حروب الرايات في المعترك السوريّ (6)


17 حزيران 2016

هيثم حسين

ناقد وروائيّ ومترجم كردي سوري. يعمل ككاتب مستقل ومتعاون مع عدد من أبرز الصحف والمواقع والمجلات العربية، وهو متخصص في النقد الروائي إلى جانب القضايا الثقافية الأخرى. من أعماله في الرواية: آرام سليل الأوجاع المكابرة، رهائن الخطيئة، إبرة الرعب. وله في النقد: الرواية بين التلغيم والتلغيز،الروائيّ يقرع طبول الحرب،الرواية والحياة.

هل يمكن القول إنّ الساحة السوريّة تشهد حروباً متعدّدة على هامش الحرب الكبرى المستمرّة، وباتت ملعباً لصراع رايات وهويّات وسرديات في الوقت نفسه؟ أين تتموضع تلك الحروب التي بدت استعراضيّة وقصيرة بداية، ثمّ بدأت تتنامى في الظلّ، وتنتج آثاراً متفاقمة تباعاً بطريقة تدميريّة؟ هل يمكن وصف الرايات التي ترتفع اليوم في سوريا بأنّها أسلحة موازية، وهويات متضادّة تسعى للتأصّل والرسوخ في الذاكرة الجديدة، والواقع الذي يحفل بالمستجدّات المتسارعة؟

صراع الرايات يستعر بقوّة ويكتسب صفات دمويّة في أرض المعركة، فرفع أيّة راية في أيّة بقعة يعني تبعية تلك المنطقة للقوّة التي يمثلها العلم ويعني سيطرتها، وكم من المناطق تتحرّر من قبل هذه الفئة أو تلك ليعاد احتلالها أو تحريرها من فصائل أخرى ترفع أعلامها عليها، لتكون حرب الرايات انعكاساً لحرب الإرادات، لا الوطنية فقط بل الإقليمية والدولية، وتجلياً دمويّاً لصراع الهويّات العائم نفسه.

حين بدأت الثورة السوريّة، تمّت استعادة علم الاستقلال ذي النجوم الثلاثة، أشهره المتظاهرون المطالبون بالحرّيّة والكرامة في وجه علَم النظام، ذي النجمتين، والذي يشير إلى احتكار الوطن ونهبه، ويربطه بالنظام، بحيث أنّه أصبح علم النظام ومواليه لا علم البلاد في نظر المطالبين بالحريّة.

ظاهرة الأعلام ليست بجديدة على الساحة السوريّة، فهي موجودة سابقاً، لكنّ الحرب شكّلت فرصة مناسبة لها لتقوى وتظهر إلى السطح بشكل أكثر وضوحاً، فقد كان لكلّ حزب علمه الخاصّ به، والذي يرمز إليه وإلى تبعيته وانتمائه، سواء العقائدي أو القوميّ، فمثلاً، كان ومازال للإخوان المسلمين علمهم الخاص بهم، وكذلك للأحزاب الأخرى سواء كانت دينية أو قومية أعلامها الخاصّة بها بدورها، لكنّها كانت ترفع في الأنشطة الخاصّة بتلك الجماعات والأحزاب إلى جانب العلم الوطنيّ المعتمد من قبل النظام.

غدت الأعلام سبلاً لدى مختلف الأطراف للنيل من بعضها بعضاً. النظام اتّهم المعارضين الذين رفعوا علم الاستقلال بالحنين إلى زمن العبودية والاستعمار، ناهيك عن اتّهامات بالانفصال، والطائفية والهمجية وغيرها من الاتّهامات التي يحفل بها قاموسه، وشكّلت ذرائع للفتك بَمن يشهر ذاك العلم أو يتبنّاه، ثمّ تمّ ربط ذاك العلم بالائتلاف الوطني المعارض، وقبله بالمجلس الوطني السوريّ، وتمّ إلصاق صفات تنال منه به، بحيث يوصَف تارة بأنّه علم أتباع الفرنسيّين، والأتراك، وغير ذلك.

علم الاستقلال الذي تبنته قوى الثورة أصبح تهمة لدى النظام، ولدى الجماعات المتطرّفة الدينية والقومية، فهو في نظر الجماعات الدينية المتحاربة علم يشير إلى أنصار "الديمقراطية"، تلك التي يصفونها بالكفر والإلحاد، ويجدون أنّها تتنافى مع ما يدعون إليه من دولة دينيّة. وتبنّت كلّ جماعة رايتها الخاصّة، استلهمتها من تراث موظّف لمصالح راهنة، أو أعادت إحياءها واستغلالها بطريقة بائسة، كالراية السوداء التي ترفعها "داعش"، أو راية جبهة النصرة التي تجدّد ولاءها وبيعتها لتنظيم القاعدة، أو غيرها من الرايات التي تعكس السواد أو تتبنّى السيف أو أشكال أخرى من تلك الإحالات التي ترمز إلى أوهام القوة والتفوّق والأصالة.

وقعت على هامش الثورة والحرب المستمرة حوادث تمزج بين الكوميديا السوداء والتراجيديا المريرة، إذ غدا طول العلم لدى النظام وأتباعه رمزاً للوطنيّة. انتقل أنصار النظام من الطائفيّين المجلوبين إلى سوريا لرفع أعلامهم الخاصّة، سواء كان العلم الإيرانيّ، أو راية حزب الله، أو راية عصابات أبو الفضل العبّاس، ومع هذا وذاك الراية المعروفة بأنّها تشير إلى الحسين، وتكون صورة لرايات سوداء أخرى تشير إلى التطرّف نفسه ولكن في اتّجاه مختلف.

كان رفع علم ما من قبل الجهات التي يعتبرها النظام معادية جريمة يحاسب عليها، من ذلك مثلاً على الساحة الكردية السوريّة، فقد كان رفع العلم الكردستاني، العلم الذي تتبنّاه كردستان العراق، (الأحمر والأبيض والأخضر، تتوسطه شمس صفراء، وهو العلم الذي كانت قد تبنّته جمهورية مهاباد الكردية التي أعلنها القاضي محمّد في إيران 1946م) تهمة بالانفصال يلفّقها النظام لرافعي العلم، ويمكن أن يسجن عليها سنوات، أو لمدد مختلفة قد تطول أو تقصر.

بالحديث عن الساحة الكردية السوريّة، هناك بعض الظنّ عند كثيرين أنّ هناك علماً كرديّاً وحيداً فقط يرفع في المناطق الكردية السوريّة، وهو العلم الذي يتبناه حزب الاتّحاد الديمقراطيّ، وهذا الحزب اسمه "الاتّحاد الديمقراطيّ"، وليست هناك أيّة صفة أخرى ملحقة به في تسميته التي يعلنها، لا الكرديّ ولا الكردستانيّ، وهو الفرع السوريّ من حزب العمّال الكردستانيّ، وقيادته السوريّة مكلّفة من قبل قيادة العمّال الكردستانيّ، تنفّذ أجنداتها وسياساتها، والحزب ينادي بالأمّة الديمقراطيّة وشعارات أخرى تتعالى على الجانب القوميّ الكرديّ، برغم إعلانه للغة الكردية لغة للتعليم في بعض البلدات والقرى الكردية، ويعلن بعض المكلّفين من قبل قيادته العليا بإدارة "الإدارات الذاتية" أنّ الزمن تجاوز حقبة الدولة القوميّة، بل لا يتوانى قسم منهم عن انتقاد أيّة محاولة لإعلان الاستقلال الذي يتجدّد الحديث عنه لكردستان العراق.

يتبنّى الاتّحاد الديمقراطيّ عدّة أعلام، ينوّعها بحسب المناسبة، وبحسب الجهة التي ينظمها والتي تنضوي تحت قيادة العمّال الكردستانيّ العليا، فهناك علم العمّال الكردستانيّ، وهناك علم آخر رديف للفرع السوريّ، ناهيك عن أعلام "قوات حماية الشعب"، و"قوّات حماية المرأة"، وغيرها من التشكيلات التابعة له.

هناك مفارقة صراع الأعلام على الساحة الكرديّة السوريّة، وتشير هذه المفارقة إلى الانقسام الذي يسِم الشارع الكرديّ السوريّ. ففي المظاهرات التي كانت تخرج في المدن الكرديّة، كان علم الاستقلال يسود في البداية، ثمّ تخلّلته رايات كردستانيّة، قبل أن يتحوّل رفع الرايات إلى نقاط تفاوض بين المتظاهرين، وكان هناك تجاذب دائم متجدّد بين منظّمي التظاهرات والقيادات الحزبيّة أو التقليدية على الرايات التي يجب رفعها والتي يجب عدم رفعها.

هناك كرد سوريّون يتبنّون العلم الكردستانيّ، بالإضافة إلى وجود أحزاب صغيرة ترفع راياتها الحزبيّة إلى جانب العلم الكردستانيّ، وهناك آخرون يرفعون علم الاستقلال الذي يرمز إلى الثورة السوريّة، وهؤلاء متّهمون بالبعد عن الجانب الكرديّ من قبل الاتّحاد الديمقراطيّ الذي يصفهم بالأردوغانية والإخوانجيّة والعمالة للخارج وغيرها من الاتّهامات التي يتقاطع فيها مع النظام، وهي التهمة نفسها التي يوجّهها الكُرد الآخرون إلى الاتّحاد الديمقراطيّ.

أنصار المجلس الوطني الكرديّ السوريّ، باعتبارهم من قوى الثورة السوريّة، كانوا يرفعون العلم الكردستانيّ بالإضافة إلى علم الاستقلال، في إشارة إلى الهويّة الوطنية الكرديّة ووجوب التعاطي بشكل مختلف مع القضية الكرديّة، ومناقشة الصيغ التي تكفل للكُرد حقوقهم في سوريا المستقبل، ثمّ تظهّر الصراع بين الأعلام وانتقل إلى اسم البلد، وهل يكون الجمهورية السوريّة، أم الجمهوريّة العربيّة السوريّة، ودلالات كل تسمية.

منع حزب الاتّحاد الديمقراطيّ رفع العلم الكردستانيّ في المناطق الكرديّة، وقد وقعت عدّة حوادث أساء فيها بعض أنصار حزب الاتّحاد الديمقراطيّ والقوات التابعة له للعلم الكردستانيّ، وتمّ توجيه اتّهامات مختلفة إلى حامليه، منها محاولة زعزعة أمن المنطقة، أو الإخلال بالنظام، أو التظاهر من دون ترخيص، وغيرها من الذرائع التي تشير إلى شرخ واقعيّ متفاقم في الشارع السياسيّ الكرديّ بين الرايات والانتماءات والولاءات. وقد وصل في بعض الأحيان إلى التنكيل بالعلم وتمزيقه، في تأكيد على التسلّط والاستبداد وإلغاء الآخر المختلف، بحيث يتمّ الإقصاء والتجريم تبعاً للراية المتبنّاة.

الساحة السوريّة اليوم باتت ميداناً حربيّاً مفتوحاً للرايات والإرادات والسرديّات والهويّات بمختلف ألوانها ودلالاتها، ولا يخفى أنّ أنصار كلّ علم يزعمون أحقّيّتهم في السيطرة والسيادة وتسييد علمهم، بحيث يحلّ محلّ الأعلام الأخرى، وهذا ينبع من شعور مضلّل بالتفوّق لديهم أنّهم الأجدى والأجدر برفع العلم الذي يمثّلهم، ذلك أنّ الرايات تمثّل لحامليها وأتباعها هويّة وكينونة، حين يجدونها مرفوعة في مكان ما يشعرون بالأمان والطمأنينة والتفوّق والسيطرة، وقد يعني ذلك في نظرهم ضرورة تكييف المكان وأهله بما يتوافق مع تلك الراية وسياسات رافعيها أو المتفيّئين بظلالها.

من هنا تنبئ الراية أتباعها ومقاتليها عن الجهة التي يجب أن يقاتل معها، وعن الأخريات التي يجب أن يقتلها. ولربّما حرب الرايات المتقاتلة هي انعكاس دمويّ واقعيّ لهويّات تبحث عن تبلور لها عبر السلاح والدماء، وبين الرايات المرفوعة وأخرى مُسبلة دماء كثيرة مسفوحة، وأخرى تنتظر دورها في معمعة الاقتتال ومعترك الانتقامات المستعرة، والمؤجّلة القادمة.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد