داريَّا الثورة والتغريبةِ السوريَّة


إلى أين رحل أهالي داريا؟ وماذا سيفعلون؟ وما هو مصير ريف دمشق؟ هل سيكون كحال حمص سابقا أم سيكون للمستقبل مسار آخر؟ وهل يتحقق ما قاله الإعلامي سامي القرجي من كفر نبل من أن "خروج عدة آلاف من المعارضين من منطقة لا تعني خضوع المنطقة للنظام، إذ يوجد في دمشق عشرات المناطق المعارضة للنظام والثائرة وداريا كانت واحدة منها، وحتى في المناطق التي تخضع لسيطرة النظام، يحتاج معظم الناس فقط لصرخة البداية حتى يثوروا عليه؟

29 آب 2016

ذات المشهد الذي شاهدناه في حمص القديمة، عندما تم إجلاء المدنيين، سكان الأحياء، أبناء حمص، إلى القرى والمدن المجاورة، حيث تجمّعت الباصات المليئة بالمهجَّرين، في إطار تغيير ديمغرافي تشهده سوريا منذ سنوات، ليغادر الحمامصة إلى غير رجعة. ذات المشهد تكرّر في داريا.

لداريا خصوصية مقارنة مع باقي المدن والبلدات التي انتفضت بوجه النظام، فهي تقع على بعد سبعة كيلومترات فقط من القصر الجمهوري، وكيلومترين عن مبنى رئاسة مجلس الوزراء، الواقع في حي كفرسوسة، قرب مطار المزة العسكري، إضافة إلى ذلك، فإنها تتوّسط أحياء الميدان والقدم والمعضمية وجديدة عرطوز، وجميعها أحياء منتفضة وقريبة من العاصمة دمشق.

ما ميّز داريا أيضاً نشاطها السلمي في بداية الثورة، فالمدينة التي شهدت أول مظاهرة مناهضة للأسد في 25/03/2011، يعود تاريخها في الحراك إلى عام 2003، عندما قام مجموعة من شبابها بمشروع يمهّد للمجتمع المدني بأنشطة بسيطة تتلّخص في تنظيف الشوارع ومكافحة الرشوة، وذلك عبر منشورات وزعوها على المدنيين، ما أدى إلى اعتقال معظمهم من قبل مخابرات النظام ومحاكمتهم ميدانياً بالسجن لمدة تزيد عن ثلاث سنوات، وفي بداية الثورة السورية، قدمت المدينة نموذجاً مغايراً من النضال السلمي، وذلك بتوزيع الورود وقناني الماء على عناصر الجيش والأمن في الحواجز المحيطة بداريَّا، وكانت ردة فعل القوات الأمنية بالغة الوحشية في حينه، حيث اعتقلت أبرز وجوه منظمي هذا الحراك، ومنهم إسلام الدباس ومحمد قريطم وغياث مطر الذي قُتل تحت التعذيب، في حين ما زال الباقون قيد الاعتقال.

مواطن من مدينة داريا يقبل اسم مدينته المكتوب على الجدار قبل رحيله عنها. المصدر: المجلس المحلي لمدينة داريا)
مواطن من مدينة داريا يقبل اسم مدينته المكتوب على الجدار قبل رحيله عنها. المصدر: المجلس المحلي لمدينة داريا)

إضافة إلى هذا النشاط السلمي المميز، فإنّ ما ميّز داريا النظام الإداري المطبق ضمن مكاتب المجلس المحلي حتى بعد أن دخلت الثورة فيها مرحلة التسليح للدفاع عن المظاهرات، فهذا النظام يقضي باستقلال المؤسسات الأمنية والقضائية عن كتائب الجيش الحر، وهو ينقسم إلى ثلاثة مستويات، المكتب التنفيذي، ويضم رئيس المجلس ونائبه وأعضاء من المكاتب المدنية والعسكرية، الهيئة التشريعية، وتقوم بدور رقابي على عمل كافة أعضاء المجلس بمن فيهم الرئيس، والهيئة العامة التي تضم جميع العاملين في المكتب التنفيذي، ويتم انتخابهم بشكل دوري من قبل العاملين في المجلس المحلي، هذا الهيكل الصلب منع الحراك الثوري في داريا من التفكك حتى في أصعب ظروف الحصار.

كل الأسباب السابقة جعلت النظام يدفع بكافة قواه للحصول على المدينة، كما جعله يستبعد فكرة الهدنة، على غرار ما فعل في مدن وأحياء أخرى منتفضة، مثل حي الوعر، وفي هذا السياق يؤكد الإعلامي كرَم الشامي، والذي بقي في المدينة حتى خروج آخر دفعة منها لـ (حكاية ما انحكت) على أن "النظام خشي عقد هدنة معنا لأنه يعرف أنها ستساعدنا على إعادة ترتيب قوتنا، ويعرف أننا قادرون على الرد في حال خرق هذه الهدنة، ولأن داريا تشكل تهديداً دائماً له بسبب قربها من دمشق فإنه أراد دخولها بأي ثمن"، إضافة إلى ذلك، فإنّ الأسباب السابقة جعلت داريا أيقونة للثورة النقية، حيث حافظ شبانها على مبادئ ثورتهم حتى آخر لحظة، فبالإضافة إلى العزيمة والصبر اللذين أدهشا بهما السوريين، فإنهم يتصفون بالهدف البنَّاء المتجلي بإعادة إعمار سوريا حرة ديمقراطية، وبالتالي فإنّ خروجهم أصاب السوريين بانكسار شديد، لأنهم كانوا رمزاً للثورة التي يحلمون بها، وبقيت مدينتهم معقلاً أخيراً للنضال الخالي من الأهداف الأيديولوجية.

أين رحل الدارانيُّون؟

تقلص عدد سكان المدينة خلال السنوات الأخيرة من ثلاثمائة ألفاً إلى ثمانية آلاف، إذ لجأ أو نزح معظمهم، والباقون تحوّلوا إلى ضحايا أو معتقلين، ومن بين الآلاف الثمانية الذين بقوا عناصر الجيش الحر الذي سجل مفارقة في الثورة السورية، فهو لم يستمد أيّ دعم مادي من الخارج، إضافة إلى أنّ جميع جنوده من أبناء المدينة، كما أنه لم يرفع أي شعار إسلامي متطرف على الرغم من انتشار هكذا شعارات في معظم المدن المتبقية بسبب الميليشيات التي تحمل أجندات قطرية، تركية، أو سعودية.

عن أماكن خروج من تبقى من أهالي المدينة يصرح كرَم الشامي لـ (حكاية ما انحكت) "الشباب اجتمعوا مراراً للوصول إلى اتفاق عن أمكنة الخروج، ورسوا بالنهاية على أن يذهب قسم منهم إلى مدينة "الكسوة" التي تقع إلى الشمال من دمشق، وقسم إلى حلب وإدلب، أما القسم الأخير فقد قرر الهجرة إلى تركيا، فبعد أربع سنوات من الحرب قد تعب، وقرّر أن يبدأ حياة جديدة في الخارج".

أهالي مدينة داريا يستعدون للخروج من المدينة بتاريخ 26 أغسطس 2016/ المصدر: المجلس المحلي لمدينة داريا
أهالي مدينة داريا يستعدون للخروج من المدينة بتاريخ 26 أغسطس 2016/ المصدر: المجلس المحلي لمدينة داريا

لكن هل سيتابع النشطاء الذين توّجهوا إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام عملهم في الثورة؟، يجيب كرَم "سنتابع عملنا مفيدين ومستفيدين من تجارب زملائنا في المدن الأخرى، لكن لا توجد خطط واضحة لذلك حتى الآن".

بالمقابل، سرت أقاويل تفيد بأنّ بعض الكتائب الإسلامية، "جيش الإسلام، جيش الفتح"، بدأت تعمل على استقطاب النشطاء الخارجين من داريا، كما في إحدى الفيديوهات التي يظهر فيها "المحيسني" قائد جيش الإسلام وهو يستقبل النشطاء، على هذا الأمر علّق الإعلامي سامي القرجي من مدينة "كفرنبل" في إدلب لـ (حكاية ما انحكت) بقوله "إن شباب داريا قد حلوا للتو في إدلب، ولم يبدلوا حتى ملابسهم، لذلك فإنه من المبكر جداً الحديث عن أيديولوجيا تستقطبهم".

نهاية الثورة في ريف دمشق؟

بعد خروج النشطاء من حمص القديمة، لم يحدث أيّ نشاط ثوري على الرغم من عودة كثير من الأهالي إليها، هكذا انطفأت شعلة الثورة هناك، فهل سيكون خروج أبناء داريا بداية لنهاية الثورة في ريف دمشق؟

 ثائر الطحلي، الإعلامي من مدينة حمص، أكَّد لـ (حكاية ما انحكت) على أن "داريا بالتأكيد رمز من رموز الثورة في ريف دمشق، ولكن سقوطها لن يعني أبداً نهاية الثورة هناك، فدارياً كانت محاصرة بسبب موقعها الجغرافي الذي مكّن النظام من إحكام حصاره لها، أما مناطق ريف دمشق الأخرى، وخاصة الغوطة الشرقية فهي تتمتع بموقع جغرافي يصعب التعامل معه من قبل قوات النظام".

من جانبه، قال سامي القرجي "خروج عدة آلاف من المعارضين من منطقة لا تعني خضوع المنطقة للنظام، إذ يوجد في دمشق عشرات المناطق المعارضة للنظام والثائرة وداريا كانت واحدة منها، وحتى في المناطق التي تخضع لسيطرة النظام، يحتاج معظم الناس فقط لصرخة البداية حتى يثوروا عليه".

(الصورة الرئيسية: أهالي من داريا يحملون أمتعتهم ويستعدون للخروج من المدينة بتاريخ 26 أغسطس 2016/ المصدر: المجلس المحلي لمدينة داريا)

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد