الدستور بين الحلم والواقع


أسوأ تجارب الدساتير التي تلت النزاعات على الاطلاق في العقود الماضية، فهو ما فُرِض على البوسنيين من خلال اتفاقية دايتون سنة 1995. لقد تمّ تصميم الدستور للانتهاء من الحرب الأهلية ولم يصادق عليه برلمان أو أي هيئة وطنية أخرى.قد تمّ وضع الدستور بأسلوب من الأعلى إلى الأسفل بالبحث عن أدنى القواسم المشتركة بين الأطراف المتصارعة. وقد افتقرت عملية صناعة الدستور الى آليات المشاركة المدنية وصارت لاحقاً مصدراً للشلل السياسي وللانقسام الوطني. فهل هذا ما ينتظر السوريين ؟ّ

22 أيلول 2016

سلام الكواكبي

باحث سوري، نائب المدير ورئيس البحوث في مبادرة الإصلاح العربي

إن عملية صناعة الدستور "الناجح" هي حصيلة جهد اختصاصيين دستوريين من جهة، وهي أيضاً ناجمة عن نقاش مواطني ومشاركة مجتمعية وحراك شامل للمجتمع المدني من جهة أخرى. ومن خلال استعراض تجارب ناجحة نسبياً، يمكن للسوريين ـ على المدى المتوسط بالتأكيد ـ بما أنّ المقتلة السورية لم تصل إلى نهايتها بعد، أن يأملوا بانتقاء المناسب منها أو ما هو مشترك بين الأنسب.

ومن خلال الانتقال من أميركا اللاتينية إلى جنوب أوروبا مروراً بآسيا والشرق الأوسط، من المفيد التركيز على الدساتير الحية المبنية على عملية بناء المعرفة وتنشيط الحوارات السياسية. إنّها عملية تجعل المواطن يشعر بأنّه قد ساهم بطريقة أو بأخرى في صناعة الدستور وهو في النهاية مالكه. الدستور ليس حزمة من القوانين الصمّاء، وهو عملية توافقية بين مصالح متناقضة أحياناً ومتباعدة سياسياً أو ثقافياً  في أحايين. والسعي إلى الحلول الوسط في سبيل نجاح شامل لا يعني البتة التخلي عن مبادئ أساسية في صناعة الدستور وهي التي تتفق عليها كل مكوّنات المجتمعات التي تسعى إلى ترسيخ عملية التحوّل السياسي بجرعات ديمقراطية عالية.

المسارات الدستورية تأخذ أهمية عالية في عمليات الانتقال الديمقراطي، وهي حاسمة في عملية بناء الوعي الوطني وتعزيز الشرعية السياسية الديمقراطية، والتي تأتي خصوصاً بعد تحولات ثورية أو حركات احتجاجية سلمية أو عنفية. مع التشديد على أنّ كلّ عملية تحوّل ديمقراطي هي عملية فريدة بحدّ ذاتها كبصمة الإصبع ومن الصعب إيجاد نسخ متكرّرة ومتطابقة إلا في بعض التفاصيل الصغيرة أو المحاور الكبيرة. وتعتبر جُلّ المدارس الدستورية بأنّ المسار مهم بقدر أهمية المضمون في أيّ دستور من حيث حجم المشاركة ونوعية الحوار وكيفية التوافقات التي تتم حوله.

شكل الدستور ومضمونه يتأثران بزمن كتابته والظروف التي تحيط بعملية صياغته، كأن تكون العملية قد أتت مثلاً إثر نزاع مسلح أو ثورة شعبية اتخذّت طابعاً عنفياً أو حرب أهلية، أو على العكس، وذلك من خلال انتقال سلمي للسلطة. وتلعب القوات المسلحة والقوى الأمنية ومدى سيطرتها وسطوتها أو العكس، دوراً مؤثّراً في هذه العملية. كما يؤثر اللاعبون الإقليميون والدوليون بطرق مختلفة في هذا النطاق.

في العقود الأخيرة، عرفت عملية صناعة الدساتير تجارب عديدة ومتنوعة انطلقت في السبعينات من دول أوروبا الجنوبية التي تحرّرت من أنظمة ديكتاتورية كما إسبانيا (دستور1977) والبرتغال (دستور 1976). وعبرت هذه العملية من خلال تحوّلات ديمقراطية استتبعت صياغات دستورية في بعض دول أميركا اللاتينية خلال الثمانينات كما في المثال الأبرز وهو البرازيل. وامتدت العملية لتعبر من أوروبا الوسطى والشرقية بعد تحرّر عديد من دولها من الهيمنة السوفييتية وحكم الأحزاب الشيوعية التابعة لها في التسعينات. أما في الألفية الثانية، فلقد عاشت بعض الدول العربية مخاضات تحوّلات سياسية ناجحة نسبياً كتونس أو فاشلة تماماً كمصر، وقد عرفت هي أيضاً مسارات دستورية متفاوتة يجدر ملاحظتها وأخذ العبر والفوائد منها.

الدستور ليس نصاً مقدساً

من الأنسب الانطلاق من قناعة بأنّ الدستور ليس نصاً مقدّساً، وهذا مما سهّل عملية الصياغة في أكثر من حالة وفي أكثر من بلد. ولا يرتبط نجاح تطبيق الدستور بكونه مغلقاً أو مفتوحاً، فلكل حالٍ مقام. ففي البرازيل، وهو المثال الأكثر "تطرفاً" ـ إن جاز التعبير ـ في انفتاح الدستور، فقد جرى تعديله 72 مرة منذ تطبيقه سنة 1982 دون أن يؤثّر ذلك على العملية الديمقراطية وعلى مسار التحوّل السياسي من نظامٍ عسكري إلى حكومة مدنية. من جهة أخرى، فقد جرى تعديل الدستور البرتغالي 7 مرات، حيث تطرّقت التعديلات خصوصاً إلى الجوانب الاقتصادية وسمحت بتحرير جزء من المنظومة الاقتصادية وتجاوزت نسبياً الطبيعة الإيديولوجية لدستور 1976 الذي صدر في مرحلة ثورية عالية الجرعة تميّزت بميولٍ يسارية وزخمٍ نقابي انعكست كلها في بنية الدستور. بالمقابل، يبدو أنّ دستور اسبانيا مغلقاً نسبياً حيث لم تحصل عليه تعديلات منذ 1978 إلا مرتين. مسألة الاغلاق والانفتاح أثّرت جليّاً في تسهيل عملية إقرار الدستور التونسي لتوفّر القناعة الراسخة لدى المشاركين في الحوار الوطني التونسي، الذي سبق إقرار الدستور، بإمكانية تعديل الدستور مستقبلاً وإيمانهم في الطبيعة المفتوحة للنص الدستوري، مما ساهم، وبوضوح، في المصادقة عليه وتخفيف التوّترات التي كانت قائمة والقبول ببعض التنازلات من هذا الطرف أو ذاك.

وانطلاقاً من القناعة بأن الدستور المثالي ليس حلا سحريا لكلّ مسائل بناء الديمقراطية، خصوصاً إن شابت عملية إقراره توّترات وتجاذبات وفرض توجهات لم يتم الإجماع عليها، فإنه لا يوجد نموذج سياسي ديمقراطي أمثل لنمط الحكم. فالبرازيل مالت إلى النظام الرئاسي كامل الصلاحيات، والبرتغال جنحت إلى النظام نصف الرئاسي، أما اسبانيا، فقد أقرّت الملكية البرلمانية. كان الهدف المشترك، حسب ظروف كلّ بلد وثقافتها السياسية، هو السعي إلى عدم تركيز السلطات في يد واحدة. وكانت مسألة العدالة والحقوق الاجتماعية واضحة في دساتير كل من تونس والبرتغال والبرازيل. ففي البرتغال كان دور الأحزاب اليسارية واضحاً في صياغة النسخة الأولى من الدستور، وعلى الرغم من التعديلات التي لحقت به، إلا أنّ مكانة الحقوق الاجتماعية بقيت بارزة في النص.

كما أنّه تبقى المسألة الدينية في الدساتير مسألة جدلية معقدة ومحلّ تجاذبات ورهانات وتقاطعات كما تناقضات. ومن المفيد الإشارة إلى أن المرجعية الدينية في الدستور لا تتناقض بالمطلق مع طبيعته الديمقراطية إن هي أُطِّرَت بشكل واضح وصريح في النص. ففي البرازيل، وفي تعديل سنة 1988، تمت الاشارة إلى مرجعية الله وإلى تاريخ البلاد الكاثوليكي. ولم يكن لهذا النص أي أثر سلبي على احترام العقائد الأخرى وعلى حرية المعتقد لورود ما ينصّ صراحة على حمايتها. وفي إسبانيا، فقد تمّ الأخذ بالاعتبار "للمعتقدات الدينية للمجتمع الاسباني"، وأن تتعاون الدولة مع الكنيسة الكاثوليكية وغيرها من العقائد. وكان هذا التنازل تجاه الكنيسة ضرورياً لتجاوز مرحلة الهيمنة الكاملة والمتحالفة مع النظام الاستبدادي للجنرال فرانكو ما قبل التحوّل. بالمقابل، لم يرد في الدستور البرتغالي أية إشارة إلى أية مرجعية دينية. والقاسم المشترك "الأعظم" بين هذه الدساتير كان هو ضمان الحرية الدينية وحرية المعتقد والمساواة في الحقوق والواجبات بين افراد مختلف الأديان والمذاهب.

عربياً، استطاعت تونس، وفي دستور ما بعد الثورة، والذي يعتبر متقدّماً عربياً من حيث الالتزام بالمعايير الدولية التي تضمن حقوق الإنسان والمرأة وحماية الحرية الدينية وحرية المعتقد والحقوق الاجتماعية،  من خلال إيراد القول في الدستور بأنها دولة حرة مستقلة دينها الاسلام، أن تتجاوز الاشكاليات التي برزت خلال الحوار الوطني بخصوص مكانة الدين الاسلامي في الدستور. حيث يضمن الدستور بشكل واضح وصريح حرية المعتقد وممارسة الأديان والطقوس. لقد تغاضى حزب حركة النهضة عن مرجعية الشريعة في الدستور مما سهّل الوصول إلى توافقات أساسية ساعدت في إقراره. كما أنّ القبول بحرية المعتقد هو أمر ليس بثانوي وسيكون له تأثير هام على دمقرطة العملية السياسية في المنطقة كما يبدو أثره واضحاً في تطوّر العمل السياسي للمجموعات ذات التوجهات الدينية المعتدلة، وعلى رأسها حركة النهضة. مقابل هذا التطوّر في الصياغة، فقد بدا واضحاً أن دستوري مصر سنة 2012 و2014 قد أحلاّ الشريعة كمصدر أساسي للتشريع. لقد أقرا بوضوح استخدام الشريعة كمصدر أساسي للتشريع، وتم توضيح دور جامع الأزهر كسلطة دينية مرجعية.

مسألة العلاقة المدنية / العسكرية كانت أيضاً من أهم ما تطرقت إليه الدساتير الحديثة في دول التحولات السياسية نحو أنظمة أكثر ديمقراطية. وكان البحث دائماً عن حلول سياسية للدور العسكري الذي كان مهيمناً. وكان القاسم المشترك هو السعي لأن يكون الإشراف مدنياً على القوات المسلحة في كل من إسبانيا والبرتغال والبرازيل، كما في تفكيك البنية الأمنية. وفي هذا المجال، تبرز هنا خصوصية البرتغال، فقد جاءت الديمقراطية عبر انقلاب عسكري ـ ثورة القرنفل ـ (1974)، وهذا يعتبر من الأمور النادرة في التاريخ السياسي الحديث. لذلك، فقد كان من الصعب إخضاع الجيش "الديمقراطي" إلى رقابة وإشراف مدنيين فور الانتهاء من الدكتاتورية لما كان للأحزاب السياسية غير اليسارية من سمعة سلبية. وبعد فترة من الانتظار والممارسة السياسية، تم تعديل موقع ودور الجيش سنة 1982 من خلال تعديل الدستور ومع إقرار قانون دفاع جديد حيث تم تحديد دور الجيش في مسألة الدفاع عن البلاد أمام الخطر الخارجي فقط. وفي إسبانيا، أقرّ الدستور تعيين أول وزير مدني للدفاع وقام بدوره بإجراء عملية إصلاح شاملة قام من خلالها بتطبيع تدريجي للعلاقات العسكرية والأمنية مع المنظومة السياسية كجزء من إصلاحات عامة للعملية الديمقراطية.

في مصر، التي فشلت فيها الثورة، وتمّ التراجع بشكل واضح عن أي تقدّم سياسي أو مدني أُحرِزَ منذ سنة 2011، فقد رسّخ دستور 2012 دور الجيش وحماه بوضوح من أيّ تدخل مدني في إدارته أو في محاسبته. وبعد انقلاب 2013، جاء دستور 2014 لترسيخ هذا الاستقلال التام كما عزّز من هيمنة الجيش على الحياة العامة. لقد فشل دستور 2012 بأن يكون لكل المصريين، حيث كان الاهتمام منصبا على تقاسم السلطة أكثر من توسيع إمكانيات وحقوق المجتمع المدني. أما دستور 2014 فقد كان أداةً سلطوية لتشريع الانقلاب وقد استبعد جزءاً هاماً وطيفاً واسعاً من المجتمع السياسي أثناء إعداده. وفي تونس، لم يكن للبعد العسكري أي دور في النقاشات الدستورية لما للجيش التونسي من موقع غير أساسي في الساحة السياسية، كما للدور الإيجابي والوطني الذي لعبه إبّان الاحتجاجات وما تلاها.

بالمقابل، هناك مخاطر جمّة في عدم إدراج دور ووظيفة الجيش في الدستور، ففي تركيا التي كان للجيش دورٌ أساسي تاريخياً فيها كما مصر، جرى تحييد إجرائي للجيش عن الحياة السياسية بدءاً من منتصف الألفية الثانية من خلال سياسات حزب العدالة والتنمية التدريجية. ولم تتبين الحاجة إلى نصوص دستورية إلا بعد الفشل الجزئي الذي سجله هذا التحييد مع الانقلاب العسكري الفاشل في تموز 2016. صار لزاماً إذاً على المشرّع التركي إدراج مسألة دور الجيش في النص الدستوري بعد أن أغفلها طويلاً.

مسائل عدّة تواجه عملية صناعة الدستور، وكما يعتبر البرازيليون أنّ في حالتهم، فعملية صناعة الدستور أهم من الدستور نفسه، فقد اهتمت دولٌ أخرى بالمسار، واقتنعت بأنّ القبول بالدستور وتطبيقه يكونان أكثر نجاحاً إن هو نجم عن عملية تشاركية بين النخبة والفئات الشعبية والمجتمع المدني. وفي تركيا، كانت هناك مشاركات مجتمعية واسعة للحصول على مساهمة جماهيرية على الرغم من عدم وضوح المخرجات. وفي تونس، كانت المقاربة تشاركية وجرت جلسات محلية ووطنية للنقاش توّجت بحوار وطني جامع لعب فيه المجتمع المدني دوراً أساسياً، خصوصا فيما يتعلّق بإيجاد حلول تفاوضية للخروج من عنق الزجاجة حيث وجد المتحاورون أنفسهم مراراً ضمنه. ويبدو جلياً من خلال مختلف التجارب أنّ التنازلات هي في صلب انجاح العمليات التشاورية. فإلى جانب التنازل في الشق الديني تونسياً، جرى في إسبانيا تنازلٌ من الشيوعيين والاشتراكيين على تبني البنية الاشتراكية للدولة مقابل تنازل أحزاب اليمين عن مركزية الدولة. وفي تركيا، وقفت القضية الكردية عقبة وشكلت مسألة فيها استقطاب/ صعوبة التقدم في المسألة الدستورية بسبب هيمنة الإيديولوجية القومية للدولة المركزية.

إن المسارات الدستورية تأخذ وقتاً طويلاً. والاستعجال يمكن أن يُسيء إلى نتائجها ومخرجاتها. ففي البرازيل، حيث تمّ الاستماع إلى الخبراء وإلى عامة الشعب في جلسات مفتوحة، استمر العمل سنتان على الدستور. وفي تونس، من خلال مسار تشاوري وحوار وطني استوفى أوسع الجوانب، فقد استغرق الأمر ثلاث سنوات.

أسوأ تجارب الدساتير التي تلت النزاعات على الاطلاق في العقود الماضية، فهو ما فُرِض على البوسنيين من خلال اتفاقية دايتون سنة 1995. لقد تمّ تصميم الدستور للانتهاء من الحرب الأهلية ولم يصادق عليه برلمان أو أي هيئة وطنية أخرى. كان لاتفاقية دايتون هدفان ينحصران في تحقيق السلام من جهة وتأسيس نظام سياسي جديد من جهة أخرى. وقد قبلت العملية الدستورية بالانقسامات الإثنية كواقع بسبب التركيز الدولي على العدالة الانتقالية والقضايا الاقتصادية، حيث يعكس الدستور تلك الانقسامات. وقد تمّ وضع الدستور بأسلوب من الأعلى إلى الأسفل بالبحث عن أدنى القواسم المشتركة بين الأطراف المتصارعة. وقد افتقرت عملية صناعة الدستور الى آليات المشاركة المدنية وصارت لاحقاً مصدراً للشلل السياسي وللانقسام الوطني.

فهل هذا ما ينتظر السوريين ؟ّ

الصورة الرئيسية: ملصق إعلاني يظهر بند من الدستور السوري ( يتولى رئيس الجمهورية تسمية رئيس مجاس الوزراء و نوابه و تسمية الوزراء و نوابهم ) ضمن حملة دافنينو سوا ... المصدر حملة دافنينو سوا على الفيس بوك

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد