ما أن يتم إحالة إحدى المعتقلات السياسيات إلى سجن النساء في مدينة عدرا جنوب دمشق؛ حتى تبدأ في تلقي ما يشبه التهاني والتبريك وكأنها ولدت من جديد.
ذلك أنّ المقولة الدارجة (الداخل مفقود، والخارج مولود) تنطبق حرفياً على سجون وأقبية أجهزة النظام "المختصّة" والميليشيات التابعة.
وإن كان الانتقال إلى سجن "عدرا" أخف وطأة من البقاء في زنازين الميليشيات الأمنية؛ بيد أنه لا يعني في نهاية المطاف سوى بداية مرحلة جديدة من الانتهاكات والتجاوزات.
ثمّة نوعان للسجون التابعة للنظام الحاكم في سوريا. سجون رسمية معلن عنها، ومعتقلات أخرى سريّة تخضع لإشراف الأفرع الأمنية والميليشيات التابعة لها.
أمّا سجن النساء الرسمي فقد نقلته سلطات النظام من مدينة "دوما" في ريف دمشق، بعد سيطرة قوات المعارضة المسلحة عليها، إلى بناء تابع لسجن دمشق المركزي للرجال في مدينة عدرا لفترة قصيرة، قبل أن تعود فتنقله إلى مبنى مستقل مجاور لسجن دمشق المركزي للرجال.
المقرّ الجديد لسجن النساء يقع على خط تماس عسكري، ما يجعل السجينات الجنائيات والمعتقلات السياسيات الموجودات في داخله واقعات بين مطرقة قوات النظام وسندان فصائل المعارضة المسلحة. وذلك في ظل غياب أي رقابة حكومية أو دولية أو أممية. الأمر الذي حوّل نزيلات هذا السجن إلى سلاح حرب يستخدمه النظام في مواجهة معارضيه سواء بشكل مباشر كدروع بشرية، أو من خلال جعلهنّ أدوات للتفاوض أوالمناورة والإذلال مع قوات المعارضة المسلحة.
وراء أسوار هذا السجن، لا وجود لأي فصل في الإقامة بين السجينات الجنائيات (متهمات أو محكومات بجرائم المخدرات أوالسرقة أوالدعارة..) والمعتقلات الأخريات على خلفية سياسية. إذ يتم وضع الجميع في مهاجع مشتركة، حيث تقوم سلطات السجن بتحريض السجينات الجنائيات على إساءة معاملة معتقلات الرأي، مع غياب أية عناصر أمنية نسائية داخل السجن، حيث أن جميع الحراس هم من الرجال، ما يفسح المجال لكافة ضروب الإساءة والانتهاكات.
الأوضاع الأمنية
بسبب الاشتباكات المستمرة بين أطراف النزاع المسلح قرب حدود السجن؛ تقع نزيلات هذا السجن تحت رحمة مسلحي الطرفين، وتستخدمهنّ قوات النظام المتواجدة في تلك المنطقة كدروع بشرية للحيلولة دون تقدم القوات المعارضة. ونتيجة لهذا الوضع الأمني القلق تعيش نزيلات هذا السجن خوفاً ورعباً دائمين.
ومن الأحداث الموثقة ذات الدلالة التي وقعت في السجن؛ سقوط أحد العناصر الأمنية داخل المعتقل برصاص قنص من جهة الفصائل المعارضة، فما كان من المعتقلات السياسيات حينها إلا أن أطلقنَ العنان للزغاريد والتكبير، نظراً لأن العنصر القتيل كان معروفاً بإساءته معاملتهنّ بشكل روتيني. ونتيجة لردة فعل النزيلات تلك ما كان من بقية عناصر الأمن في السجن إلا أن انهالوا على السجينات بالضرب والتعنيف، ناقلين بعضاً منهنّ إلى زنازين انفرادية، ناهيك عن صعوبة أوضاع الإقامة السيئة أصلاً، والانتهاكات اللفظية والجسدية الممنهجة التي تتعرض لها النزيلات بشكل روتيني.
ظروف الإقامة
كحال جميع المناطق السورية، أضحت الكهرباء رفاهية لا يحظى بها الجميع، فهي دائمة الانقطاع. أما مياه الشرب، فالملوث منها هو المتاح للنزيلات، مع انعدام مياه الاستحمام الساخنة. وبالنسبة للمنامة؛ فعدد الأسرّة محدود جداً، مما يضطر معظم نزيلات السجن إلى افتراش الأرض في الليل والنهار، مع نقص كبير في الأغطية، وغياب التدفئة المركزية، الأمر الذي يجعل ليالي الشتاء الباردة أكثر حلكة وقسوة. لتأتي الرطوبة فتزيد من الأمراض بين النزيلات، ناهيك عن تدني مستوى النظافة في المهاجع.
كما تجد النزيلات أنفسهنّ بحاجة إلى مبالغ مالية طائلة كي يسمح لهنّ باستخدام الهواتف الجوالة العائدة لسجانيهنّ للتواصل مع ذويهنّ. ونادراً ما يستطيع الأهالي زيارة قريباتهنّ داخل السجن، بالنظر إلى عدم معرفتهم بوجودهنّ داخل هذا السجن أصلاً، خاصةّ المعتقلات السياسيات منهنّ. كما يواجه الأهالي صعوبات في إدخال الطعام إلى قريباتهنّ الموقوفات، هذا في حال استطاع أولئك الأهالي تجاوز الاشتباكات العسكرية بين القوات المتحاربة على الطريق المؤدي إلى الباب الرئيسي للسجن. حيث يخيم شبح الموت على الطريق الذي يحتاج بين 20 و 30 دقيقة لعبوره على أقل تقدير، وسيراً على الأقدام حصراً. إذ يعدّ استخدام السيارة أو أي واسطة نقل أخرى بمثابة انتحار على اعتبار أن قناصة الطرفين تتربص بكل ما يتحرك في تلك المنطقة. وهذا أمر يجعل السجانين والعناصر الأمنية المسيطرة على السجن يسلكون طريقاً مخفية محاطة بحقول ألغام تقع بين سجن الرجال وسجن النساء. وسبق أن تعرضت إحدى المحاميات لانفجار لغم من تلك الألغام لدى محاولتها استخدام تلك الدرب.
الطعام ومياه الشرب
في حال توفر الطعام للنزيلات فسيكون غاية في الرداءة. ولا يتعدى كونه طعاماً مسلوقاً خالياً في الغالب من مادة اللحم. علاوة على أن الكميات الموزعة قليلة جداً لا تسمن ولا تغني من جوع. ولا يراعى في هذا الطعام حاجة بعض النزيلات الحوامل أو المرضعات أو ممن يرافقهنّ أطفال قصّر بحاجة إلى نظام غذائي خاص. حيث يعدّ إدخال حليب الأطفال من المستحيلات.
وفي حال الطلب من السجانين إحضار بعض الأطعمة أو الأدوية؛ فسيكون المقابل المادي كبيراً، أو حتى ما هو أسوأ، أي رضوخ السجينة لنزوات السجان الجنسية.
الطبابة والرعاية الصحية
يفتقر سجن النساء إلى أي نوع من أنواع الرعاية الطبية أوالصحية. فلا وجود لمستوصف طبي ملحق به، وبالتالي لا وجود لأطباء فيه. ومن المتعذر أن تحصل أية سجينة أو معتقلة تصاب بأي مرض على عناية طبية ما. وحتى في الأوقات الدورية الشهرية لا تجد السجينات والمعتقلات ما يغطي احتياجاتهن الخاصة. ناهيك عن أن الحامل لا تحظى بأية مراعاة خاصة كما هو مفترض. ونادراً ما تحظى السجينات الحوامل بفرصة الولادة في مشفى بسبب الأوضاع الأمنية الخطيرة المحيطة بالسجن. وعليه فإن الولادات تتم بين جدران الزنازين، فيما تقوم السجينات أنفسهنّ بمساعدة بعضهنّ بعضاً في حالات كهذه، وهو أمر محفوف بالمخاطر، وقد ينتهي بوفاة الوليد الجديد كما حدث فعلاً، علاوة على حدوث مضاعفات صحية عند الأمهات (الولّادات) من نزيف وسواه. أمّا في مرحلة ما بعد الولادة فلا تستطيع أية أم سجينة الحصول على المساعدة الدوائية أو الغذائية الضرورية لها ولمولودها. كما يجري تجاهل تسجيل معظم أولئك المواليد في السجلات الرسمية كما هو واجب ومفروض.
أم فيما يتعلق بالأمراض المزمنة، فلا تجد النزيلات المريضات أية مساعدة استثنائية، وإنما يقع على عاتقهنّ تدبرأمورهنّ عبر التواصل مع العالم الخارجي، إن أتيح لهنّ ذلك، وبمجهوداتهنّ الشخصية عن طريق أهاليهنّ، أو الرضوخ لاستغلال وابتزاز سجانيهنّ. وعلى من تحتاج منهنّ إلى تدخل جراحي للعلاج أن تنتظر شهوراً طويلة أن أمهلها مرضها كل ذلك الوقت أصلاً.
الأرقام التقريبية
لا يمكن إعطاء أرقام محددة حول أعداد نزيلات هذا السجن، خاصة فيما يتعلق بعدد معتقلات الرأي والضمير، وذلك لعدة أسباب يأتي في مقدمتها غياب السجّلات التي يمكن الاطلاع عليها من قبل المحامين والوكلاء القانونيين، بالنظر إلى المعتقلات السياسيات غالباً ما يكنّ ورقة مساومة من قبل النظام في عمليات تبادل المخطوفين مع فصائل المعارضة المسلحة.
تقديرات أعداد الأطفال تتراواح بين 20 إلى 30 طفلاً، بأعمار بين بضعة أيام إلى سبع سنوات أو أكثر قليلاً. وتشابه معاناة الأطفال معاناة أمهاتهم\ أمهاتهنّ السجينات.
أما الأرقام التقريبية للسيدات المعتقلات فتقع بين 400 إلى 600 سيدة. وكثير من معتقلات الرأي بينهنّ من اللائي تم إحالتهنّ إلى سجن النساء؛ قد اختفين داخل السجن، وفقدنّ أي اتصال مع العالم الخارجي. حيث تقوم أجهزة الأمن مرة تلو الأخرى بنقلهنّ إلى معتقلات مختلفة خاضعة بشكل كامل لميليشيات الأجهزة الأمنية السرية.
الرقابة والتفتيش
لا يخضع سجن النساء لأي رقابة ما خلا "رقابة" الأجهزة الأمنية التي تتدخل بكل شاردة أو واردة تتعلق بأموره. ولم يزر هذا السجن خلال سنوات أية منظمة دولية، إلا العام الماضي 2015 حيث تمكنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من لقاء عدّة نزيلات فيه.
بيد أن اللقاء برمّته، كما هو متوقع، قد تمّ "بإشراف" الأجهزة الأمنية إياها، بحيث يعطي انطباعاً "جيداً" عن السجن ومعاملة النزيلات فيه. فقد قامت إدارة السجن في حينه باستدعاء النزيلات قبل موعد الزيارة بـ 24 ساعة، وعمدت إلى تهديدهنّ لمنعهنّ من الحديث عن حقيقة أوضاعهنّ، أو شرح ما يتعرضنّ له من انتهاكات وممارسة مخلّة بحقوقهنّ كسجينات وفق الأعراف الدولية.
المثول أمام السلطات القضائية والمحاكم
وكأنّ النزيلات لا يكفيهنّ ما يتعرضنّ له من انتهاك لحقوقهنّ في الحصول على محاكمات عادلة أمام القضاء، سواء أكان استثنائياً (ما يسمى بمحكمة الإرهاب ومحكمة الميدان العسكرية) أو أمام المحاكم العادية. حيث يتم حرمان المعتقلات من حضور العديد من الجلسات الخاصة بسير التقاضي أمام المحاكم المختصة، بسبب صعوبة نقلهنّ من السجن للمثول أمام القضاة، نتيجة تواصل الاشتباكات على مقربة وخارج مبنى السجن. وسبق أن تعرّض عدد من النزيلات لإصابات بسبب تبادل إطلاق النار أو سقوط القذائف.