لم يكن أحد يتوقع أن يحدث في سوريا ما حدث من قتل لمئات الآلاف من السوريين واعتقال مثلهم، وتدمير ممتلكاتهم وسرقة أموالهم وتهجير أكثر من نصف الشعب السوري، بل إنّ مجمل التحليلات والتصريحات السياسية وغيرها التي أعقبت اندلاع الاحتجاجات الشعبية على نظام الأسد كانت تبشر بسقوط الأسد، لابل أن بعضها كان يجزم أنّ أيامه باتت معدودة.
مضت الأيام.. ومضى معها الشهر الأول، فالثاني، فالعاشر، وموشح التحليلات والتصريحات المحلية والإقليمية والدولية يتكرّر سماعه. وها نحن على مشارف انتهاء السنة الخامسة منذ 16/3/2011 ومازال نظام الأسد ممسكاً بكرسي الحكم في دمشق بدعم دولي وروسي - ايراني مباشر، بعد أن نجح بإشعال النار فيها تطبيقاً للشعار الذي رفعته أجهزته الأمنية "الأسد أو نحرق البلد"، وساعده في إشعال الحريق تلك الدكاكين والزواريب والإمارات، والتي بدأت تنتشر على الأراضي السورية كالفطر، بعد أن أطلق الأسد سراح معظم أفرادها من سجونه، وساعده في ذلك نوري المالكي عندما كان حاكماً للعراق بإطلاق آلاف السجناء المتشددين من سجني أبو غريب والتاجي العراقيين مدعومين من دول الخليج وتركيا.
وحده صديقنا المحامي "نبيه"، كان يرى خلاف ما يراه معظمنا وهو الذي خبرَ النظام جيداً بعد أن قضى في سجونه ما يزيد عن خمسة عشر عاماً، وأذكر أنني كنتُ أجلسُ في قاعة المحامين يوم الخامس من شباط 2011 برفقة الأستاذ خليل معتوق وصديقنا نبيه، فما اجتمع سوريان إلا وتحدثا في السياسة، كيف لا والبلد مقبلة على تطورات لا ندري كيف ستكون؟
بدأ الحديث أستاذي خليل موجهاً كلامه لصديقنا "نبيه" متسائلاً:" إي هات لشوف يا أبو النباهة وبحسب خبرتك في السجن لأكثر من 15 سنة كيف ترى الأمور؟ وهل تعتقد أن النظام سيسقط بعد أن سقط مبارك بثمانمائة قتيل، وبن علي بأربعمائة قتيل؟ وكم سيسقط عندنا قبل أن يسقط النظام؟.
ضحك صديقنا "نبيه"، ثم استغرق في التفكير قليلاً، عندها قاطعته قائلا:" إي شو بدها كل ها التفكير؟"
أجاب "نبيه" بلهجة الواثق من كلامه: "ربما ستضحكون عليّ إذا قلتُ لكم أن الأسد لن يسقط قبل سقوط مليون قتيل..!" في الحقيقة صُدمتُ أنا وأستاذي خليل بقوله، قبل أن يرد الأستاذ خليل بالقول:" إي طول بالك يا زلمة؟ مليون مو معقول؟ قول غير ها الحكي؟!
استجمع صديقنا "نبيه" نفسه بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيكارة حمراء طويلة، ثم أخذ يشرح لنا بإسهاب كيف توصل إلى هذه النتيجة المرعبة، منوهاً أنّ الأوضاع في مصر وتونس تختلف اختلافاً كلياً عن سوريا، فعلى الأقل في تلك الدولتين كان يوجد هامش من الحرية، وتوجد أحزاب فاعلة، كما توجد منظمات مجتمع مدني، أما عندنا فلا لا حرّية ولا حياة سياسية ولا من يحزنون، لقد دُمر مجتمعنا منذ قيام الوحدة مع "عبد الناصر" الذي بنى نظاماً أمنياً استبدادياً، هذا النظام الذي استند إليه حزب البعث في حكم البلاد بعد استيلائه على السلطة في انقلاب 8 أذار 1963، قبل أن يحوّل الأسد الأب سوريا إلى دولة من الرّعب والخوف ثم إلى مزرعة له ولأقربائه، مؤكداً على صحة ما قاله الدكتورعارف دليلة في منتدى الأتاسي عام 2001 ": أنّ سوريا تحوّلت إلى مزرعة لبيت الأسد وبيت مخلوف وشاليش" هذا القول الذي تسبّب حينها بسجن "دليلة" عشر سنوات... ولتدعيم كلامه أخذ صديقنا المحامي يروى لنا قصة حقيقية، جرت أحداثها في مدينة مشتى الحلو المصيف السوري الجميل، منوهاً أنها كانت تتميز بأنشطتها السياسية والثقافية والفنية المتمردة، ولذلك كانت محط أجهزة الأمن منذ عبد الحميد السراج الذي أوفد إليها مخبرين في عام 1958 يرصدون له حركة الناس فيها ونشاطاتهم، وكان من المخبرين مخبراً أسمه "نوري" يتسلل ليلاً بين البيوت ليسترق النظر من خلف الأبواب والنوافذ، وكان أهالي المشتى يتحاشون اللقاء به في الشارع، لكونه تسبب باعتقال كثيرين من شبابها.
توفي "نوري" في عام 1969 ولم يجد من يمشي خلف نعشه سوى بضعة أشخاص يعدون على أصابع اليد، من بينهم شخص يُدعى "ليوّن الجبرا" عمره 107 سنوات، وقد بدا خائفاً ومرتبكاً"، فسأله شخص يمشي بجانبه : شو يا جدو كأنك خايف؟ معك حق الموت له رهبة" فرد عليه " الجبرا" لا..لا لستُ خائفاً من الموت، بل من نوري..، ردّ عليه الشخص: " إي بس يا جدو نوري مات، وارتحنا من شرّه"، ردّ عليه "لّيون الجبرا" بعصبية وانفعال: "ولك نسيتوا شو عمل فينا أيام عبد الناصر والسرّاج، وهلق إذا شافني يتذكرني وأكيد رح يقلّوا لألله شو أخذتني وتركت ليّون الجبرا..؟" وختم صديقنا حديثه بالقول: لن يتخلى الأسد عن الحكم بهذه السهولة، والأيام جاي يا شباب ورح تشوفوا وتسمعوا العجب.
وبعد أن اندلعت التظاهرات وعمّت المدن السورية، وبينما كنّا نحن الثلاثة نجلس معاً في قاعة المحامين ننتظر ما سيقوله الأسد في خطابه أمام مجلس الشعب في 30/3/2011 حاول صديقنا "نبيه" إقناعنا بأن لا نضيّع وقتنا بالاستماع لخطاب الأسد، فهناك معتقلين ينتظروننا، فالأسد بحسب رأيه سيصف التظاهرات بالمؤامرة، وسيقمعها بشدة، المهم أرغمناه على الجلوس والاستماع معنا لما سيقوله، عندها اشترط علينا أن نضّيفه فنجاناً من القهوة على حسابنا عقاباً لنا، ولم تمض عشرة دقائق على كلمة الأسد ونحن ندقق في وجوه المحامين الذين كانت تغص بهم القاعة، فبدت مكفهرّة والصمت والوجوم يخيّم على كل من في القاعة، عدا عن تصفيق بعض المخبرين في بداية الكلمة، وعقب" نبيه قائلاً: "لوكنتُ غنياً لصدقتموني؟"
غادرنا القاعة بعدها إلى شارع النصر الخاوي إلا من بعض المارة والسيارات، هائمين على وجوهنا، لا ندري أين نذهب وماذا سنفعل؟ فلم يكن لدينا رغبة بالعودة إلى البيت.. ونحن نستشعر الخطر على مصير سوريا وشعبها.
وأمّا بعد كلّ الذي حدث في سوريا من قتل وتهجير واعتقال وتدمير واستباحة كل شيء فيها براً وبحراً وجواً، هل مازال الكلام عن جدوى الحلّ السياسي للمأساة السورية ممكناً في ضوء تضارب مصالح القوى الدولية المتدخلة والفاعلة في النزاع السوري؟ أم أنّ الحديث اليوم عن حلّ سياسي بات يعني حكماً هو انتظار نضوج تسوية بين القطبين الفاعلين في سوريا روسيا وأمريكا، بعيداً عمّا انتفض السوريون لأجله في إقامة نظام ديمقراطي، يساعدهم في ذلك استمرار عجز السوريين وطنياً وأخلاقياً في الموالاة والمعارضة وما بينهما عن إيجاد حلول تخفّف من مأساتهم وتوقف هذا التشظي الهائل فيما بينهم؟ أم أن هناك مازال ثمة أمل في ظهور قوى مجتمعية وسياسية تخرج من قلب هذه المأساة الأليمة، تسطيع فعلاً وضع حد لهذه المأساة حفاظاً على ما تبقى من سوريا وناسها، وتضمد جراح السوريين تمهيداً لإعادة بناء سوريا على أسس جديدة بعيداً عن الاستبداد والتطرف والانتقام؟!
بداية هذا الأمل تكمن في وقوف السوريين بلا استثناء، ولاسيما من تملّكهم السلاح ووهم الانتصار السريع والحاسم وقفة نقدية لكل ما جرى، لعلّهم يقتنعون أن طريق العنف واقصاء الأخر لن يؤدي إلا إلى استمرار مأساة السوريين، وربما إلى فناء سوريا بأرضها وأهلها.. وأن يتلّمسوا طريق الخلاص بمزيد من أنسنة فكرهم وعقلنة تصرفاتهم، أقلها احتراماً للتضحيات العظيمة التي قدمها وما يزال يقدمها الشعب السوري.
(اللوحة الرئيسية للفنان حكم الواهب. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك)