سنوات من الملاحقة والنضال مرت على النشطاء السوريين، بعضهم لم يحالفه الحظ بالبقاء، وبعضهم تمكن من الاستمرار على الرغم من كل الظروف، فما إن تسقط مدينة حتى يفر إلى غيرها مزاولاً عمله الإعلامي، من هؤلاء الصحفي هادي العبد الله، الذي يُعد من النشطاء النادرين الذين استطاعوا متابعة نشاطهم داخل سوريا منذ بدء الحراك.
عمل هادي في حي بابا عمرو بحمص خلال الاشتباكات بين قوات النظام وكتائب الجيش الحر المتواجدة فيه عام 2012، ولم ينسحب منه حتى أصبح شبه خالٍ ودُمِّر بشكل كامل، حيث انتقل إلى مسقط رأسه، مدينة القصير الواقعة غرب حمص، والتي بقي فيها حتى 2013، العام الذي استطاع فيه حزب الله دخول المدينة إثر معارك شرسة بينه وبين الجيش الحر، وقد نقل هادي تفاصيل تلك المعركة بدقة، ثم غادر إلى ريف إدلب، وتحديداً إلى مدينة كفرنبل، حيث أقام فيها براديو فرش متعرضاً لمضايقاتٍ عدة من جبهة النصرة، وأخيراً توجَّه نحو ريف حلب الشمالي، في شهر شباط 2016، وهناك غطى المعارك الدائرة بين جيش الفتح وميليشيات الأسد.
في حلب، التقى هادي رفيق دربه خالد العيسى، وقد عملا لأشهر معاً، هادي في إعداد وتقديم التقارير الإخبارية، وخالد في التصوير، وما ميز عملهما هو التواجد بشكل شبه دائم في المناطق شديدة الخطورة، والتي تشهد قصفاً عنيفاً وشبه يومي من قبل الطائرات الروسية على المناطق المأهولة بالمدنيين.
https://www.youtube.com/watch?v=RxWA3L8C6mk
سبق وأن أصيبَ هادي خلال معارك القصير بشظية في رأسه، تبعتها إصابة أخرى خلال تغطيته لمعارك حلب في الرأس أيضاً، وذلك أثناء تواجده مع المصور خالد العيسى الذي أصيب في ذات اللحظة على جسر "الحج" بحلب، وبعد خمسة أيام تعرض الرفيقان لأعنف محاولة اغتيال بالنسبة إلى الصحفيين منذ بدء الثورة السورية، فقد سبق وأن اغتال النظام نشطاء بالرصاص، كما حدث مع مشعل تمو، أما الاغتيال بالمفخخات، فإن النظام لم يستهدف به سوى العسكريين، مثل القائد أبو حمزة النعيمي الذي اغتيل ببسيارة مفخخة في دير الزور، ما يدل على خطورة هذين الصحفيين على النظام وحلفائه.
https://www.youtube.com/watch?v=81oPUy3Q-ko
ملامة
شجاعة هادي وخالد دفعتهما بعد أن فقدا عدة أصدقاء، وبعد كل ما عاشاه من ظروف دامية في مواجهة الموت إلى المجازفة بحياتهما دون أخذ الاحتياطات اللازمة للحفاظ على حياتهما، مثل تغطيتهما لأحداث القصف دون لبس الخوذة، واستخدامهما للبث المباشر من موقع إقامتهما، والإعلان عن هذا الموقع للمعارف، ما كان يعني أنهما مكشوفان لعصابات النظام التي تتبعهما، "في حلب وأدلب عبوات ناسفة واغتيالات، معنى ذلك أن هناك خلايا نائمة تابعة للنظام تنشط بين المدينتين، وعلى الثوار كشفهم اليوم قبل الغد، هذا أصبح أمراً واضحا للجميع"، حسبما علَّق أحدهم على صفحة هادي العبد الله، كذلك فإن صلابة تكتلات النشطاء وعدم اختراقها أصبحت موضع شك من قبل البعض فـ "عملاء النظام يسرحون ويمرحون داخل صفوف المعارضة، فهادي نجا بأعجوبة من القصف الروسي، ونتفاجأ بعبوة ناسفة من الأرض"، وهو ما رد به المدعو "منير الحق" على صفحة هادي أيضاً، وقد وصل الأمر إلى حد ملامة الناشطَين لعدم التزامهم بوسائل السلامة، "بصراحة يتحملون جزءاً كبيراً، صار في استهتار في الفترة الأخير بنشر صور عن تجمعاتهم ومكان إقامتهم والبث المباشر لأكثر من مرة، كلها أشياء كفيلة بتحديد موقعهم وبدقة، وما أكثر الخونة، نخاف عليك أخ هادي كما نخاف على أرواحنا، أرجوك الحذر وكل الحذر في المرات القادمة، أنت من الأشياء القليلة الجميلة الباقية في ثورتنا فلا تفجعنا بك" كما كتب أحد السوريين على الفيسبوك.
https://www.youtube.com/watch?v=vw9co7AGEQ4
صدمة إصابة الرموز
دائماً كان رحيل الرموز أو إصابتهم يشكل صدمة في الثورة السورية، نتذكر ما خلَّفه مقتل الناشط غياث مطر في داريا من احتقان شديد في نفوس السوريين، وسقوط هادي الجندي في مدينة حمص، والذي كان أكثر النشطاء شجاعة وعفوية وصدقاً في حينه، ما حوله إلى جزء من الحلم بالحرية بين أبناء حمص، وعندما تم استهدافه برصاصة قناص في حي باب السباع، تحولت حمص إلى مدينة بكاء وإحباط، إذ تعامل النظام ولا زال بحقد وعدوانية شديدين مع هذه الرموز التي لم تتبع أية أجندة خارجية مع التزامها الدائم بمبادئ الثورة، ما جعل إنهاءها بأية وسيلة من أوليات هذا النظام، حدث الأمر ذاته إثر سقوط خالد العيسى وهادي العبد الله بعد تفجير البيت الذي يقطنانه في حلب، فقد اتصفت تعليقات السوريين على الحدث بالانكسار والخيبة، "ما أقسى الصورة التي رأيتها الآن لهادي وهو على فراش الإسعاف. رعب وأسى ووشاية وإيغال بالإجرام وموت الضمير والإنسان المشوّه والعجز والضياع" كما يقول رائف العطار، إضافة إلى خجل أصاب بعض الصحفيين أمام شجاعة هؤلاء ومغامرتهم في مواجهة الموت "بعد أن تعرفت إلى هادي العبد الله صحفياً في زمن الثورة.. بت أخجل من نفسي حين يطلقون علي صفة: صحفي، ما تعريف الصحفي؟ ما لذي يربط هادي العبد لله وخالد العيسى كصحفيين بنا نحن الصحفيين من وراء الشاشة؟" كما يقول الشاعر خضر الآغا.
ثورة بحد ذاته
تمثلت الثورة السورية بشخصيات استطاعت الاستمرار على الرغم من كل العقبات، ومن هذه الشخصيات هادي العبد الله وخالد العيسى، فإلى جانب عدم انضمامهما إلى أية جهة معارضة، حافظا على المهنية الإعلامية في تغطية جرائم النظام، كما حافظا على أمل السوريين بغد أفضل في كل ما قاما به منذ بدء الثورة، ما جعلهما أكثر أهمية من كل تشكيلات المعارضة التقليدية "هادي العبد الله وخالد عيسى بالسلامة انشاء الله، فأنتما أهم من "الائتلاف الوطني السوري" و"هيئة التنسيق الوطنية"، على الرغم من أن مجموع عمريكما يعادل نصف عمر أصغر "القادة" في التشكيلين "المبجلين"، كما قال الكاتب والباحث المعارض حام نهار.