أُكْتُبْ، فالزّمن غدّار..!
المحامي ميشال شماس
"الزمن غدار يا ميشيل.. أكتب تجربتك مع المعتقلين".
هكذا خاطبني صديقي الدكتور حسان عباس، علماً أنني لم أفكر يوماً بكتابة مذكراتي، فلا شيء في حياتي يدعو للإثارة، لكن تلك الكلمات، دفعتني للتفكير في الأمر.. بعد أن شعرتُ لأوّل مرة أن الموت يقترب منّي.
قبل أن أفرغ ما في جعبتي عن تجربتي مع معتقلي الرأي والضمير وما رافقها من متاعب أمنية، كان لا بد من الوقوف قليلاً عند ظروف نشأتي في قريتي الجميلة "عين الغارة " في وادي النصارى، غربي مدينة حمص، حيث ولدت ُ في عائلة فقيرة، وفارقتني أمّي في العاشرة من عمري، ومن يومها أشعر بحنين دائم إلى حضن أمّي، وكلّما أشاهدُ امرأة تحضن أولادها أتذكّرُ أمّي، وكنت أغار من زوجتي عندما كنت أشاهدها تحض أطفالنا وتحكي لهم القصص..
بعد وفاة أمّي عشتُ بظروف صعبة مع أبي الذي كرّس بقيّة حياته لي ولأخوتي الصغار، فلا مورد ثابت نعيش منه، إلاّ ما يرسله لنا أخوتي الكبار من بيروت، وكنتً أشتهي الفروّج واللحم بين عيدي الميلاد والفصح. قضيتُ معظم أوقاتي في الأنهر بحثاً عن ضفدعة هنا وسمكة هناك وعن حبّة بطاطا تركها الفلاحون وراءهم في الحواكير. وعندما بلغتُ الرابعة عشر، بدأت أذهب إلى بيروت للعمل بتجليس الحديد وتحميله خلال العطلة الصيفية، لتأمين مصاريف المدرسة.
أول اصطدام مع الأمن كان في الصف السابع، عندما رفضتُ وعدد من زملائي الانتساب للشبيبة، وأذكر يومها حضر عنصر من المخابرات إلى المدرسة، فاستدعونا لمكتب المدير، وجرى تهديدنا إن لم ننتسب للشبيبة، لكنني أصرّيت على موقفي مع بضعة زملاء، وألزمونا بحضور عدد من الاجتماعات ثم انقطعنا نهائياً، وانتهى الأمر عند هذا الحد.
كانت المدرسة تبعد عن بيتنا أكثر من 2كم، وكنّا نذهب إليها مشياً على الأقدام في حرِّ الصيف وبرد الشتاء، وفي إحدى الأيام كنت عائداً من المدرسة برفقة ابن عمي، وإذْ بسيارة مخابرات تقف قربنا، سألنا السائق فيما إذا كنّا ذاهبين إلى قرية عين الغارة، أجبته بنعم.. فقال:" سنأخذكم معنا بشرط أن تخبروني بأسماء الشيوعيين في قريتكم.. قلت له هاي بسيطة، ركبنا السيارة وما أن قطعت مسافة 200م، حتى طلب منا إخباره بالأسماء، فعددت له حوالي أربعة أسماء بعثيين، فالتفت إليّ، وقال: "شو أنتو عم تضحكوا علينا؟ هذه أسماء لبعثيين.." فقلت له: " أسمعُ في الضيعة يقولون عن الشيوعين اشتراكيين وهدول اشتراكيين؟ أوقف السيارة، وطلبَ منّا النزول، فقلت له: "يا سيدي معقول تحط عقلك بعقل ولاد صغار، شو بدهون يحكوا عليكون العالم".. عندها قال : "يلله طلعوا بس بدون حكي، فعلاً إنكم ولاد صغار.. وأنزلونا في أول الضيعة".. ونحن فرحين .. ارتحنا من المشي.
كان طموحي بعد حصولي على شهادة الثانوية الأدبي، أن أصبح محامياً أدافع عن الفقراء والمظلومين، خصوصاً بعد أن سمعتُ من أبي أنّ أميّ ماتت بسبب ضربة حجر على رأسها من قبل إقطاعي القرية، ووقف أبي عاجزاً عن فعل شيء أمام نفوذ هذا الإقطاعي.
ولعدم قدرتي على متابعة الدراسة في كلية الحقوق، التحقت بالجيش كان ذلك عام 1983، فتم فرزي إلى الشرطة العسكرية بالقابون، ومنها إلى معسكر "تل أصفر" بريف السويداء لحراسة الفدائيين الذين تم ترحيلهم من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وكان المسؤول عنًا ضابط برتبة نقيب يدعى "محي الدين محمد"، والذي تمّ تعيينه فيما بعد مديراً لسجن صيدنايا، واشتهر بتعذيبه للسجناء. في أحد الأيام ألقى علينا محاضرة عن الاتحاد السوفييتي، تحدث فيها عن العنف الذي استخدمه "ستالين" ضد خصومه السياسيين وقتله الكثير منهم.. أثار كلامه حفيظتي لكوني كنتُ شيوعياً حينها، سأل النقيب بعد انتهاء محاضرته إن كان أحدٌ لديه سؤال، رفعتُ يدي قائلاً: "يا سيدي نحن هنا في سوريا استخدمنا العنف أيضاً في حماه، أليس هذا عنفاً؟" وهنا استنفر النقيب قائلاً: "ولك انت عارف شو عم تحكي ولاه ؟" قالها بغضب، هنا أدركت خطورة موقفي، وأضفت قائلا: "لستُ من يقول ذلك، بل السيد الرئيس حافظ الأسد في خطابه التاريخي في ملعب العباسيين بحضور الرئيس البلغاري تيودور جيفكوف قال حرفياً: "إننا لن ندخر أية وسيلة بما فيها استخدام العنف لاقتلاع الإخوان المسلمين من جذورهم"، هنا أعلن النقيب انتهاء الدرس وخرج إلى مكتبه، وشاهدتُ الرعب في عيون الحاضرين.
وفي المساء، دخل حاجب النقيب الى المهجع، وصاح على اسمي، قائلاً: "المعلم يريدك"، نزلتُ من سريري المعدني، ومن بين الأسرة أسمع كلمات معاتبة مثل: "ضروري تسأل؟... الله يرحمك... ضيعان شبابك". اقترب منّي "وليد" - جاري في السرير المجاور- وطلب أن أكتب له عنواني، بعد أن أخبرني أنهم قبل أيام أخذوا عسكرياً، ولم يعد حتى الآن.
أثارت تلك الكلمات الخوف في نفسي، وكان الظلام قد خيّم على المكان عندما دخلت مكتب النقيب الذي بادرني بسؤال: "أمتأكد أن السيد الرئيس قد قال ذلك؟" قلت له نعم، قال النقيب: "سأعود وأراجع خطاباته، وإذا كنت عم تكذب، سأعلق مشنقتك هون في الساحة وأرميك للكلاب.. وبعدين يا حيوان عم تجادلني قدام العناصر، كان بدّي حدا من يلّي متعاطفين مع العصابة المجرمة يسأل.. لعمى في عيونك لعمى ما بتفهم.. وإذا بتعيدها يا ويل ويلك.. ثم طلب منّي الانصراف"..
لملمت نفسي وخرجت إلى الساحة وأنا أفكر في تهديداته، وعدت بعدها إلى المهجع، وقفت بجانب الباب استرق السمع عمّا يدور في المهجع عنّي، سمعتهم يقولون أنّ "هذا الرقيب طايش... ألله يرحمه... يا ضيعان شبابه" وسمعت "وليد" يقول أنه في أول إجازة سيذهب إلى أهلي ويخبرهم بأمري، وهنا دخلت، وقلت له: شكراً وليد ما في داعي لقد عدتُ إليكم سالماً.
في نهاية عام 1986 أنهيت خدمتي العسكرية، بعدها ذهبتُ للعمل بمكتب الحزب الشيوعي في الشهبندر، انقطعت خلالها عن الدراسة، بعد أن ترفّعت إلى السنة الثالثة في كلية الحقوق، تعرفتُ خلالها عن قرب على ديكتاتورية خالد بكداش وهيمنته على الحزب وتلاعبه هو وزوجته بالمنح الدراسية إلى الاتحاد السوفييتي لمصلحة أقاربهم، لم يتحمل خالد بكداش وجودي في المكتب فطلب إنهاء عملي، بعد أن شكّلت معرفتي بالكثير مما جرى ويجري في اجتماعات قيادة الحزب إضافة لملاحظاتي وانتقاداتي المتزايدة لسياسة الحزب مصدر خطر عليهم وإزعاجاً له، لأتابع بعدها مع جناح يوسف الفيصل بعد "انفتاحه ديمقراطيا" كما ظننت (وهو ما سأتحدث عنه لاحقا).
شكّل خروجي من مكتب الحزب اواخر عام 1992 فرصة كبيرة لاستكمال دراستي في كلية الحقوق، لاسيما بعد أن تلقيت دعماً لا محدود من زوجتي التي وفرّت كل الظروف لي، وبذلتْ جهوداً مضنية حتى تخرجتُ من الكليّة.
بعد حصولي على شهادة الحقوق توجهتُ فوراً للتدريب في مكتب الاستاذ خليل معتوق، حيث تعرفتُ على عالم أخر مختلف، مصطلحات ومفردات جديدة في عالم حقوق الانسان والحريات والقانون. وبدأت ألتهم ملفات المعتقلين السياسيين التي كان يتابعها أستاذي خليل معتوق أمام محكمة أمن الدولة العليا. وأذكر أول دعوة استلمتها أمام تلك المحكمة كانت في العام 1998، حيث كنت أتهيّب الدخول إليها من كثرة التشدّد الأمني، وأجواء الرعب المنتشرة في كل زاوية فيها.
بعد انغماسي كلياً في مجال حقوق الانسان، قررتُ الانسحاب من الحزب الشيوعي واعتزال العمل السياسي والحزبي، وأذكر أنه في صيف 1998 حضرتُ أخر اجتماع حزبي بطلب من يوسف الفيصل الأمين العام للحزب، خصص لإقناعي بالعودة عن قراري بالانسحاب من الحزب، حينها أكدت ليوسف الفيصل "أنه لم يعدْ لدي قناعة بجدوى العمل السياسي في ظل حكم الأسد، وإن العمل في مجال حقوق الانسان والدفاع عن معتقلي الرأي والضمير أجدى وأنفع، ويجب أن أكون مستقلاّ عن أي سياسة أو تحزّب. كما أوضحت له "أن سياسة الحزب غير مستقلة وهي مرتهنة لحزب البعث، حيث نجح الأسد بوضعكم في جيبه بعد قبولكم بالمناصب والسيارات التي عرضها عليكم، ومن لم يقبل بذلك أرسله إلى السجن".. انتهى الاجتماع دون أن ينجح يوسف الفيصل بعودتي للحزب، وقال لي على انفراد: "لسانك بدو قص" عندها صحتُ: "يا رفاق اسمعوا الأمين العام يهددني بقص لساني، ولك مليح يلي مو مستلم الحكم، كان دعسنا بالدبابات"..
انتهت حكايتي مع السياسة والأحزاب بعد أن وجدتُ نفسي في مجال الدفاع عن حقوق الانسان وفي المقدمة الدفاع عن المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير، وكل الفضل في ذلك يعود لأستاذي خليل معتوق الذي حظيتُ معه بمتابعة أهم المحاكمات بدءاً من محاكمة نشطاء ما سميّ "بربيع دمشق" أمام محكمة أمن الدولة، ومحاكم نائبين في مجلس الشعب أمام محكمة جنايات دمشق، ومن بعدهما محاكمة أثني عشر من اللذين وقعوا على إعلان دمشق بيروت- بيروت دمشق، وأعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق.
أعطتني تلك المحاكمات الكثير من الشجاعة والجرأة في التعامل مع المحاكمات السياسية دون خوف أو تردد، كما زادتني معرفة وعلماً بحقوق الانسان، وكأن تلك التجربة البسيطة كانت مقدمة وبروفة لما حدث لاحقاً بعد اندلاع الثورة السورية، واكتظاظ المحاكم بمعتقلي الثورة، والانغماس الكلّي في الدفاع عن معتقلي الثورة السورية لحوالي أربع سنوات ونيف.
(اللوحة الرئيسية: لوحة للفنان ياسر صافي. المصدر: حكاية ما انحكت)