بعد سنواتٍ من التعايش بين الحكومة السورية وسلطات الإدارة الذاتية الحاكمة في مقاطعة الجزيرة شمال شرق سوريا، بدأ ما لم يتعوّد عليه سكان المنطقة. خلافٌ بين قوات الدفاع الوطني (الرديفة للجيش السوري النظامي) وقوات الأسايش (الأمن الكُردي)، ما لبث أنْ تواترت إلى مواجهات مسلحة، امتدّت لتشمل معظم أحياء مدينة القامشلي.
في هذه الأثناء أجبر المعارض السياسي عامر الشيخ هلوش (وهو من عرب الجزيرة) على الإقامة الجبرية في منزله داخل ما يسمى المربع الأمني بمدينة القامشلي، التابع للحكومة السورية، والذي يضم (4) مفارز أمنية.
صداقة حميمة
هلوش أكبر أبنائه يدعى خالد يعاني من كسر في رجله اليسرى، الأمر الذي صعّب مهمة الخروج والتنقل من دائرة الخطر. ويُغلِق عامر نوافذ المنزل، يُنبِّه أفراد عائلته ألّا يَخرجوا إلى الشُرفة خوفاً من رصاصة طائشة.
وبعد الاشتباكات بين ميليشات الدفاع الوطني الموالية للنظام، وقوات الأسايش التابعة للإدارة الكردية، في منتصف شهر حزيران/يونيو، يتّصل به عدد من أصدقاءِه الكُرد طالبين منه التوجّه إلى الأحياء الكُردية الأكثر أمناً، لكن تسارع الأحداث منع ذلك.
في اليوم التالي، وبعد سقوط قذيفة على منزله يأتي صديقه حسين عثمان، وهو من أكراد القامشلي، ويحمل خالد على ظهره، ويركض به متجاوزاً مناطق الاشتباك، إلى أنْ وصلوا إلى نقطة تمركز لقوات الأسايش، الذين خاطروا بأنفسهم لتأمين التغطية وتجاوز الشوارع الخطرة، حتى وصلوا إلى منزل أحد أقرباءهم، وبقي عامر في منزل صديقة حتى توقفت الاشتباكات.
يمتد التواجد العربي -الكردي في منطقة الجزيرة السورية إلى مئات السنين، وبقيت الحالة العشائرية هي السائدة في العلاقات بينهما، حيث لم تشهد أيّ صدامات عرقية تُذْكَر بين القوميتين وباقي قوميات ومكونات المنطقة.
"الشيخ هلوش" كانت له قصة مماثلة في أحداث القامشلي عام 2004 حيث التجأ إلى منزله وقتذاك، شاب وفتاتين من الكرد، ودافع عنهما في وجه أجهزة الأمن التي طوّقت الحي، وهدّدت باقتحامه في حال عدم تسليم الشاب والفتاتين، فَلَم يَكُن بالإمكان سوى تهريبهم من الشوارع الخلفية بعيداً عن أعين الأمن السوري.
الحرب في سوريا، أجبرت عشرات الآلاف من المواطنين على النزوح إلى المناطق الأكثر أمناً نسبياً، واستقبلت مناطق الجزيرة السورية، ومنها مدينة القامشلي لاجئين من مدن حمص، حلب، الرقة، دير الزور.
صعوبات وتحديات
وتحكم الإدارة الذاتية الديمقراطية" سيطرتها على ثلاث مقاطعات في شمال شرق سوريا، عفرين وكوباني (عين العرب)، إضافةً إلى الجزيرة منذ كانون الثاني 2014، وتم إقامة (4) مخيمات لاستقبال اللاجئين، بالإضافة لتواجد عشرات الأُسَر التي نزحت من المُدُن السورية، وأقامت داخل مُدُن القامشلي، والحسكة، وبعض الأرياف الحدودية.
وبحسب إحصاءات الإدارة الكردية: يبلغ عدد النازحين في مخيم "روج" في مدينة الرميلان، أقصى الشمال الشرقي لسوريا، حوالي (2796) شخ.، والمخيم نفسه، يأوي نازحي مدينة الموصل العراقية.
في حين يأوي مخيم "نوروز" في مدينة المالكية /ديريك/ بالقرب من الحدود مع العراق، الأيزيديين الذين هربوا من مدينة شنكال في كردستان العراق، عند دخول تنظيم "الدولة الإسلامية" في حزيران عام 2015، ويقدر عددهم بـ (2888) شخص.
أما مخيم "مبروكة" في مدينة رأس العين /سري كانيه/ يقع بالقرب من مدينة القامشلي، خُصِّص للنازحين من مناطق الصراع جنوب الحسكة، والرقة، ويقدر عدد قاطنيه بـ (176) شخص.
كما يستقبل مخيم "الهول" في المدينة التي تحمل نفس الاسم، وتقع بالقرب من مدينة الحسكة، اللاجئين العراقيين الذين هربوا من المعارك الدائرة هناك منذ قرابة العام، ويقدر عددهم بـ "6000".
إضافة إلى أن الإدارة تقدر تعداد النازحين الذين سكنوا داخل مدن "المقاطعة" وأريافها بحوالي (11822) شخص.
حازم العلي (42 عاماً)، مواطن من حمص، جاء مع عائلته إلى القامشلي منذ بداية العام 2012 وذلك بعد اشتعال المعارك آنذاك بين فصائل المعارضة المسلحة والجيش السوري الحكومي.
يعمل حازم في مطعماً للمأكولات الشعبية، يملكه كاوى شاكر، وهو من أكراد القامشلي. يقول حازم لحكاية ما انحكت، إنّه أصبح يعتبر نفسه من أهالي المدينة ذات الغالبية الكردية، فالمعاشرة التي امتدت لـ (5) سنوات مع الأهالي جعلته يتأقلم مع عادات ساكنيها، إذ يقول متابعا: "عانيت في بادئ الأمر في الحصول على عمل، بالإضافة إلى صعوبة التأقلم مع ثقافة مجتمع جديد، وعاداتهم، ولغتهم لأنهم يتحدثون الكردية.. لكن، ومع مرور الوقت، وبالاختلاط التدريجي مع الجيران، أصبحت آلَف الحياة في هذه المدينة، وتعلّمت قليلاً من الكُردية. وساعدني هذا الأمر التعرّف على صاحب المطعم الذي أعمل فيه الآن".
ويضيف حازم قائلا: "صار لي (4) أعوام، وأنا أعمل في هذا المطعم، لا أخفيك .. رغم مصاعب الحياة أنا مرتاح هنا، لكن سعادتي منقوصة، لأنّني بعيد عن مدينتي حمص".
محبة وثقة
أما كاوى (صاحب المطعم) فيقول إن حازم بالنسبة له الآن بمثابة أخ، ولا يلعب الاختلاف القومي أي دور في علاقتهما الحميمية، حيث الأمانة والمصداقية هي المعيار الذي جعله يأمن على رزقه عند حازم.
وعن شهادته عن حازم، يقول كاوى في لقائه مع "حكاية ما انحكت" إنني "لا أنظر إلى الاختلاف في القومية بنظرة سلبية، فالثقافة المغايرة التي يحملها تكمِّل ثقافتي، تعلّمت الكثير من هذا الاختلاف، لأنّ ثقافة حازم نقلت إليّ خبرة جديدة في العمل كنتُ أجهلها، لأن العربي والكُردي ليسوا خصمين، هما أخوين في مواجهة الظلم والاستبداد".
لكن، ورغم ذلك فإنّ اللاجئين والنازحين يُعانون من بعض الصعوبات في أماكن تواجدهم، علاوةً أنّ اختلاف الثقافة هي إحدى المشاكل التي يصعب على عدد كبير منهم تجاوزها، لكن تبرز المخاوف من صدامات عِرقية بين العرب والكُرد، والتي تُشغِل بال الكثيرين منهم، سيما النازحون، بالإضافة إلى الهواجس من إقامة كيان كردي منفصل عن الدولة السورية، وغموض مصير باقي المكونات في هذه الحالة. الأمر الذي انعكس قلقاًعلى جميع من يسكن في تلك المنقطة.
أصدرت سلطات "الإدارة الذاتية" بعض القرارات بخصوص اللاجئين والنازحين، منها منع خروج اللاجئ من المخيم إلا بموافقة من الإدارة، ولمدة محددة. كما تمنع النازحين من استملاك الأراضي داخل حدود "المقاطعة"، إضافةً أنّها-أي الإدارة الكردية- تمنعهم من المشاركة في الانتخابات المحلية التي تُجريها، بالإضافة إلى أنّ النازح ممنوع من مغادرة حدود "المقاطعة"، إلا بإذنٍ رسمي من قوات الأسايش العامة.
ويعزو حسين عزام، نائب رئيس المجلس التنفيذي للإدارة الذاتية الديمقراطية في مقاطعة الجزيرة، هذه الإجراءات إلى خلاف الكرد مع السلطة الحاكمة في سوريا، حيث وقعت بعض الحوادث المنفصلة، والتي تعود جذورها إلى حادثة ملعب القامشلي في عام 2004، والتي كانت نتيجة همجية بعض عناصر السلطة، حيث يقول عزام لحكاية ما انحكت: "كان يجب أن يُنصفَ العربُ الكُردَ في ذلك الوقت، ويسجلوا موقفاً تاريخياً لصالح إخوانهم الكُرد الذين تعرضوا إلى مذبحة".
كيان كردي
وبخصوص الوضع القائم في سوريا، يؤكد عزام بأنّ الكُرد "لا يريدون إنشاء كيان خاص بهم، بل مشروعهم في الإدارة الذاتية، ولاحقاً الفيدرالية، وهي بالشراكة بين كل مكونات المنطقة"، على قوله.
وينفى عزام ما يُتَّهَم به الكُرد من تهجير العرب من بعض مناطق تواجدهم في بعض المدن كـ "تل أبيض" في الشمال السوري، ويضيف: "التهجير الذي حدث في بعض المناطق كان بسبب ظروف الحرب، وعند تأهيل هذه المناطق سيعود أهلها إليها، وهذا ما حدث في عدد من المدن، ولم أكُن لأقبل مثل هذه التصرفات فيما لو حصلت"، على حد زعمه. في موقف يناقض تقارير من منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية التي اتهمت "وحدات حماية الشعب" الكردية بتهجير جماعي وتركمان منطقة تل بيض على الحدود السورية التركية.
وبخصوص مصير المناطق ذات الغالبية السكانية العربية في حال سيطرت عليها الوحدات الكُردية كمنبج، والتي تشهد حرباً منذ قرابة شهرين والباب وجرابلس في ريف حلب الشرقي، قال نائب رئيس المجلس التنفيذي إن لها مطلق الحرية في انضمامها للفيدرالية، وأردف قائلاً: "سيكون هناك مجلس لإدارة المدينة بعد السيطرة عليها، وإخراج مقاتلي تنظيم داعش منها".
إلا أن الخلاف العربي الكُردي حول مستقبل سوريا أمر لا يخفى على أحد في المنطقة، لكن هذا الخلاف لم يتحوّل بعد إلى نزاع ليأخذ بعداً قومياً وعرقياً، فالمكون العربي ممثل وشريك فعال في "الإدارة الذاتية الديمقراطية"، وكذلك منتسبين إلى "قوات سوريا الديمقراطية"، ويرى متابعون للشأن السوري أنّ كل ذلك لا يمنع من ترقّب الجميع للحظة الحقيقة في الحرب السورية، والعلاقة الوثيقة بين أكراد سوريا والولايات المتحدة الأمريكية، وما يثير مخاوف الكثيرين من وجود تنسيق مشترك لتقسيم سوريا.
ولا تخفي القياديات الكردية في وحدات حماية الشعب، أنّهم يسعون لربط مقاطعات الإدارة، وإيصال الجزيرة وعين العرب، بمقاطعة عفرين، وإعلان فيدرالية يكون للكرد فيها حصة الملك، رغم أنّ المناطق الفاصلة غالبية ساكنيها عرب، ويتخوفون من أن تكون مقدمة لانفصالها عن الوطن السوري.
الجدير بالذكر، أنّ جميع الأنظار متجه إلى معركة منبج إحدى فصول هذا الخلاف، لأنّ سكانها يقبعون بين مطرقة تنظيم الدولة، وسندان المجازفة بالانفصال عن سوريا عبر ربطها بالفيدرالية المزمع إعلانها.