في إمكانية الثورة


01 تموز 2016

راتب شعبو

راتب شعبو: طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 - 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.

تطرح ظاهرة الثورات العربية التي وسمت مطلع العشرية الثانية من القرن والواحد والعشرين، السؤال عن قدرة المحكومين، في هذا القرن، على تغيير نظام الحكم الذي يخضعون له. السؤال عن إمكانية الثورة وحدودها. ويستمد السؤال تسويغه من استقراء المجرى المباشر للتاريخ، كما من التأمل في الترابط الدولي المضاد للثورة، وفي حقيقة أنه "بلد واحد هو العالم".

في التاريخ المباشر لدينا خمس ثورات عربية هائلة خرجت "لإسقاط النظام"، وقادت حتى الآن إلى دمار واسع في ثلاثة بلدان (ليبيا، اليمن، سوريا) دون آفاق واضحة بعد، لا في ليبيا أو اليمن حيث تحقق "إسقاط الرئيس"، ولا في سوريا حيث لم يتحقق ذلك بعد. وتوصلت الثورة في مصر إلى نكوص سياسي ثقيل، على يد انقلاب عسكري "شعبي" جاء بعد سنة واحدة من انتخابات فاز فيها مرشح الإخوان المسلمين بفارق ضئيل عن مرشح النظام القديم الذي كان يمكن، لو فاز، أن يضع مصر على نهج قريب من الطريق التونسي الحالي. ولدينا بصيص أمل محفوف بالخطر في تونس التي يقودها، بانتخابات مباشرة، أحد أبرز رجال النظام القديم.

وبقدر ما يمكن لخمس سنوات ونصف أن تشكل معياراً للحكم، يمكن القول إن الحصيلة العامة للثورات الخمس أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح. وهذه الحصيلة المشتركة، التي تناولها أكثر من كاتب منهم الباحث اللبناني جلبير الأشقر في كتابه الصادر في 2016 بعنوان صريح "انتكاسة الانتفاضة العربية"، تبتعد بنا عن عزو الفشل إلى أسباب "داخل الثورة"، أو على الأقل عن إعطاء الأسباب "الداخلية" أهمية كبرى، وتجعلنا نحدق فيما يمكن اعتباره "حدوداً موضوعية" للثورة. نحن أمام سياقات ثورية متباينة تماماً تمتد من السلمية إلى المسلحة، ومن التدخل العسكري الخارجي المباشر إلى عدمه. ومن بلدان ذات تركيب اجتماعي متنوع دينياً ومذهبياً وقومياً، إلى بلدان ذات تركيب اجتماعي قريب من التجانس الديني والقومي. سياقات تشمل إزاحة الرئيس بطرق مختلفة (فرار، محاكمة محلية، قتل) وتشمل عدم إزاحة الرئيس بعد. ومع ذلك، الغالب أن كل هذه السياقات لم تفض سوى إلى المزيد من التعقيد والضعضعة في البنيان الوطني.

تدفعنا هذه الحصيلة للبحث في مدى فاعلية تآزر آليات الدفاع المحلية (نظام الحكم) والخارجية (نظام الإقليم والمجتمع الدولي) ضد حركات التغيير السياسي غير المرغوب. تمكنت هذه الآليات، كما أظهرت السنوات الخمس والنصف المنصرمة، من هدر طاقة التغيير الهائلة التي اندفعت بها شعوب هذه الدول، أو تحويلها إلى طاقة تدمير ذاتية، فيما قادت طاقات تغيير أقل بكثير في بلدان أوروبا الشرقية والمعسكر الاشتراكي السابق إلى تغييرات ديموقراطية سلسة وناجحة.

صحيح أن هناك فارقاً ملحوظاً بين النظام السياسي الذي كان سائداً في أوروبا الشرقية وبينه في البلدان العربية، يتمثل في غياب الطبقات الاجتماعية المسيطرة في أوروبا الشرقية لصالح سيطرة بيروقراطية من مسؤولي الحزب والدولة الذين لا يشكل حرصهم على امتيازاتهم في النظام قوة كافية لمقاومة إرادة شعبية بتغيير يسير بهم إلى نظام سياسي ديموقراطي على الطريقة الغربية، وإلى اقتصاد السوق، فقد يبدو هذا  التغيير لكبار رجال الدولة وموظفي الحزب والحكومة مدخلاً إلى مجالات رأسمالية يغلقها في وجههم نظام الحكم الشمولي. ولكن ما جعل الانتقال الديموقراطي هناك سهلاً هو ترافق ضعف القوة المضادة للتغيير في أنظمة أوروبا الشرقية، مع غياب آليات الكبح الخارجية، سواء من الشرق أو من الغرب، التي كان يمكن أن تحيل عملية التغيير هذه إلى أزمة فعلية، أو أن تفشلها، كما سبق أن حدث مثلاً في الثورة المجرية 1956، وفي ربيع براغ 1968، حين لم يكن التغيير هناك على مزاج الدبابات السوفييتية.

في الدول العربية يجمع نظام الحكم بين الشمولية المتعدية، استيلاء السلطة على الدولة واستيلاء الدولة على المجتمع، وبين إمكانيات الاستفادة من السوق الرأسمالية. فلم تحمل بالتالي عملية التغيير السياسي التي خرجت لأجلها شعوب هذه الدول، عناصر جذب قادرة على تفكيك المركب السياسي الطبقي الأمني في هذه الأنظمة، لبناء مركب جديد أقل تمركزاً حول الزعيم وأكثر تطابقاً مع الرؤية والأفق الوطني. هذا فضلاً عن بروز نزعة الاستملاك العائلي للدولة، وتطلع الرئيس المؤبد إلى جعل الدولة جزءاً من ميراثه العائلي، الأمر الذي دفع تركيبة الدولة، ولاسيما أجهزة القوة فيها، إلى الانسجام أكثر فأكثر مع هذه الغاية، وخلق عصبية محافظة بعيدة كل البعد عن العصبية الوطنية بل ومناقضة لها، مهما تزيت بزيها أو استخدمت لغتها.

تؤتي هذه الآلية "التوريثية" أكلها المرة، حين يتمكن النظام من احتواء وحماية الطبقة البورجوازية التجارية الوسيطة، بما يعوض عن رخاوة وعجز هذه الطبقة وقصورها السياسي الذاتي. هذا ما يدفع البورجوازية في هذه البلدان لأن تدخل في شراكة، أو قل تواطؤ متبادل، مع السلطة السياسية، تحقق من خلالها مصالح طبقتها كوسيط تجاري مع السوق العالمي، وتتبادل الدعم مع السلطة ذات العصبية الطغموية غير الوطنية، التي تتغذى على كل أصناف العصبيات الممكنة في المجتمع، أكانت عصبيات عشائرية أو طائفية أو حتى وطنية، لكي تحمي ديمومتها.

وقد أدى طول أمد اشتغال هذا النمط من الأنظمة إلى تشتيت أي بؤرة استقطاب وطنية في المجتمع، وإلى احتكار مجمل أسباب القوة التي تمكن الدولة من مواجهة المجتمع في لحظات ثورانه مهما عظمت. وينغلق الباب على أي فرصة للتغيير السياسي في هذه البلدان مع اجتماع عاملين، الأول هو غياب أي رادع أخلاقي يمكن أن يمنع السلطات من "إبادة" المتمردين، ولو بأسلحة محرمة (كيماوي، عنقودي، فوسفوري ..الخ)، لا يكلف الأمر سوى لعبة إعلامية تشوه الحراك و"تحلله للذبح"، والثاني هو التضافر والانسجام بين الإرادة المحلية (النظام المحلي) والإرادة الدولية (النظام الإقليمي والعالمي). وتبقى التفاصيل الأخرى، كالحديث عن السلمية والتسليح، أو عن الإسلامية والطائفية، أو سوء القيادة على ضفة المعارضة، أو الارتهان للغير، ..الخ، ذات أهمية، ولكنها تبقى في التفاصيل.

في الأساس من هذا الانغلاق، أن المجتمعات الثائرة لا تمتلك لغاية التغيير سوى قوة رفضها وغضبها، فيما تقف الطبقات الاجتماعية التي تمسك عصب الاقتصاد في البلد على الضفة المحافظة، لأنها صاغت مصالحها مع النظام وفي دهاليزه، وصاغت علاقاتها مع السوق العالمية مع خلال نوافذ النظام وأروقته. وفي مواجهة أي ثورة اجتماعية واسعة، تتكفل الطبقة البورجوازية بحماية الاقتصاد، وتتكفل السلطة بسحق الثورة بكل ما راكمت من قوة ومن عصبية غير وطنية، وكل هذا في كنف نظام عالمي لا يملك، أو لا يريد، أن يقدم للشعوب سوى المزيد من الفقر والتهميش.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد