الجزء الثاني
في الإعلام، الصورة إيجابية لا تخلو من السلبية
لم يكن للإعلام وجها واحدا فيما يتعلق بتغطية قضايا المرأة، كان إيجابيا بالمشهد العام لكنه لم يخلو من السلبية فكانت القضايا المطروحة عن النساء تتحدث عن دورهن الإيجابي وعن نساء سوريات تحت الأضواء. الحاجة لوسائل إعلام ومؤسسات إعلامية متخصصة بقضايا المرأة، أصبحت ضرورية مع بداية إطلاق وسائل الإعلام التي درجت تسميتها بالإعلام "البديل أو الثوري" نظرا لتغييب المرأة وتهميش دورها في الحراك الثوري في هذه الوسائل الإعلامية. عملت هذه الوسائل المتخصصة كمجلة "ياسمين سورية، سيدة سوريا، راديو سوريات، وإذاعة نسائم سوريا"، على أنسنة الحياة اليومية للمرأة وتغطية المواضيع من زوايا مختلفة بعيدا عن صورة المرأة الضحية المستضعفة، أم الشهيد وأخت المعتقل، أو الأرملة.
تثني "ريم حلب"، المديرة العامة لراديو نسائم سوريا، هو راديو مجتمعي تأسس في 27/12/2012، على تواجد عدد كبير من الإذاعات والمجلات المتخصصة بقضايا المرأة "يعطي مساحة أكبر للمرأة للتعبير عن رأيها، والانخراط في مجالات واسعة متعلقة بالقضايا العامة والإنسانية والسياسية والإعلامية، ويمنحها فرصة لمتابعة نجاحات وانجازات الأخريات ليقوي ذلك من عزيمتها"
وعن الصورة النمطية والتقليدية التي ظهرت بها المرأة السورية في الإعلام تقول "ريم" هي الصورة التي يرغب بها الرجل والمجتمع الذكوري، وتؤكد ريم أن وجود إعلام متخصص بقضايا النساء هو أمر بالغ الأهمية لتغيير هذه الصورة النمطية والتي تنحصر بالمرأة المهتمة بالأزياء والتجميل والمطبخ والعناية بالأسرة والأطفال كأقصى رغباتها وطموحاتها .. وهي صورة لا تعكس حقيقة احتياجات المرأة وقضاياها، وتطوير عملها ودورها الحقيقي في الوقت الحالي في بناء سوريا خاصة في ظل غياب كبير للرجل بسبب السفر واللجوء والحرب والموت".
مع نهاية العام ٢٠١٢ ظهرت "شبكة الصحفيات السوريات" كمؤسسة غير ربحية مهتمة ببناء وتمكين مهارات الصحفيين والصحفيات في سوريا في مجال قضايا المرأة والنوع الاجتماعي، و بهدف تحقيق تغير اجتماعي إيجابي على صعيد التفكير والسلوك من خلال وسائل التواصل، والترويج للمرأة السورية كصانعة للتغيير من خلال حملات وبرامج إذاعية مشتركة مع وسائل الإعلام المحلية في سوريا.
بالإضافة إلى ذلك ظهرت أيضا مدونة المرأة كمنصة للسوريات في الداخل، وهي نتاج عدة تدريبات لنساء في الداخل السوري على أساسيات الكتابة الصحفية ونقل الخبر، ونشر آرائهن وتجارب الحياة اليومية التي يعشنها. تعدد "هاديا"، إحدى المتدربات، أكبر المشاكل التي تواجهها في عملها كناشطة صحفية صاعدة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بأنها نفس المشاكل التي تواجه الصحفيين الرجال، من مخاوف الناس وقلة ثقتهن بالعاملين في الإعلام، وقلقهن من زيادة استهدافهن من قبل النظام نتيجة التغطية الإعلامية وخاصة التصوير، بالإضافة إلى " خوف أهلنا علينا من الوقوع بالمشاكل سواء مع الأهالي أو من النظام وغيره من أعداء الإعلام الحر ممن يستهدفون الإعلاميين."
عدم تقبل المجتمع للعمل الإعلامي، وغياب الحماية القانونية، كانت أيضا من أهم الصعوبات التي واجهت الصحفية في إذاعة آرتا إف إم، "آفين شيخموس" خلال عملها في تغطية أخبار المعارك في المنطقة الشرقية. "شيخموس" الحاصلة مؤخرا على تكريم خاص تقديرا لجهودها في تغطية نشاطات المجتمع المدني، تقول "هناك صعوبات كثيرة تواجهنا كصحفيات في الداخل منها عدم تقبل المجتمع للعمل الإعلامي، والخوف من إبداء الرأي لوسائل الإعلام وغياب الحماية. ولكن نتيجة إصراري استطعت تخطي هذه المصاعب وإيصال صوت الحق من خلال عملي الإعلامي وتغطيتي المباشرة للمعارك والعمليات العسكرية التي تحدث في المنطقة. وعبر برنامج إذاعي خاص تمكنت من طرح ونقاش أغلب الأفكار السلبية في مجتمعنا لكسر صورة المرأة النمطية التي اعتادوا على رؤيتها".
Chasing Agency
التسارع الكبير للأحداث على الأرض كان من أهم التحديات التي واجهت النشطاء المدنيين عامة، وسرعة وتيرة تغير التعامل مع المرأة تحديدا جعل من التأقلم وإيجاد بدائل مهمة شديدة التعقيد. "سلمى" اليوم جزء من عدد من الباحثات السوريات في القضايا التوثيقية والنسوية المرتبطات ببعضهن عبر شبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن نشاطها لم يقتصر على مهنتها المكتبية البحثية.
تحكي لنا سلمى قصة سعيها المتنوع للAgency منذ بدايات انضمامها للثورة السورية وهي لا تزل طالبة ماجستير في أوروبا: "عند بداية الثورة في سوريا كانت رغبتي الأولى هي العودة فورا للبلد "بلا هبل، شو ماجستير هلق؟" ولازلت مقتنعة لدرجة كبيرة بهذا المنطق لتلك الفترة، إلا أنني تماسكت وأكملته وعدت في صيف2011 إلى سورية، بعيدا عن عملي السابق مع المنظمات الدولية التي لا دور لك فيها أكثر من منفذ محلي للأوامر العليا. بدأت العمل في تنظيم المظاهرات والعمل الميداني، وكان فيه Agency كبيرة رغم كل مشاكله. كان نوعا جديدا من فعالية التأثير أو ال Agencyيتاح لأول مرة وكنتي تحاربين لتأخذي مكانك فيه. في تلك اللحظة كان من الغباء أن أعود للعمل كموظفة بيروقراطية".
عملت في تنظيم وتدريب توثيق الانتهاكات المرتكبة ضد الأطباء والجرحى في لجان التنسيق المحلية، وبعد مرور شبكة الموثقين بعدة مطبات وإعادة إنشائها أكثر من مرة، بدأت بالعمل في المشافي الميدانية لأنه كان هناك استهداف حقيقي للمصابين في المشافي العادية. فكرنا بالحلول البديلة، فبدأت بتنظيم المشافي وتشبيك الناس بمصادر التمويل والخبرات، إضافة إلى عملي في دراسة احتياجات وتوزع المشافي الميدانية لتوفير الدعم لهم عبر شبكة علاقاتي الشخصية.
لكن عندما انقلب العمل العسكري، وأصبحت الأمور محكومة من الواسطة والدفع، عدت للعمل الإنساني مع إحدى المنظمات. رغم أنه خال من فعالية التأثير وفيه غلبة للجهات المسيسة، وبعد ارتفاع سقف توقعاتك لدورك وتأثيرك لا يعود تقييمك لما هو أقل من ذلك جيدا. إلا أن القوة أصبحت تعطي ذوي السلاح نوع من الشرعية أكثر منك وأنت تقدمين خدمات فقط وردود أفعال لأفعالهم هم. لم تعد عملية بناء تفاعل للDiscourse and agency. أصبحت أنت مجرد جزء من الماكينة، وهي مشكلة كبيرة".
واجهت "سلمى" تحديا على المستوى الشخصي من حيث التشكيك والاستخفاف بقدرتها على العمل لاعتبار صغر سنها وانتمائها لفئة اجتماعية تتمتع بامتيازات، الأمر الذي أعطاها حافزا إضافيا لإخفاء هويتها وخلفيتها الاجتماعية تفاديا لكثرة الأسئلة حول دوافعها لخوض غمار هذا النوع من العمل الميداني الشاق.
تعتبر سلمى أن العمل السري حرمها من كافة أشكال الدعم الاجتماعي أو المادي: "أنا مدربة منذ الصغر على الاعتبارات الأمنية نتيجة وجود بعض أفراد أسرتي في صفوف المعارضة. كان لدي هوس أمني حرمني من الدعم لدرجة أني مررت بفترة 8 أشهر لم يكن أحد ليعلم ما حصل لي لو أن مكروه ما وقع لي حينها. غياب الدعم أثر سلبا علي. العمل السياسي أو الثوري بطبيعته يعطي شعور بالانتماء أو الحماية. لم يكن لدي ذلك لأني كنت أعمل دائما مع غرباء أراهم مرة واحدة فقط أثناء التدريب أو التوثيق. ثم أصبحت أراهم فقط في أسوأ حالاتهم، جرحى أو قبل الوفاة. حتى العاملين معي كانوا معتادين على ذلك، وكان لدي مشكلة مع اعتيادهم هذا" تقول سلمى .
"استمريت بالعمل في تلك المنظمة حتى وصلت خلال إحدى معارك التهجير الطائفي إلى شرخ حقيقي معهم. كانت المنظمة مشلولة تماما أمام المأساة نتيجة رفض النظام إعطائها أي أذونات للعمل. اتصل بي أحد النشطاء البارزين العاملين معي في المجال الطبي من هناك صارخا على الهاتف، ناعتا إيانا بالغدر والتخلي عنهم في أحلك اللحظات، حينها تمت تصفيته مع زميله برصاص قناص أثناء حديثه معي، ولم يتمكن أحد حتى من سحب جثثهم لعدة أيام. بعد انتهاء العملية العسكرية و"انتصار" النظام فيها أتى مدير المنظمة من أوروبا، مستبشرا بأنه حصل على موافقة الحكومة لدخولنا لتوثيق الوضع. هنا عبرت عن رأيي بصراحة أننا بتنا نعمل كالمراسلين الحربيين التابعين للعسكر، ندخل على ظهر الدبابة لنوثق الجريمة بعد وقوعها فقط."
وجدت سلمى في العودة للأبحاث فعالية تأثير أكبر "في البحث لدي قدرة محاسبة ورقابة من نوع ما على عملهم، وإن كانت أخلاقية فقط إلا أنها مدعمة بالأدلة والعمل. وجدت لعملي البحثي قدرة رغم كل الضغوطات المحددة له وأنواع الرقابات الذاتية والخارجية عليه، إلا أننا تمكنا مثلا في أحد الأبحاث الجماعية التي شاركت فيها من تغيير الارقام (الاحصائية) التي كانت تعتمدها وكالات الأمم المتحدة في سوريا".
نساء كرمن لمواقفهن الشجاعة
وقفت المرأة السورية على منابر عالمية، وحصدت عدد كبير من الجوائز والتكريمات الدولية تقديرا لجهدها في كافة المجالات من توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، العلوم، العمل الميداني والإعلامي، والحريات السياسية والمدنية في سوريا. ومثلت هذه الجوائز فرصة مهمة لإيصال صوت المرأة السورية لصناع القرار على المستويين المحلي والدولي، والتذكير بالقضية السورية، وأن المرأة مازالت صامدة في وجه الاستبداد والقمع بكل أشكاله.
ساهمت المرأة خلال الثورة في خلق منظومة عمل متكاملة قادرة على الاستمرار بالرغم من الظروف الاستثنائية التي تمر بها سوريا، وخير مثال على ذلك متابعة مركز توثيق الانتهاكات في سورية عمله في رصد وتوثيق الانتهاكات اليومية وإصدار التقارير الدورية، رغم اختطاف موثقة الثورة ومؤسسة المركز المحامية رزان زيتونة مع رفاقها من مدينة دوما. رزان التي حازت على 7 جوائز دولية لعملها هذا، آمنت - بحسب مقربين منها - أن الثورة قامت من أجل العدالة والحرية وحقوق الإنسان، وساهمت في دعم وإنشاء عدد من المراكز النسائية والمدنية التي تستمر في العمل حتى اليوم في ريف دمشق.
في الشمال السوري اعتبرت "سعاد نوفل" رمزا لمقاومة الاستبداد في مدينتها الرقة حيث قاومت نظام الآسد ووقفت في وجه تنظيم داعش قبل أن يتم هدر دمها، وتغادر الرقة. ساهمت نوفل عقب تحرير الرقة في آذار 2013 في تأسيس "مجلس الحكم المحلي في الرقة"، ومع سيطرة داعش على المدينة، وازدياد تجاوزاتهم، جابهتهم وحيدة رافعة كرتونتها أمام مقرهم يوميا لما يزيد عن الشهرين مطالبة بالنشطاء المخطوفين لديهم، وبرفع أيديهم عن أهالي المدينة وممتلكاتهم. نجحت في البداية في التحاور مع عدد من عناصر التنظيم من طلابها القدامى كونها مدرسة في المدينة، مما أربك قادة التنظيم الأكبر سنا والغرباء عن المنطقة. بدأ ردهم بمنع أي عنصر من التحدث معها، ثم تطور إلى تهديدها وتصاعد التهديد حتى اضطرت للمغادرة لتركيا في نهاية 2013 ، حيث بدأت اضرابا عن الطعام تضامنا مع المحاصرين في حمص والغوطة مستغلة التغطية الاعلامية لنشاطها. حازت نوفل على جائزة هومو هوميني التشيكية لحقوق الإنسان في العام 2015.
وحازت "غالية رحال" مديرة مركز مزايا في العام 2015 على لقب "المرأة البطلة" في جوائز أمانة النساء المقدمة من وكالة رويترز لشجاعتها وتصميمها على خلق مجال آمن للمرأة في شمال سوريا رغم أسوأ الظروف.
و اشتهر مركز مزايا بشعاره" لم أعد عبئا.. أصبحت سندا" في إشارة إلى دور المرأة الفعال في جميع الظروف. تأسس المركز منتصف العام2013 على يد ثلاثة أشخاص فقط، ويستقبل شهريا ما بين 200-300امرأة، لحضور دورات محو الأمية، والإسعافات الأولية والحرف المهنية مثل الخياطة والتطريز لمساعدتها اقتصاديا، بالإضافة إلى توفيره بيئة مريحة لنساء المنطقة للالتقاء كنوع من الدعم نفسي.
بعد الآن، المرأة السورية الى أين؟
سيطرة العقلية الذكورية والتطرف الديني أديا لتحجيم دور المرأة في العملية السياسية ومحادثات السلام ووضعها كمراقبة لا أكثر، كما ساهما في ابتعاد النساء لحد كبير عن شغل مناصب رئيسية في صنع القرار، وإن كان على مستوى المجالس المحلية. عدد من النساء اللواتي تحدثنا إليهن في هذا المقال وجدن أن أكبر التحديات التي واجهتهن في عملهن كانت التحديات الأمنية والعسكرية التي ساوت لدرجة كبيرة بين المدنيين من الجنسين. تؤكد هبة أن "الصراع الحالي في سورية كان له دور إيجابي في كسر النظرة الشائعة حول ربة المنزل، وأمام النساء فرصة لا بد من استثمارها، خاصة مع نقص أعداد الرجال في سوريا إما لانخراطهم في الأعمال العسكرية، أو الاعتقال أو الاختفاء".
لا تستغرب "ريم كنجو" تهميش وتقليص دور النساء حاليا، خاصة مع اتساع رقعة التطرف وامتداد الفصائل المتشددة على الأراضي السورية "مرحلة مؤقتة تزول تدريجيا مع إصرار المرأة على لعب دورها في المشاركة في صنع القرار".
ورغم عدم وضوح شكل الدولة السورية في المستقبل القريب، تعتقد "ليلى خلف" أن المرأة السورية لن ترضخ بعد الآن لسلطة المستبد، وبكل تأكيد سيكون لها دور فاعل في المرحلة الانتقالية.
أما سلمى فترى "أن الإذعان لسلطة ماكينة القوة هو استهانة بمواقف وتضحيات الناس الذين رفضوا أن يشاركوا بالعنف، وانسحبوا من دوامته بعصيان كلفهم أثمان أغلى كثيرا. الجندي المنشق رفض هذه الإذعان مخاطرا بحياته." تقول سلمى: "اليوم أنا لا خيار لدي سوى أن أكون جزء من ما سيحصل في سوريا، سواء كنت عاملا فاعلا أم سلبيا. رغم كل الاستلاب الحالي للسوريين وعدم معرفة أحد منا ما سيحصل بعد 6 أشهر، لدي مشكلة مع المظلومية التي نخلقها كسوريين. رد فعلي كان دائما رافضا للمظلومية لأني أعرف تبعاتها السلبية على أصحابها."
المقال نتاج تعاون بين خمس منظمات إعلامية سورية بهدف تسليط الضوء على الحكايات السورية بطريقة عميقة، وهي:حكاية ما انحكت، مؤسسة أريح للصحافة الاستقصائية، راديو روزنة، سيريا ديبلي، مركز توثيق الانتهاكات في سورية.
المشروع بدعم من مؤسسةIMS، وستنشر المقالات بصيغة مختصرة باللغة الانكليزية على وكالة UPI