بينَ تعدُّد الأعلام واللُّغات من ناحية أولى، والهُوِيّة الوطنية من ناحية ثانية، تحضر التفاصيل! وفي التفاصيل لا يكمن الشيطان دائماً، إلّا إذا انتصرَت الغرائز البدائية، وسادَت الهُوِيّات الأوّليّة الموروثة على حساب الهُوِيّة المدَنية الجامِعة، ولهذا يبدو لي أنَّ أيّ حُكم في مسألة المستقبل السياسي لسورية، وشكل الدولة فيها هو حكمٌ ينبغي أن ينطوي على إحساس عالٍ بالحذر والمسؤولية والتفكير المُتأمِّل الرصين.
ما من شكٍّ أنّ الهُوِيّة الوطنية السورية لم تولدْ بعد، وأن قدر جيلنا والأجيال القادمة العمَل على بلورة هذه الهُوِيّة، ولا سيما إذا وعينا وعياً كافياً أنَّ تخليق أي بناء سياسي وطني مُتماسك لا ينفصل عن التأسيس لدولة مُؤسَّسات ديمقراطية وتعدُّدية حقيقية لا صورية.
لعلَّ الإشكالية المحورية في النقاش حول مسألة الفيدرالية واللّامركزية في سورية ينبغي أن تكون بؤرتها المُهيمنة مرتبطة بقضية (الدستور) شكلاً ومضموناً، إذ لا أجد من جهتي أنَّ موضوعة تعدُّد الأعلام أو تعدُّد اللغات موضوعة ذات مصدر قلَق بالغ، بقدر ما أجد أنَّ الصيغة الوطنية المتوازنة والنابعة من قرار الشعب السوري وخصوصياته الاجتماعية والثقافية هيَ التي ينبغي أن تكون محور البَحث، وأن يُمثِّلَ الدستور عقداً وطنياً جامعاً، وجسراً أصيلاً وعابراً للمُتناقضات.
وبوضوحٍ أكبر أقول: إنَّ مسألة الفيدرالية يجب أن تُبحَثَ أوّلاً وأخيراً انطلاقاً من مُكاشفة وطنية شاملة لجميع الهواجس الموجودة عند كافة الأطراف السورية، ومن دون إقصاء أي مجموعة إثنية أو طائفية أو سياسية، فالشرط الضروري والمُلزِم لبناء دولة حديثة ومُتماسكة يكمن في تبديد تلك الهواجس العميقة، ومثل هذا التبديد المرجوّ يتطلَّبُ قبل كل شيء تصدِّي النخب لمسؤولياتها التاريخية بتعميق الثقة بين مختلف الأطراف، وبرأب الصدوع الناجمة عن الخلل السياسي والاجتماعي طوال عقود طويلة، واستنطاق كافة القضايا الإشكالية ومُحاوَرتها بلا مُوارَبة أو إرجاء تحتَ سطوة غايات أو مُكتسبات شخصية أو حزبية أو خارجية غير وطنية.
وإذا كان هاجس الحفاظ على وَحدة الدولة السورية الوطنية هوَ هاجس مُهيمِن نسبياً على الأكثرية القومية العربية كما ألاحظ عبرَ مُتابعاتي، فإنَّ هاجس القومية الكردية المُهيمِن على مُعظم الكرد يرتبط بالقلَق من أن تؤول الأمور في نهاية المطاف إلى إعادة إنتاج المظلومية السياسية والاجتماعية والاقتصادية بحقِّهم، في حال لم ينتزعوا حقوقهم في مثل هذه المرحلة الحرجة والمُناسِبة لذلك كما يعتقدون، ويبدو أنّ نسبة كبيرة منهم تجد أنَّ ذلك يتمُّ من حيث المبدأ عبر تشييد نظام اتحادي فيدرالي في سورية.
من جهتي أتفهَّمُ تماماً هذه المَخاوِف الإثنية التي تمتدُّ من جهةٍ أُولى إلى بعض الآثوريين والتركمان والأرمن وغيرهم، وتمتدُّ من جهةٍ ثانية حتَّى إلى الأقلّيات الطائفية العربية نفسها، ولا سيما في ضوء تفشّي حالة (الإسلاموفوبيا) التي عزَّزتْها مسألة أسلمة الثورة في قطاعاتها الأعرض، لهذا أجد أنه من الضروري _وقبلَ أي شيء آخَر_ أن نتفق جميعاً على أنَّ الأساسي يكمن في تبديد الهواجس المُختلِفة لدى جميع الأطراف، وأن يُؤسَّسَ هذا الفعل (التَّبديديُّ) على مبدأ التمسُّك بالقرار الوطني المُحافِظ على الهُوِيّة الجامِعة في ضوء عقد وطني سياسي اجتماعي ثقافي متوازن، يكونُ بمنزلة المتراس الذي ينأى بالمَخاطِر عن مستقبل الوطن السوري، ويحمي الجميع من دون استثناء.
إنَّ قياس الاقترح الفيدرالي في سورية على تجارب الدول الاتحادية الفيدرالية ينبغي أن يأخذ في اعتباره مسألة خصوصية الواقع السوري، وأن يبتعد عن فكرة المُطابَقة التبسيطية مع تلك التجارب، فإذا كُنّا حتَّى هذه اللحظة مثلاً لا نملك إحصاءً دقيقاً يتّفق أو يثق به الجميع حول نسبة هؤلاء أو أولئك أو...إلخ، فإنه لا مناصّ من أن نبحث عن الحلول الناجعة بأسلوب منهجي تدريجي يقوم من حيث المبدأ على التقاء جميع الأطراف في منطقة وسطى، وتقديم تنازلات وطنية مُتبادَلة، وهو الأمر الذي يتطلَّبُ باعتقادي عقد مؤتمر وطني جامع أوَّلاً، أو جمعية تأسيسية تبدأ بجدولة القضايا المطروحة، وتأخذ على عاتقها مسألة صياغة مُحكَمة لدستور وطني تشارُكي، فضلاً عن ضرورة اعتماد مبدأ إجراء جُملة استفتاءات شعبية تتعلَّق بالقضايا المصيرية الحسّاسة، وهي الأمور المُرتبطة بطبيعة الحال بانتهاء الحرب، وعودة النازحين والمُهجَّرين إلى مناطقهم بوصف هذا شرطاً مُلزِماً ولا يقبل المُساوَمة أو التلاعُب بتفاصيله.
وهكذا، يغدو الحلُّ المنهجي التدريجي الذي أُعوِّل عليه حلّاً طارِداً لأيّة عملية فرض فوقي أو خارجي لشكل الدولة أو لصيغتها الدستورية والسيادية، ذلكَ أنَّ مثل ذلكَ الفرض سيكون بمنزلة قنبلة موقوتة لن تلبث أن تُفجِّر الصراع من جديد، أو أن تفتح الباب أمام صراعات مُستديمة نحنُ بغنىً عنها بعد هذا الدمار الاجتماعي والنفسي والعمراني الهائل، ومن هُنا تنبع خطورة الصيغة العنفية التي تحاول أن تفرض نظام الفيدرالية بقوة السلاح في شمال سورية، بما هيَ صيغة زائفة ومعكوسة تشبه من يضع العربة أمام الحصان، وتُعمِّم صيغة الأمر الواقع خارج أُطُر التوافق الوطني الشامل.
وعلى كُلِّ حالٍ، لا أظنُّ أنَّ شخصاً وطنياً واحداً يُشكِّك أو يُناقِش في قضية حقوق الإثنيات أو الأقليات لغوياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وهذه الحقوق بالتأكيد ليست منّةً من أحد، لكنَّ الضامن الأساسي لها يكمن في موضوعة (المُواطَنة) التي هيَ أُسّ أي بناء وطني خلّاق وأصيل، وفي المُقابل، لا أجد أنَّ الإشكالية ذات الحُضور الصاخب الآن بخصوص مسألة الفيدرالية مُنفصِلة عن الحوار الشامل حول (سوريتنا) التي نريدُها: هل نريد لا مركزية سياسية؛ أي دولة اتحادية فيدرالية تتوزَّعُ فيها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية دستورياً؟ وهل هذه الوصفة ضرورية وحتمية كي يكون جميع السوريين بخير وقناعة بالانتماء الوطني الجامع؟ وهل تطبيقها لصالح الكرد مثلاً يعني أن تُطبَّقَ أيضاً لصالح الأقليات الطائفية العربية في سورية؟ وهل الواقع الديمغرافي السوري يسمح مثلاً بمُحاكاة تجربة العراق المشكوك بنجاعتها أصلاً؟
وفي المنحى نفسه يمكن أن نتابع الأسئلة، لكنْ هذه المرّة بخصوص اللّامركزية الإدارية: ألا تستطيع اللامركزية الإدارية أن تحفظ حقوق الأقليات الإثنية والطائفية حسب طبيعة التداخل الديمغرافي في سورية؟ أليسَ من المهمّ في بلد مثل سورية ألا يكون الانتقال فيه عكسياً من المُوحَّد إلى المُقسَّم على الأقل مرحلياً؟ ألا يُمكن أن تحصل جميع الجماعات على حقوقها، وأن تمارس خصوصياتها المتنوعة في إطار سلطة سياسية مركزية السيادة، وسلطة إدارية لا مركزية، ولا سيما إذا كانت حقوق (المُواطَنة) محمية دستورياً ومُؤسساتياً وعبر المجتمع المدني الفاعل والحقيقي؟
أظنُّ أنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة المحورية ليست مُرتبطة فقط بالطريقة المنهجية للحلّ التي أشرْتُ إليها من قبل، والمُتعلِّقة بالتمثيل الشامل في مؤتمر وطني جامع يُنظِّم التناقضات المُعقَّدة من جانبٍ أوَّل، ويُذلِّل تدريجياً صعوبات المرحلة الانتقالية الجمّة وما بعدَها من جانبٍ ثانٍ، وإنَّما مُرتبطة أيضاً في مدى قدرتنا -ونحن الذين سنكون خارجين من حرب مُدمِّرة- على توليد شكل خلّاق يحفظ سيادة السلطة الوطنية من دون سقوطها من جديد في براثن الاستبداد. ولا أنفي هُنا حاجتنا في هذا المضمار إلى حلول مُبدِعة ومُركَّبة ربَّما لم تُجرَّب في غير مكان، وقد نتمكَّن أن نجمَعَ عبر مثل هذه الحلول بين اللامركزية الإدارية، ونسبة معقولة ومضبوطة سيادياً من اللامركزية السياسية التي أقترح ألا تتعلَّق بالأقاليم أو الولايات، بل بالمحافظات نفسها، مع التذكير في هذا السياق أن بعض الدول المُوحَّدة (البسيطة)؛ أي غير الاتحادية (الفيدرالية) قد استطاعَتْ أن تمنح في دساتيرها وقوانينها سلطات واسعة لإدارات ذاتية تتفوَّق على الموجود في دول اتحادية فيدرالية مُتقدِّمة.
وأخيراً، أرى أنه من الضروري الإشارة إلى أنَّ تخليق هُوِيّة وطنية مُتماسِكة يتطلَّبُ في اعتقادي طيَّ الهُوِيّات ما فوق الوطنية سياسياً، مع المُحافظة على تلكَ الهُوِيّات ثقافياً، وقد دعوتُ في غير مقالة لي إلى نقل (القومية) من الحقل الإيديولوجي، إلى الحقل الثقافي، مع الحفاظ على إمكانية استفادة الأحزاب والنقابات من الخلفيات الثقافية المتنوعة والتي لا تتناقض مع لعبة الديمقراطية والتعددية، كما نرى مثلاً في بعض الأحزاب المسيحية في أوروبا، فضلاً عن ضرورة الأخذ بعين الاعتبار مسألة الحفاظ على دوائر المصالح القومية والدينية والإنسانية التي تجمعُنا مع محيطنا الإقليمي والدولي، وهوَ الأمر الذي ينطلق أصلاً من قضية الاعتراف بالآخَر، وقَبول الاختلاف الذي لا غنى عنه إذا أردنا فعلاً أن نؤسِّس سوريتنا العصرية الجديدة.