الواقع السوريّ والثقافات الموروثة (8)


06 تموز 2016

شوكت غرز الدين

كاتب سوريّ من مواليد حلب 1971 ومقيم في سوريّة، حاصل على ماجستير في الفلسفة اختصاص إبستمولوجيا، ومهتم بالواقع السوريّ وإشكاليات الثورة السوريّة

تتشكّل "الثقافات الموروثة" -الخاصّة بالجماعات والمكوِّنات المحليّة والاجتماعيّة والدينيّة والقوميّة، في سوريّة، كما في غيرها من البلدان- من الماضي العامّ بما يُورِّثه من العداوات والصداقات، وكذلك بما يُورِّثه من الرموز والأعلام والرايات، والمُثل العليا واللّغات واللّهجات، والأديان والطوائف، والعادات والتقاليد، والنَسَب والأصول. ويرثُ السوريّون، بالإضافة للأملاك، المهنة والسمعة واللّقب والعداوة أبّاً عن جدّ.

    وتُشكِّل مثل هذه الثقافات الموروثة الخاصّة في "الثورة السوريّة" عاملاً حاسماً، يُمكِن له أنْ يكون مُوحِّداً مثلما حصل في الأشهُرِ الأولى من الثورة عندما كانت الثقافة عامّة، كما يُمكِن له أنْ يكون مُفرِّقا كما هو حاصلٌ الآنْ بعد أنْ تحولّت الثقافة إلى خاصّة وحصريّة بجماعات بعينها! فالثورة تعبرُ من خلال الثقافات الموروثة وتعبر بها؛ لأنَّ السوريّين ثاروا بما عندهم من ثقافات موروثة يمكن لها أنْ تؤثّر بنتائج الثورة في المستقبل كما تؤثر في سياق الثورة.

     ويُعاد إنتاج العداوات الموروثة التي يحكمها ويوجّهها "قتال العدوّ القريب" بشراسة وهمجيّة، حتى صار في سوريا "حرب الجميع على الجميع"! فاختلفت الاصطفافات وتغيّرت؛ فمن كان يفترِق عن موروثِه الثقافيّ، بالاصطفاف الأيديولوجيّ أو بالمصلحة الاقتصاديّة أو بالغايات السياسيّة أو بثقافة مُغايرة، أو يرى الثقافة الموروثة ملكاً للجميع، يتوحَّد مجدداً بثقافتِه الموروثةِ الخاصّة ويلوذ بجماعته. ومن كان يتّحِد بثقافته الموروثة سلفاً يخوض الصراعَ الداميَّ مع "العدوّ القريب" وينصرُ جماعته على إخضاع الجماعات الأخرى. والغائب هنا هو الشيء العامّ والمشترك بين الجميع، بينما الحاضر، حضوراً ثقيلاً، هو الخاصّ لا بتنوعه، بل بمحاولاته إخضاع العامّ.

     فليس هذا الصراع طبقياً بين أغنياء وبين فقراء يحكمه الاقتصاد، ولا بين طامعين في الحكم تحكمه السياسة، أو متنافرين بالإيديولوجيا، ولكنه صراع ثقافيّ يهدف للحريّة والكرامة وتحكمه الثقافات الموروثة بحالتها العامّة ومن ثم بحالتها بعد أنْ تخصّصت. فلقد تحوّل إلى صراعٍ بين هويات الثقافة الموروثة اللّغويّة والدينيّة والطائفيّة المحكوم بعداوة الماضي و"العدوّ القريب" أكثر مما هو محكومٌ بعداوة الحاضر و"العدوّ البعيد". فالعدوّ القريب غالباً ماينتمي للثقافات الموروثة فيكون من الدين نفسه، أو من الطائفة نفسها، أو من الجغرافيا نفسها، أو اللغة نفسها، وله الرموز نفسها، وربما يتشارك العادات والتقاليد نفسها أيضاً...  وفي سياق الثقافات الموروثة نلاحظ أنَّه لن يُسامح ويُغفر له بسهولة الشخص المُختلف والمُفارق الذي اختار أنْ يُنكِر عائلته، طائفته، دينه، تقاليده، تراثه، حقوق ميلاده، رموزه... بل قل بكلام آخر: لا تسامح مع مَنْ تُنكِر/يُنكِر ذاته الثقافية الموروثة!

     وهذه ظاهرةٌ أقدم بكثير من الذي شهدناه في سياق الثورة السوريّة. وما الذي قرأنا عنه بحالة عداوة أبناء العم في الجاهلية كـ"الزير سالم وجسّاس"، وبحالة السنّة والشيعة بعد الخلفاء الراشدين وبين العباسيين والأمويين والفاطميين فيما بينهم أو فيما بين بعضهم البعض... وما شهدناه بحالة بعثٍ واحد في بلدين، كسوريّة والعراق، وبين الإسلاميين أنفسهم، وبين اليساريين، وبين طوائف البلد الواحد في لبنان أو العراق، هو مؤشرٌ كبيرٌ على هذه الظاهرة المستمرة تاريخياً؛ ظاهرة الثقافات الموروثة الخاصّة الحاملة لفكرة العدوّ القريب. فغالباً لا نستطيع رؤية العامّ فنتكمش بالخاصّ، وغالباً لا نستطيع مغالبة العدوّ البعيد فنهرب لمغالبة العدوّ القريب.

     طبعاً، لم يكن التاريخ كله محاربة العدوّ القريب، بل تخلّله أزمنة كانت الثقافة الموروثة فيها عامّة لمحاربة العدوّ البعيد وأزمنة ليس فيها حروب وتنويعة غريبة عجيبة من الأشكال. والذي أريد قوله ببساطة هو حضور قتال العدوّ القريب في تاريخنا بشكلٍ كبير لدرجة بات فيها يُميّز ثقافاتنا الموروثة الخاصّة. فبالنسبة للسوريّين الذين يبحثون عن هويّة، ويعيدون اختراع نسب عرقيّ ودينيّ وطائفيّ جديد، فإن تحديد الأعداء شيءٌ أساسيٌّ، وأكبر الأعداء هم القريبون؛ أي من يقعون عند "خطوط الصدع"، حسب "هنتنغتون"، في الدين الواحد والطائفة الواحدة والّلغة الواحدة... وذلك رغماً عن علاقات القرابة والنَسَب والجوار وعلاقات القواسم المشتركة بينهم.

     إن السنوات التي تلت انبثاق الثورة السوريّة شهدت بدايات لتغيّرات كبيرة في هويّات المكوّنات الاجتماعية ورموز تلك الهويّات، تراجع فيها العامُّ لحساب الخاصِّ. وبدأت تتشكل سياسة عالمية وإقليمية ومحليّة استناداً إلى هذه التغيرات المتموضعة في استعادة وإحضار الثقافات الموروثة الخاصّة.

     وهكذا، برزت راية "الاستقلال" القديمة أولاً كنقيضٍ لراية النظام، وكعلامةٍ على الانتقال والتغيّير، رفعها كثيرٌ من السوريّين واستشهدوا تحتها وكُفنِّوا بها. ثم برزت رايات للكرد ثانياً، ورايات للجهاديين الإرهابيّين وأخرى للإسلاميّين ثالثاً... وتدخلت رايات حزب الله وإيران وروسيا... راياتٌ تخفق مرة ويُكفَّن قتلاها بها مرة أخرى. كانت راية "الجيش الحرّ"، الذي قوامه منشقّين عن "الجيش العقائديّ"، قديمةً ولكنها رُفِعت مجدّداً، وراية "النصرة" قديمة كذلك ورُفِعت مجدداً، كما راية "داعش" وراية "الاتحاد الديمقراطيّ" أيضاً... وبات من الممكن فهم الصراع من خلال الرايات كثقافاتٍ موروثةٍ خاصّةٍ. اختياراتٌ جديدةٌ لثقافاتٍ قديمةٍ ومُحتكرةٍ، يكتشف السوريّون فيها هويّات ثقافية جديدة هي في غالبها قديمة، ويسيرون تحت رايات وأعلام جديدة، ولكنها غالباً ما تكون قديمة كذلك، وينقادون إلى حرب ضد أعداء جدد، ولكنهم غالباً ما يكونون قدماء!

     لقد تحوّلت ما يُفترض أنَّها ثقافة عامّة إلى ثقافات خاصّة يحتكرها بعض الجماعات. ففي سوريّة، ما بعد الثورة، الثقافات الموروثة الخاصّة باتت مهمة، بما فيها من رموزٍ وأعلام ورايات ولُغات ولهجات وعادات وتقاليد قد تخصّصت... بما فيها من مُثلٍ عليا وعامّة -كالرسول والمسيح وعمر وابن الوليد وعلي والحسين وزينب وفاطمة والعذراء وسلمان وصلاح الدين ويوسف العظمة و سلطان الأطرش وهنانو وصالح العلي- يفُترض أنَّها للجميع ولكنها تحولّت لمثُلٍ خاصّةٍ هنا... يُضاف إليها رموز الهلال والصليب والسيف وغطاء الرأس والحجاب والنقاب واللحية والصور التي كانت ثقافة عامّة واختصّ بها البعض؛ وذلك في سياق عملية تحويل العامّ إلى خاص القهريّة. ولأن الهويات الثقافية الموروثة هي من أكثر الأشياء التي لها معنى عند أغلب السوريّين كما أغلب البشر فإنَّ تحويلها من ثقافة عامّة إلى ثقافة خاصّة بجماعة ما يلقي بثقله على واقع الثورة ومستقبلها.

     أي أنَّه صار لدينا الهويات الجديدة/القديمة، والأعداء الجدد/القدماء. فثمة هوية ثقافية موروثة للسنّة وأخرى للشيعة وثالثة للكرد وغيرها للعلويّة وللمسيحية وللدرزيّة... راية خضراء وأخرى حمراء وثالثة صفراء ورابعة سوداء وخامسة بيضاء وسادسة ملوّنة... لغة عربيّة وكرديّة وآشورية وسريانيّة... ولهجات شاميّة وحبليّة وحورانية وحلبيّة...  وتبقى أهمية الثقافات الموروثة الخاصّة نابعة من دورها في الواقع السوريّ الحاليّ، ومن أثرها على مستقبل سوريّة، إنْ ظل هناك مستقبل.

     كيف سيكون مستقبل سوريّة؟ ما الّلغة الرسميّة للدولة؟ ما العَلم الرسميّ للدولة؟ ما شكل الحكم فيها؟ ما وزن خصوصياتنا الثقافية الموروثة فيها؟ أسئلة باتت هاجس الجميع. متناسين بذلك مسائل ثلاث: الأولى منها، أنَّ المستقبل عدم تعيّين واحتمالاته مفتوحة. أمّا الثانية، فإننا بهذه الهواجس نبيع الواقع المُرعِب بثمن زهيد لصالح الخوف من مستقبل مزعوم. وأخيراً، نتناسى أنَّه من المرجح أنَّ المنتصر هو من يُعيّن المستقبل عموماً لا بتفاصيله، فتكون الّلغة الرسميّة لّغته، والعَلم الرسميّ عَلمه، والثقافة الموروثة الخاصة به تصبح ثقافة عامّة. ويبقى السؤال، هل من منتصر في سياق قتال العدوّ القريب الموروث؟!

     تراجع العامّ تقدم للخاصّ، العامّ للجميع بينما الخاصّ لزمرة أو جماعة أو فرد... ولا ينتصر الخاصّ على العامّ إلا بالإخضاع والإرهاب بينما ينتصر العامّ على الخاصّ بالتعاون والحوار والتفاهم على القواسم المشتركة، فسوريّة عبارة عن مركبٍ يمكن التنافس على متنه ولا يجوز ثقبه؛ لأنَّ الجميع سيغرق. قال "إلياس مرقص" مرةً منتصراً للعامِّ على حساب الخاصّ: "أنْ نرضى بتخفيضِ واحد بالألف من البشر والمواطنين بمقدار واحد بالمئة، هذا معناه واتجاهه ومآله الأخير تخفيض الجميع تخفيضاً لا نهاية له"! وتخفيض العامّ وإعلاء الخاصّ مآله تخفيضهما تخفيضاً لا نهائياً. فلنعاود الكرّة لالتقاط العامّ واختراعه إنْ لزم الأمر حتى يتموضع الخاصّ في سياقه علّنا نساهم من جديد في مصيرنا وواقعنا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد