان يتم في الأصل لمعالجة ظروف استثنائية في زمن استثنائي يقتضي اتخاذ إجراءات سريعة ومؤقتة، ومن ثم العودة إلى الأصل، أي إلى الوضع العادي وفقاً للقواعد العامة المعمول بها في الظروف الاعتيادية.. هذا الأمر يجري في الدول التي تحترم نفسها، حيث يكون القضاء فيها مستقلاً فعلاً وسيادة القانون محترمة من قبل الحاكم قبل المحكوم، ويحتل القضاء الدستوري فيها دوراً بالغ الأهمية، سواء في الرقابة على دستورية القوانين أو في المحافظة على استقرار عمل السلطات ومنع تغول السلطات على حرية المواطنين.
أما في الدول التي مازالت تحكمها أنظمة شمولية استبدادية كبلادنا العربية، حيث لا تأبه الأنظمة فيها لمبدأ سيادة القانون وعلويته على الحكام قبل المحكومين، ولا تحترم مبدأ استقلال القضاء، فتعمل ليل نهار لتثبت حكمها بطرق وأساليب أقل ما يقال فيها أنها بعيدة عن السلوك الديمقراطي، فتهمش القضاء وتنال من هيبته بكثرة سن القوانين والتشريعات والأوامر العرفية، وتتفنن في استحداث محاكم استثنائية تحت مسميات مختلفة ابتداءً بمحاكم الأمن القومي، والمحاكم الميدانية، ومحاكم أمن الدولة ومحكمة الشعب والمحاكم الثورية والإسلامية ومحاكم الإرهاب. الخ. اختلفت التسميات والهدف واحد هو قمع المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان والبقاء في السلطة إلى ما لانهاية.
وفي هذه العجالة سأسلط الضوء على مدى خطورة محاكم الميدان العسكرية إحدى أهم "إنجازات" حزب البعث في سوريا، بعد سيطرته على مقاليد الحكم في سوريا، حيث تفتقت عقلية البعثيين بتاريخ 17/8/ 1968 على إنشاء محاكم الميدان العسكرية بمرسوم حمل الرقم (109). وأخطر ما في المحكمة أنها تجري جلساتها في مكان سرّي، وبشكل سري، وتمنع المواطنين من مراجعتها، ولا تسمح للمحامين بالترافع أمامها وتجري جلساتها بشكل سريع لا يتعدى الدقائق."1"
ونصت المادة الثانية منها على أن تتولى هذه المحكمة النظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية التي يقرر وزير الدفاع إحالتها إليها والمرتكبة في إحدى الحالات التالية: (زمن الحرب- خلال العمليات الحربية أمام العدو وعند حدوث اضطرابات داخلية)"2".
أما المادة الثالثة منها فحصرت أمر تعيين قضاة المحكمة من الضباط العسكريين بقرار من وزير الدفاع أي أنهم ليسوا قضاة متدربين ولا حتى حائزين على شهادة الحقوق. بينما خصت المادة الرابعة منها النيابة العامة فيها بجميع اختصاصات النائب العام وقاضي التحقيق العسكري، أي أنها تقوم بتحريك الدعوى ضد المتهم ومن ثم تقوم بالتحقيق مع المتهم وتصدر قرارها باتهام الشخص الذي تحاكمه وتحيله للمحكمة، وقرارها محصن لا يقبل أي طريق من طعن الطعن نهائيا، أي أنها الخصم والحكم في نفس الوقت.
وأعفى قانون المحكمة أعضاء المحكمة من التقيد بالأصول والإجراءات المنصوص عليها في التشريعات النافذة وفقاً للمادة الخامسة أي أن طريق إدارة الجلسة واستجواب المتهمين وإصدار الأحكام تخضع جميعها لمشيئة رئيس المحكمة. وأما الأحكام التي تصدرها المحكمة فهي لا تقبل أي من طرق الطعن. وإنما للتصديق وفقا للمادة الثامنة منها، حيث تخضع الأحكام الصادرة بالإعدام لتصديق رئيس الجمهورية، أما الأحكام الصدارة بالسجن فتخضع للتصديق من قبل وزير الدفاع. ولكليهما الحق بتخفيض الحكم أو الغائه وحفظ الدعوى. وبعد التصديق على قرار المحكمة فإن القرار ينفذ فوراً سواء كان بالحبس أو الاعدام.
ونص قانون المحكمة على نص غريب، حيث منحها حق النظر بالجرائم المرتكبة اعتباراً من 5/6/1967 أي قبل إحداثها، وذلك خلافاً لمبدأ عدم رجعية القوانين.
أما بالنسبة لكيفية إحالة المتهمين إليها، فلا يوجد معيار واضح، أو أليه محددة للأشخاص الذين تتم إحالتهم للمحاكمة أمامها، بل أن الأمر متروك برمته لوزير الدفاع وحده الذي يحق له تقرير محاكمة من يشاء أمام محاكم الميدان سواء كان عسكرياً أم مدنيا وسواء كان سوريا أم أجنبياً.. وغالباً ما تتم إحالة المتهمين إليها وفقاً لرأي الأجهزة الأمنية. علماً أن الغاية من إنشاء هذه المحكمة بحسب مرسوم إنشائها هي محاكمة العسكريين فقط، دون المدنيين، ولكن النظام عمد إلى محاكمة المدنيين أمامها لاسيما منذ اندلاع الثورة السورية ضده في أذار عام 2011، فلا قانون يمنعه ولا توجد قوة تقف بوجهه، ولا مجلس شعب يطالب بإلغائها كونه مخالفة للدستور السوري نفسه، ولا محكمة دستورية تتجرأ على النظر بدستورية قانون هذه المحكمة أو غيرها من القوانين الكثيرة المخالفة للدستور السور ينفسه.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات المناهضة للنظام في سورية أذار عام 2011 تمت إحالة عشرات الآلاف إلى هذه المحكمة من مدنيين وعسكريين، حيث تتم إحالة الأشخاص المتهمين إليها من قبل الأجهزة الأمنية مباشرة، ونظراً لاكتظاظ سجن عدرا المدني وسجن صيدنايا العسكري بالمعتقلين أمنياً والموقوفين قضائياً، فإنه يتم إيداع الأشخاص المحالين لتلك المحكمة داخل الأفرع الأمنية نفسها، حيث تتم محاكمتهم في تلك الفروع ويقضون عقوبتهم فيها. ولأول مرة منذ تاريخ إنشاء هذه المحكمة تتم محاكمة نساء وفتيات أمامها، وهناك عدد من الفتيات والنساء مودعين في سجن عدرا لصالح المحكمة الميدانية.
ويمثل إنشاء المحاكم والأقضية الاستثنائية اعتداء صارخاً ليس على حرية الإنسان وحقوقه، لابل يمثل اعتداءً على اختصاص السلطة القضائية صاحبة الولاية الكاملة والاختصاص الشامل لمختلف المنازعات لأنها تستمد وجودها وكيانها من الدستور الذي أناط بها وحدها أمر العدالة مستقلة عن باقي السلطات باعتبار أن تلك المحاكم الاستثنائية لم ينص الدستور على إنشائها، كما لا تتوافر فيها الضمانات التي توفرها القوانين العادية وقوانين السلطة القضائية والتي يكفلها الدستور. وإن استمرار العمل بها يتعارضً كليا مع أحكام الدستور السوري نفسه، ولاسيما المادة 51 منه التي نصت: (1-- العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون.2- كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم في محاكمة عادلة.3- حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والمراجعة والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون، وتكفل الدولة المساعدة القضائية لغير القادرين وفقاً للقانون.4- يُحظّرُ النصُ في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. ) "3".
فضلا عن ذلك فإن المحكمة لا تحترم إطلاقاً أياً من المواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، ولاسيما تلك التي وقعت عليها سوريا كالإعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي في الحقوق المدنية والسياسة، ولا تتقيد أيضاً حتى بالحد الأدنى لمعايير المحاكمات العادلة.
وغايتي من الحديث عن محكمة "الميدان العسكرية " هي تسليط الضوء على مدى خطورة استمرار هذا النوع من المحاكم في العمل، ولتشجيع السوريين على الانخراط في حملة لا تنتهي إلا بإلغاء هذه المحكمة نهائياً. وتعديل قوانين إنشاء المحاكم الأخرى كمحكمة الارهاب والمحاكم العسكرية، وكذلك تعديل القوانين التي تنتهك حرية الانسان أو تقيدها، بما يتفق وأحكام الدستور السوري وبما ينسجم مع كافة العهود والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان.
ومن الأهمية بمكان، وفي ظل الدعوات المحلية والدولية الداعية إلى إعادة صياغة الدستور السوري وتعديله بما ينسجم والمواثيق العهود الدولية التي وقعت عليها سوريا، أن يتضمن الدستور السوري الجديد نصاً صريحاً وواضحاً يحظر إنشاء المحاكم الاستثنائية أو سن قوانين تمنع من اللجوء الى القضاء.