الفرح الذي ضجت به وسائل التواصل الاجتماعي مع عودة المظاهرات إلى سورية بعد الهدنة، لم يمنع الحزن السوري من الفيضان، إذ لا يكد السوريون يلامسون الفرح حتى تأتي أحداث جسام تعيدهم إلى حزنهم المكنون. هذا ما جرى حين أقدمت داعش على إعدام الشاعر السوري "بشير العاني" وابنه من مدينة دير الزور بتهمة الكفر والردة، حيث أعلن السوريون غضبهم وحزنهم، الذي لم يكفه موت الشاعر، حتى أتبع بنفس اليوم بوفاة المناضل والنقابي "عمر قشاش" الذي توفي في مدينة السلمية، وهو المناضل الشيوعي الذي عرفته سجون الاستبداد الأسدي في ثمانيات القرن الماضي لمدة خمسة عشر عاما، حيث وصفه "زيد مالك" بأنه: "عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري وقت الانشقاق سنة 1972، واللي ضل بالحزب إلى جانب رياض الترك لما رجعو "الثلاثي"، ظهير عبد الصمد ودانيال نعمة وابراهيم بكري لعند حزب خالد بكداش، لكن بعد ما كان لزق عالجناح المتمرد اسم الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي.أ بو عبدو نقابي وكادر عمالي رفيع الأخلاقية، كان يشارك متل اللي أزغر منو بأكتر من 30 سة بالحياة اليومية بالسجن. رجل شعبي بأحسن معاني الكلمة.اعتقل بتشرين الأول سنة 1980 وقضى 15 سنة بالسجن. وكان قبلها اعتقل سنة 1978 وضل شي سنة ونص، وطلع بربيع 1980. وماني متأكد إذا اعتقل بأوقات سابقة...متل كثيرين جدا، رحل أبو عبدو والبلد بحالة مأساوية، لكنه عاش لنحو 90 عاما ورأى كثيرا.السلام لروحك با رفيق عمر"، في حين كتب "أحمد حسو": "الله يرحمك يا أبو عبدو (عمر قشاش)، رحلت دون أن ترى بأم عينيك سقوط هذا النظام، الذي ضحيت بكل شيء من أجل إسقاطه. كان شجاعا وعصاميا وكنا نستمد منه الصبر والقوة في السجن".
آثر السوريون أن يودعوا هؤلاء بما يليق بهم، بكل ما استتبع ذلك من نقد منظومتي الإرهاب والاستبداد، مؤكدين رفضهم لهما، وأن الاستبداد الديني صنو للاستبداد السياسي، رافضين بذلك المقايضة التي يقول بها البعض أنه خطر أحدهما أقل من الأخر، فكلاهما بالنسبة للسوريين جلاد لا يفرق بين دمائهم، حيث كتبت الروائية "مها حسن": "الشاعر بشير العاني، لم أكن أعرفه.. داعش: إجرام بلا حدود"، في حين كتب "علي سفر": "لو كنا في بلد غير سوريا ورحل عن حياتنا مناضل كعمر قشاش.. لأعلن الحداد في طول البلاد وعرضها.. ولكن نحن في سوريا، نهر الموت الدفاق..عمر قشاش، المجد لروحك و الخزي و العار لمن باع المبادئ واشترى العبودية عند الأسد".
الشاعر بشير العاني، بقي في مدينته دير الزور التي ألبستها "داعش" السواد، مقاوما إياها بالكلمة والفعل، وناقلا على صفحته عبر الفيسبوك انتهاكاتها بحق الأهالي، حيث كتب الشاعر "مروان علي": "الذي قايض الطمأنينة بالهزائم .بشير العاني. وداعاً"، في حين كتب الشاعر "محمد فؤاد": "إعدام الصديق الشاعر بشير العاني وابنه اياس من قبل معتوهي تنظيم الدولة في دير الزور، الملتاثين في عقولهم، حثالة البشر ونفاية الحياة.لاتنسجم مفردة " بشير" مع مفردة "إعدام" - هذا الرجل الذي رغم كل ماجرى في هذه المدينة المكنوبة من سنوات طويلة، كان لايزال يرى فيها مكاناً للعيش، يدفع وابنه ثمن كل اخفاقات العالم.بشير ياصديقي الغالي... أصيح من قهري. أصيح من قهر سيبقى معي إلى آخر هذه الحياة التعسة. أصيح يابشير حين لم يعد من أحد يسمع"، علما أن الحزن لم يكن بعيدا عن حياة الشاعر قبل رحيله أيضا، إذ قضى أياما رفقة زوجته التي وافتها المنية بسبب إصابتها بالسرطان، حيث كان آخر ما كتبه على الفيسبوك: "يا أماني.. مايخفف عني أني استطعت أن أحفر لكِ قبراً وأن أهيل التراب على جسدك الجميل..بلى.. هذا ما يخفف عني الآن وأنا أراقب الأجساد المعلقات على الأعواد بانتظار شفاعة الأمهات كيما تترجّل.. هذا إن بقيت للأمهات هذه الأيام شفاعة لدى أمراء الحرب،(حجّاجي) العصر..وبالذعر البشري الذي تستطيعه روحي أفكر بالجثث المرمية في المدن والمزارع والبلدات.. جثث برؤوس وبلا رؤوس.. من سيأبه بها أكثر من القطط والكلاب الشاردة.. و(الحقَّ أقول لكم.. لا حقّ لحيّ إن ضاعت في الأرض حقوق الأموات)"،وهو البوست التي تحول إلى المادة الأكثر تواترا على الفيسبوك، حيث اختار زملاؤه والمفجوعون بموته أن يؤبنوه بكلماته، وهل أجمل للشعر من أن يؤبن بكلمات كتبها!
كتب الشاعر "عمر قدور"، لحظة حزن مكثف كان شاهدا عليها في حياة صديقه العاني، إذ قال: "آخر مرة التقيت بها بالصديق بشير عاني قبيل مغادرتي الشام، كان برفقة زوجته التي دخلت محل ألبسة رياضية لتشتري بيجاما لابنها. ونحن ننتظرها خارجا أخبرني بشير بأنها مريضة بالسرطان، وقد تفارق الحياة من دون رؤية ابنها الموجود في دير الزور. كان صعبا علي النظر إلى زوجته عندما خرجت، وقلت لنفسي يوما ما سأعاتب بشير وأقول له: من تظنني لتحملني عبء معرفة أنها محكومة بالموت؟! الآن كبر العتب كثيرا يا صاحبي: من تظنني لأحتمل خبر استشهادك مع ابنك؟".
لم يخلو الطريقة التي مات بها "العاني" من سجال بين المثقفين السوريين، حيث رأى المترجم "ثائر ديب": "حين اقتحمت داعش إحدى القطع العسكرية، وصفَ أحدهم ذلك بأنّه: "ناب كلب في جلد خنزير" ، وهو الآن يشهق بالبكاء على إعدام داعش الشاعر الشهيد بشير العاني وابنه. من قَبِلَ داعش حين اقتحمت مطاراً أو قتلت جنوداً، لا حق له، أخلاقياً، أن يشتمها حين تعدم شاعراً. دماء الشاعر، كما دماء الجنود، في رقابكم ،وفي أسرّتكم وحليب أطفالكم".
ليس ما يجمع بين وفاة قشاش والعاني أنهما رحلا في وقت واحد، بل توحدا في غربة الجثمانين عن دفن يليق بهما، حيث كتب علي سفر: "سيوارى عمر قشاش الثرى في مدينة السلمية، بعيداً عن حلب..ويا ترابها.. كن له دفئاً.. وسلاما.."، في حين رفض داعش تسليم جثمان الشاعر لذوويه، حيث أفادت "مصادر ميدانيّة أنّ التنظيم رفض تسليم الجثث لذوي القتلى، كما رفض أن يدلي بأي معلومات بمكان دفن الجثث، ومنع أهلهم من إقامة العزاء أو أي من مظاهره"، وفق ما نقل موقع "كلنا شركاء" الإخباري، لينضما بذلك إلى قوافل الشهداء السوريين الذين رثتهم سورية، ولازالت في خضم ثورة لا تني تواصل طريقها رغم كل الأهوال والجنون المحيط بها والمقيم فيها.