وجدت قوات المعارضة السورية المسلحة نفسها إبان سيطرتها على مناطق واسعة من البلاد أمام تحدٍ إداري، غير عسكري، يتعلق بتسيير شؤون مؤسسات "الدولة" التي باتت موجودة الآن في عهدتها بعد انسحاب النظام منه. وكان جهاز القضاء على رأس تلك المؤسسات للنظر بداية في أمر الأشخاص الذين يتم القبض عليهم من قبل عناصر تلك القوات بحجة التعامل مع أجهزة النظام السوري، أو القتال في صفوفه، وصولاً إلى ضرورة تنظيم أمور "المدنيين" القاطنين فيما بات يعرف بـ"المناطق المحرّرة".
ففي "الغوطة الشرقية"، على سبيل المثال، بدأ عمل القضاء منذ بداية الثورة السورية بعد أن طلب عدد من رجال الدين والمشايخ (منهم أ.أ) من بعض المحاميين والحقوقيين العمل على إصدار "قانون شرعي". وقد تم ذلك الأمر بالتعاون بين محامين وقضاة كانوا لا يزالون على رأس عملهم، إنّما أتت مشاركتهم بأسماء مستعارة.
وقد تعددت "الاجتهادات" في محاولة اختيار المرجعية القانونية الأصلح والأنسب للتطبيق. حيث مال بعضهم إلى قانون العقوبات المطبق في سوريا، والذي لايزال معمولاً به في المناطق الخاضعة لسيطرة القوات النظامية، فيما فضّل بعضهم الآخر تطبيق "القانون الجزائي العربي".
بيد أنّ أبرز هذه المحاولات "القضائية كانت تجربة "الهيئات الشرعية" * والتي وإن تكنّت بمسميات مختلفة، بيد أنها جميعاً سعت إلى تطبيق "أحكام الشريعة الإسلامية" بحسب المذاهب والآراء الفقهية المختلفة. وكان لها سمة أخرى جامعة، وهي أنّ قضاتها ومشايخها خاضعون حكماً لهيمنة الفصائل المعارضة المسلحة التي تتواجد بين ظهرانيها.
فلو أخذنا دوما مثلاً، لوجدنا فيها العديد من هذه الهيئات الشرعية، والعديد أيضاً من ملحقاتها "التنفيذية"، وخاصة السجون. فنجد هناك "سجن التوبة"، و"سجن أبي النصر"، و"السجن العادي". وهذا الأخير أشرفت عليه ما تسمى بـ"مديرية منطقة دوما"، واتخذ من مقر "سجن النساء" (الذي كان يديره النظام) مقراً له.
أما عن المحاكمات في هذه الأجسام القضائية داخل المناطق المحررة، فهي تمر بمرحلتين: الأولى هي التحقيق. ويقوم بها محام. وعند ثبوت الجرم بحق موقوف ما؛ كانت محاضر التحقيق ترفع إلى قضاة لا يزالون على رأس عملهم (في المحاكم التابعة لسلطة النظام) وذلك عن طريق "السكايب"، وبعد دراسة الملف المرسَل، يصدر القاضي قراره وفق أحكام قانون العقوبات السوري، وعن طريق "السكايب" أيضاً، وهي المرحلة الثانية.
ويُخضَع للتحقيق كل من تُوجّه لهم تهمة التعامل مع النظام بغرض التجسس على المعارضة (مخبرين، أو "عواينيّة" بالدارجة)، أو ممن يُلقى القبض عليهم وهم يقاتلون في صفوف قوات النظام، أو الميليشيات التابعة له. أما المكان الذي كانت تجري فيه هذه التحقيقات؛ فكان عبارة عن مزرعة في إحدى مناطق الغوطة الشرقية، يتم بالتعاون مع إحدى مجموعات المعارضة المسلحة في الغوطة وضع حراسة مسلحة حولها وعليها.
ولم يمض الكثير من الوقت حتى نشبت خلافات بين القضاة (كانوا في البداية من المحامين والقضاة المنشقين، أو ممن لايزالون على رأس عملهم) وزعامات المجموعات المسلحة. وذلك على خلفية رفض "القضاة" إعدام الموقوفين المتهمين بالقتال إلى جانب النظام أو بالعمالة له دون محاكمة. وهذا بعكس ما كانت المجموعات المسلحة تريده. والتي كانت عملياً أميل إلى تنفيذ الإعدام بحق هؤلاء فور أسرهم، أو بعد تحقيق شكلي معهم. ومع تعدد الفصائل المسلحة في الغوطة الشرقية؛ تمّ بناء سجن كبير في إحدى مناطق الغوطة يتألف من ثمانية غرف جماعية، وأربعة انفرادية.
وسرعان ما بدأ رجال الدين بالتدخل أكثر فأكثر في عمل القضاة الحقوقيين، مختلقين المشاكل والنزاعات للسيطرة على مقاليد القضاء والمحاكمات في "المناطق المحررة". وبعد جدل كبير أفتى هؤلاء المشايخ بعدم جواز إصدار الأحكام عبر "السكايب"، وعدّوه أمراً مخالفاً للشريعة الإسلامية، قائلين إنّه يتوجب على القاضي التواجد على رأس عمله بشكل عملي ومادي أثناء إصدار الأحكام. ما دفع القضاة المتعاونين من خارج المناطق المحررة (والتي أصبحت محاصرة لاحقاً) إلى التوجس من هذه الفتاوى، وبالتالي الامتناع عن دخول الغوطة الشرقية.
ومن هنا بدأ نفوذ وسطوة ما يسمى بـ"الهيئات الشرعية" بالازدياد على أمور القضاء. بالرغم من افتقار هذه الهيئات إلى خبراء قانونيين، ومحامين وقضاة محترفين، أو ملمين بأصول المحاكمات العادلة. واقتصرت تلك الهيئات على رجال دين لا خبرة لهم ولا مراس في شؤون القضاء والتقاضي، ناهيك عن أنهم غير مؤهلين قانونياً للقيام بذلك بأي حال من الأحوال.
ولم تعترف هذه "الهيئات الشرعية" بأي دور لمحامِيْ الدفاع أو الوكلاء القانونيين، بحسب الأعراف القضائية. كما أن الافتقار إلى لوائح وقوانين محددة العقوبة لكل جرم؛ جعلت العقوبة الموقعة بحق "المدانين" تختلف من "هيئة شرعية" إلى "هيئة شرعية" أخرى.
بيد أن المفارقة الأخطر في هذا السياق تمثلت بعدم تواني زعامات الفصائل المعارضة المسلحة (والداعمة نظرياً وعملياً لهذه الهيئات) عن الضرب بأحكام وقرارات هذه الهيئات إيّاها عرض الحائط، وعدم الانصياع لها أو تطبيقها في حال لم تناسب توجهات تلك الفصائل! ناهيك عن أنّ بعض هذه الفصائل كان يستمرّ في عمليات اعتقال وخطف "عملاء" النظام و"مقاتليه" وإخفائهم في أماكن سريّة، وغير معلومة لـ"الهيئات الشرعية" نفسها. وهذا كله في ظل شحّ الموارد القانونية والمالية لهذه "الهيئات".
وشمل نفوذ "الهيئة الشرعية" التي نتناولها في مثالنا جميع مناطق الغوطة، فيما عدا مدينة دوما (أنشا جيش الإسلام هيئة شرعية خاصة به فيها). وبدأت الهيئة عملها أول الأمر بحسب الأصول المتعارف عليها في عمل المحاكم وفق القوانين السورية الوضعية. فتمّ إنشاء دواوين، ونيابة عامة، وكُتاب قضاة. كما أنشئت "أحوال مدنية" بإشراف لجنة (مؤلفة من محاميين اثنين وشيخ واحد) كان لها صلاحيات البت في شؤون الزواج والطلاق والإرث وإثبات النسب.
وتألفت الهيئة الشرعية من 11 شخصاً، ثلاثة منهم محامون. **
رئيس مكتب قضائي (بمثابة المحامي العام). وتم تعيين شيخ في هذا المنصب، يساعده قضاة النيابة العامة وعددهم ثلاثة، وهم من خريجي كلية الحقوق.
ثلاثة لجان قضائية: جزائية، ومدنية، وشرعية. وتتألف كل لجنة من شيخين ومحام ممارس.
ثلاثة قضاة تحقيق من خريجي كلية الحقوق، أو من طلبتها. (تمّ بتدريب محققين من حملة الشهادة الإعدادية، أو من العوام لعدم وجود كوادر كافية).
وكان للهيئة عدة مكاتب قضائية في كافة مناطق الغوطة الشرقية، إلى جانب مكتبين في منطقتي برزة والقابون. وتم إقامة تواصل مع فصائل المعارضة المسلحة في الغوطة الجنوبية في دمشق، وتأسيس مكتب في منطقة ببيلا، وعدة مكاتب أخرى في الغوطة الغربية. وكانت المكاتب القضائية في باقي المناطق تتألف من قاضي صلح، ومحقق، ورئيس قسم شرطة، إضافة إلى أفراد مساعدين. أما تطبيق الأحكام القضائية، فقد كان يستوجب الحصول على مساعدة الكتائب المسلحة المتواجدة في المنطقة.
من جهة أخرى، لم يكن القضاة يتمتعون بأية حماية خاصة من أي نوع. وقد جرت عمليات اغتيال لبعضهم، فيما تعرض آخرون لمحاولات اختطاف. من دون التمكن من توجيه إصبع الاتهام إلى جهة بعينها إما بسبب تعدد الجهات المستفيدة من غياب أية سلطة قضائية في هذه المنطقة، أو بسبب المتضررين من أحكام هذا القضاء.
وكان أن حدث خلاف بين قضاة الهيئة الشرعية وبين مشايخ دوما أنفسهم (رغبة منهم في السيطرة على الهيئة كم سبقت الإشارة). وتمحور الخلاف حول مصير السجناء الموقوفين لدى الهيئة التي طلبت من بقية المشايخ تشكيل لجنة متابعة مشتركة في دوما وحزة، ، لكن عدم تعاون "زهران علوش" (قائد "جيش الإسلام" والذي سيتم اغتياله لاحقاً) حال دون ذلك، على الرغم من أن رئيس الهيئة الشرعية ونائبه والقاضي الأول للغوطة ونائبه (الشيخ "سعيد درويش"، والشيخ "أبو ثابت"، والشيخ "أبو أحمد عيون"، والشيخ "أبو سليمان طيفور" على التوالي) جميعهم من أهالي مدينة دوما. ليبقى "سجن التوبة" تابعا لفصيل "علّوش" وحده.
وعندما أرادت الهيئة الشرعية معرفة ما يدور في ذلك السجن؛ عمد بقية المشايخ إلى تشكيل لجنة خاصة بهم، سموها "لجنة قضائية"، أقصوا عنها كل من كان لديه اختصاص قانوني. الأمر الذي دفع الهيئة الشرعية في حينه إلى الاستقالة. وبذلك أصبحت الهيئة الشرعية مؤلفة من مشايخ فقط. ما دفع عددا من القضاة الحقوقيين في الهيئة القديمة إلى مغادرة البلاد (كونهم لم يكونوا معروفين لمخابرات النظام بأسمائهم الحقيقية)، فيما بقي بعضهم الآخر في الغوطة.
وبعد الخلاف بين "الهيئة الشرعية" و"جيش الإسلام" من جهة، وبين القضاة الحقوقيين والمشايخ من جهة أخرى؛ تم تكوين شكل جديد للقضاء في الغوطة أطلق عليه اسم "القضاء الموحد للغوطة الشرقية"، وجميع من فيه مشايخ، بيد أن رئاسة النيابة العامة فيه أصبحت للقاضي الحقوقي "أ.م". كذلك فإن قضاة التحقيق هم محامون أيضاً، بيد أنّ قضاة الحكم هم من المشايخ فقط. وقام هذا "القضاء الموحد" على نفس آليات عمل وهيكلية وتنظيم "الهيئة الشرعية".
خضعت للهيئة الجديدة معظم الفصائل المسلحة في الغوطة، إلا "لواء الإسلام". كما أنّ "جبهة النصرة" أعلنت خضوعها لهذه الهيئة وأرسلت ممثلاً عنها إليها، لكنها سرعان ما انشقت عنها لاحقاً.
وقد أثارت الهيئة المستجدة حفيظة الناس الذين اعترضوا على أحكامها "المزاجية" مرات عدّة. مزاجية كان المشايخ أنفسهم يردونها إلى مراعاتهم مبدأ "وأد الفتنة بين الفصائل"، الأمر الذي جعلهم في نهاية المطاف يصدرون أحكامهم الصارمة على الضعيف مدنيا كان أم فصيلاً. أما القوي الذي تستعصي مواجهته فيتلقى في العادة أحكاماً تراعي مصالحه. فلا تتورع تلك الهيئة وهذا حالها عن الرمي بالسارق الصغير في الحبس شهوراً حتى ولو سرق ليأكل، فيما يمرح ويسرح لصوص كبار بلا حسيب ولا رقيب. ***
هوامش:
* تألفت أول هيئة قضائية من أربعة أفراد كانت لهم سلطة الحكم في كافة الأمور القضائية. وضمت في تشكيلتها، في حينه، ثلاثة مشايخ ومحام واحد. وكانت مهمتهم دراسة الملفات القضائية لإصدار الحكم فيها، مع اشتراط المشايخ عدم تدخل أي حقوقي (محام أو قاض) في مجريات عملهم. ولم يلبث المشايخ أن أبعدوا كل الحقوقيين عن دائرة الحكم واتخاذ القرار، ليقتصر عمل الحقوقيين على الشؤون الإدارية، تاركين إصدار الأحكام النهائية في يد المشايخ الجاهلين بآليات التقاضي والمحاكمات، والخاضعين لأمزجة وأهواء زعامات فصائلهم المسلحة.
** واستمر العمل في هذه الهيئة لمدة ستة أشهر بشكل جيد ولم تصدر أي حكم بالإعدام، لكن كان هناك كتائب تقوم بإصدار حكم الإعدام دون علمها وحتى لم تكن تعلم باعتقال هؤلاء الأشخاص اصلاً ولكن كانت جثثهم تنتشر في المنطقة.
*** تعتمد الهيئة الشرعية في أحكامها على مبدأ التعزير في الإسلام، مع تطبيق أحكام شرعية وفق ما جاء في كتب الدكتور وهبة الزحيلي. أما جبهة النصرة فكان لها بداية قضاء مستقل يرأسه قاض مستقل (أبو خديجة)، ثمّ اندمجت في الهيئة القضائية قبل أن تعود إلى العمل بشكل مستقل معتمدة على أحكام ابن تيمية. أما جيش الإسلام فيقضي مشايخه وفق أحكام المذهب الوهابي.