في أزمة الثورة السورية


01 نيسان 2016

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

أول صوت سمع للشعب السوري بعد عقود من الصمت، كان في (17 شباط/فبراير 2011) استجابة لصوت استغاثة من مواطن يتعرض للضرب على يد الشرطة في حي الحريقة في دمشق. خرج الصوت الجماعي لمئات قليلة من السوريين حينها يقول: "حرامية" ثم "الشعب السوري ما بينذل". وذلك قبل أن يصل وزير الداخلية حينها "سعيد سمور"، مدفوعاً بالخوف من امتداد الحمى التونسية والمصرية إلى الجسد السوري، فيخاف "الضالون" ويعودون إلى "الصراط المستقيم" وتتحول صيحاتهم إلى الهتاف بحياة الرئيس.

وإذا كان هتاف "حرامية"، فاتحة هتافات الثورة السورية، يحمل مضموناً اقتصادياً عبر عنه أحد المتظاهرين الذين تحدثوا مع وزير الداخلية حينها بالقول: "هم يسرقون العالم"، فإن مضمونه السياسي يغلب مضمونه الاقتصادي، ذلك أن الهتاف جاء للتعبير عن رفض ممارسة "غير اقتصادية" هي العنف ضد مواطن، وكان أقرب إلى الشتيمة منه إلى التدليل على الفقر  الناجم عن سرقات الشرطة. أما الهتاف الثاني فهو يحمل بعداً سياسياً أكثر صراحة، وقد ابتعد السوريون في احتجاجاتهم التي ستندلع وتستمر بقوة أكبر، بعد حوالي الشهر، عن المعنى الاقتصادي للإذلال (الإفقار) باتجاه البعد السياسي له (غياب الحرية والكرامة).

غلبة السياسي كانت واضحة منذ البداية. وأكد على ذلك السوريون في ردهم على محاولة النظام تهدئة الشارع بزيادة الرواتب: "الشعب السوري مو جوعان". تبيّن أن المقاربة التي كررها دائماً النظام السوري بأن المواطن يهمه وضعه الاقتصادي المعيشي أولاً ثم السياسي، هي مجرد تضليل. ليس لأن المواطن لا يهمه وضعه الاقتصادي بالتأكيد، بل لأن المقاربة هذه تفصل الاقتصادي عن السياسي بطريقة مفتعلة غايتها تأجيل بحث إشكالية مصادرة الحقوق السياسية للشعب السوري، أي تأبيد الوضع السياسي القائم، والانشغال اللامتناهي، والعقيم فوق ذلك، في حل مشاكل المواطن الاقتصادية.

الواقع أن الارتباط بين الاستبداد السياسي والفساد وضعف التنمية الاقتصادية وسوء توزيع الدخل والفقر، يجعل من الوضع الاقتصادي وضعاً سياسياً على نحو مباشر، تماماً كما تترجم العلاقات السياسية (المناصب والقرابات والشراكة مع أصحاب القرار) إلى امتيازات اقتصادية مباشرة، حتى يمكن اعتبار ظاهرة رامي مخلوف في سوريا وكأنها امتداد سياسي مباشر في الاقتصاد، أي الدخول إلى الاقتصاد مشفوعاً بقوة غير اقتصادية (سلطة القرار الرسمي المسنودة بسلطات أجهزة القوة).

في سوريا، كما في مثيلاتها من البلدان التي تقع على هامش النظام الرأسمالي، تراجعت البورجوازية الوطنية، الصناعية أساساً، (بفعل آليات قسرية كالاستعمار المباشر، وآليات اقتصادية كآليات تحويل القيمة) لصالح بورجوازية تابعة تتوسط تجارياً، وأحياناً صناعياً (التصنيع كبديل عن الاستيراد)، بين السوق المحلي والسوق العالمي. هناك توصيفات شائعة لهذه البورجوازية صحيحة ولكنها قاصرة في الوقت نفسه، مثل البورجوازية البيروقراطية (تدل على اقتران المناصب السياسية والإدارية بالبرجزة لا أكثر) والطفيلية (صفة صحيحة ولكنها لا تحمل معنى اقتصادي) والنيوليبرالية (تدل على مرحلة ما بعد الكينزية دون أن تحمل تحديداً آخر). ترعرعت هذه البورجوازية في كنف السلطات السياسية المستبدة، واندمجت في "الحكم" بطريقة غير مباشرة عبر غرف التجارة والصناعة، أو بطريقة مباشرة عبر نواب في البرلمان أو عبر العلاقات المباشرة مع مراكز القرار، وحتى عبر القرابات والمصاهرة. ولم يتبين أن لهذه البورجوازية طموح سياسي مستقل يجعل منها رافعة نضال سياسي ضد الاستبداد. أثبتت هذه البورجوازية انعدام قوامها السياسي، كما في أحداث الإخوان المسلمين في سوريا 1977-1982، كذلك في الثورة السورية الحالية.

البورجوازية السورية التي لم تمتلك قواماً سياسياً محدداً، تكيفت مع النظام الأسدي الذي رحبت به منذ بداية عهده، وكان عند حسن ظنها به، فتميز بمرونة اقتصادية لافتة تراعي مصالحها طوال فترة حكمه، بالتوازي مع تصلب سياسي داخلي وثبات طقوسي في اللغة والشعارات. تمكن النظام الأسدي من المحافظة على استقرار سياسي في البلد مع انتهاج سياسة اقتصادية نيوليبرالية مناسبة لنشاط البورجوازية التابعة التي راحت توسع مصالحها بوتيرة متسارعة، ولاسيما بفعل وعقب أحداث الإخوان المسلمين (كما يبين بوضوح حنا بطاطو في كتابه "فلاحو سوريا"، وكما يتضح أيضاً في كتاب فولكر بيرتس "الاقتصاد السياسي في سوريا تحت حكم الأسد"). حتى يمكن القول إن البورجوازية التابعة كانت الطفل المدلل للنظام "الاشتراكي"، تماماً كما كان الإسلام الشامي الطفل المدلل للنظام "العلماني".

يمكن تلخيص سياسة البورجوازية السورية حيال التهديدات التي كانت تلم بالنظام الأسدي، أنها سياسة الاستمرار مع الاستعداد للتخلي. وهي سياسة الولاء أو عدم معاداة النظام بانتظار تبيّن وجهة الصراع واختيار الأقوى. فعلت ذلك في فترة أحداث الإخوان، وفعلته في الثورة السورية الراهنة، حيث ابتعد الجسم الأساسي للبورجوازية السورية (ولاسيما في دمشق وحلب) عن الثورة، مع المراقبة، قبل أن يحسم معظمها أمره لصالح النظام. وما يتيح للبورجوازية السورية أن تتبع مثل هذه السياسة "الحيادية"، هو أنها لا تمتلك مصالح اقتصادية نوعية تتطلب شكلاً سياسياً معيناً من الحكم. فهي قادرة على التكيف مع النظام السياسي المتاح أكان إسلامياً أو بعثياً. وهي تميل بطبيعة الحال إلى ديمومة الوضع الذي اعتادته وحفظت مفاتيحه وآلياته. على هذا فإن "الغالبية العظمى من البورجوازية النيوليبرالية كانت شديدة الخوف من ديناميات الانتفاضة"، وأن "الكتلة العظمى من النخبة الاقتصادية لم تدعم الثورة"، بحسب الباحث جلبير الاشقر في مقابلة له تحت عنوان "ماذا حل بالربيع العربي؟"، في مجلة بدايات، العدد 13 (2016).

من الصعب الحديث عن ضرورة أو "حتمية" ديموقراطية في مجتمع تسيطر فيه بورجوازية تابعة، كما يمكن الحديث عن هذه الضرورة مثلاً في بلدان أوروبا مع صعود البورجوازية الصناعية التي يقتضي صعودها تكسير إطار المجتمع القديم، ذلك لأن المجتمعات التي تقع في هامش عملية الانتاج الرأسمالية العالمية تفتقد إلى مثل هذه الطبقة الثورية. لا سند موضوعي، والحال هذه، للقول بأن الثورة السورية هي "قابلة المجتمع القديم الذي يحمل في أحشائه جنين المجتمع الجديد" بتعبير لينين. لا توجد في المجتمع السوري طبقة ثورية ناشئة يستدعي صعودها بالضرورة تغييراً سياسياً ديموقراطياً. ولا شيء يضمن أن تكون الآلام السورية، على عظمتها، "آلام مخاض". إن المقارنة التي شاعت بين الثورة السورية والثورة الفرنسية، سواء من حيث الدموية أو من حيث التعثر، هي مقارنة شكلية ولا تقوم على أساس متين.

لا شك أن الحراك الثوري في سورية لم يأت تحت ضغط تشكّل حاجات اقتصادية لطبقة ناشئة، أي لم يأت بفعل عجز النظام القديم عن استيعاب مصالح الطبقة الناشئة، بل جاء بتأثير الفشل العام الذي يواجهه المجتمع: فشل في التنمية، وفشل في القضايا الوطنية، وفشل تالٍ في صون كرامة الناس. والحق أنه لا يوجد مشروع أو حتى تصور محدد لانتشال هذه المجتمعات من دائرة الأزمة العامة المستحكمة التي تجد نفسها فيها، فضلاً عن عدم وجود طبقة متماسكة المصالح قادرة على حمل مثل هذا التصور في حال وجوده. أتت الثورة السورية، ومثيلاتها العربيات، "نتيجة أزمة بنيوية، وليست عرضية أو دورية، وأنها ليست سيرورة انتقال إلى الديموقراطية تأتي لتتوج مرحلة طويلة من التنمية كما حدث في بعض البلدان "الناشئة" وإنما هي نتيجة انسداد مزمن"، بحسب جلبير الأشقر في مقابلته السابقة الذكر.

ليس من الصعب ملاحظة أن غياب التكوين الاقتصادي الاجتماعي الذي يحمل بذرة الخروج من "الانسداد المزمن" جعل هذه الثورات صراعاً بين كتلة شعبية ضعيفة التمايز توفرت لها شروط الانتفاض فنهضت ضد تهميشها وفقرها وإذلالها، وثارت ضد سلطات تحتقر محكوميها وتحتكر كل مصادر القوة في المجتمع. وهذا ما يجعل الثورة فريسة سهلة للفوضى في الفكر وفي السلوك، وهو ما كان يستدعي تفاديه بالكثير من التنظيم.

وقد جسد الهتاف الشهير "الشعب يريد إسقاط النظام" أزمة هذه الثورات، وظهر كما لو أن وعي الثورة لذاتها يتوقف عند هذا الحد. ففي البلدان التي سقط فيها رأس النظام شهدنا دماء ودماراً أقل، ولكنا شهدنا أيضاً كيف استعاد أو يستعيد النظام ذاته مجدداً وكأن الثورة، على اتساعها، كانت زوبعة في فنجان. أما في البلدان التي واجهت فيها الأنظمة الثورة بعنف، فقد شهدنا دماء ودماراً هائلاً، شتت جمهور الثورة وفتح الباب لنكوصات شتى في الفكر والممارسة. علّة ذلك أن المجتمعات المأزومة هذه لا تمتلك طريقاً سالكاً للخروج من أزمتها، إنها تبدو في ثورتها وكأنها تثور ضد ذاتها، وكأنها في ثورتها تنتقم من عقمها وتخلفها وعجزها، بقدر ما تتلمس طريقاً للخلاص.

مع غياب المكون الاجتماعي الاقتصادي القادر على حمل مشروع ديموقراطي في المجتمعات التابعة أو الهامشية، يكون الخارج "الديمقراطي" هو ملهم الحراك الثوري من جهة، وهو القوة التي يرتجى منها أن تملأ فراغ "الطبقة الثورية" في المجتمع من جهة أخرى. وفي هذا تكمن أزمة الثورة السورية، وأزمة شقيقاتها الأقل مأساوية.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد