تَبحَثُ عَنْ وَحِيدها ولا تَدري أنهم قَتَلُوه


قررتُ أن لا أخبر السيدة بوفاة وحيدها لتعيش على أمل عودته إليها، وبقيت على الاتصال بها تأكيداً على اهتمامي بمأساتها، إلى أن اتصلت بي في أواخر أيلول 2012 وأخبرتني أنهم قبل أسبوع أعلموها بوفاة ابنها نتيجة إصابته بأزمة قلبية، وسلّموها هويته، دون جثته، وأضافت إن جارتها أخبرتها إن "محمد حيّ"، طالما لم يسلموها جثته، فقد سبق أن فعلوها مع أناس اخرين، ثم تبيّن أنهم أحياء: "فبرضاي عليك أنت أبن حلال وبتخاف من ألله، ممكن يكون أبني عايش طمنّي الله يخليلك ولادك.؟!" قلتُ لها : نعم يا خالتي ممكن لا شيء مستبعد، وأنا سمعت هيك قصص كمان"، عندها أخذت تدعو لي وتشكرني لوقوفي معها.. وكان هذا أخر اتصال بيننا، لكن صورتها مازالت في مخيلتي إلى الآن.

23 أيلول 2016

ميشال شماس

محامي سوري وناشط حقوقي في عدد من الملفات الحقوقية أبرزها: الدفاع عن المعتقلين السياسيين

كنتُ أراها كلَّ يومٍ تقريباً تَجلسُ على حافةٍ الرصيف الملاصق لمدخل نظارة القصر العدلي بدمشق. سيّدة في الستين من عمرها، يبدو عليها الحزن والتعب، ظننتُ في بداية الأمر أنها ليست إلا مجرّد متسولة، من جملة المتسولين الذين تضاعفت أعدداهم في شوارع  دمشق بعد تدهور الحالة المعيشية بشكل مريع.

  أثارت تلك السيدة انتباهي مع تكرار مشاهدتي لها، فتارة أراها جالسةً عند مدخل النظارة، وتارة أخرى أراها واقفة تستند إلى الحاجز الحديدي وعيناها ترنو إلى شيءٍ ما في داخل الفناء المخصّص لوقوف سيارات القضاة، وكأنّها تبحثُ عن أمر ما قد فقدته.. تساءلتُ في نفسي: لماذا تجلس هذه المرأة يومياً عند مدخل النظارة بالذات؟ فالمكانُ ليس مناسباً للتسوّلِ، أغلبُ الداخلين والخارجين من هذا الباب هم من القضاة وعناصر الشرطة والأمن وموظفي القصر العدلي ..

  في صباح 11/6/2012  كنتُ على عجلة من أمري توجهتُ مسرعاً باتجاه نظارة القصر العدلي، فوجئت بتلك السيدة  ثقف على الفتحة الضيقة للحاجز الحديدي، قلتُ لها: "يا خالة .. يا خالة إذا سمحتِ أريد الدخول"، نظرتْ إليّ وكأنها تريد قول شيء، ابتعدتْ قليلاً عن المدخل دون أن تتفوّه بأية كلمةٍ.. تابعتُ طريقي إلى حيث مكان توقيف النساء، ونظراتُ عينها المليئة بالحزن تلاحقني لم تغب عن مخيلتي، لكن انشغالي بمتابعة  الناشطة "فرح حويجة" التي أحيلت من فرع الأمن إلى نظارة القصر العدلي، شغلني عن معرفة سرّ تلك السيدة.

   سألتني الشرطية: أيّ صبيّة تريد؟ ضحكتُ وقلتُ لها مازحاً: أنا متزوجٌ، أبحث عن صبيةٍ اسمها فرح حويجة، نظرتُ إلى الشبك وإذْ بصبية سمراء جميلة، عيناها الواسعتان تلمعان فرحاً، سألتها: أنتِ فَرَحْ يلّي صرعني باعتقالك أبوك وعمّك فائق، وكأنه لم يُعتقلْ غيرك؟!  ابتسمت وأحمّر وجهها خجلاً.. سألتني: مين حضرتك؟  أجبتها: أنا المحامي ميشال شماس، وبعد أن حدّثتني عن الاتهامات التي وجّهتْ لها والمعاملة السيئة التي لقيتها في الفرع.، قلتُ لها: عندما يستجوبك القاضي أنكري كل التهم الأمنية، وكوني شجاعة ولا تخافي، وبعد ساعة أطلق سراحها، بعد أن قضتْ أربعين يوماً في الاعتقال على خلفية نشاطاتها الإنسانية في مساعدة الناس ولاسيما الأطفال منهم.

  تركتُ "فرح" تفرحُ بحرّيتها بين أهلها ومحبيها، وذهبتُ لمتابعة دفعة جديدة من المعتقلين الذين أحضروهم  للتو، كان من بينهم نساء وفتيات، حصلتُ على إذن من العميد لزيارة موقوف لا أعرفه. المهم أني وضعت اسماً، كوسيلة لأرى من تمّ تحويله اليوم، عرّجتُ أولاً على مكان احتجاز الرجال، والتقيت بعدد من المعتقلين، وبعد أن استفسرتُ منهم عن الاتهامات الموّجهة لهم، أبلغتهم أن ينكروا أقوالهم ويقولوا لزملائهم الآخرين أن يفعلوا الشيء نفسه، ثم ذهبتُ إلى مكان احتجاز النساء. إحدى المعتقلات في العقد الثالث من عمرها، سألتني إن كنتُ محامياً فأجبتها: نعم ماذا تريدين؟ قالتْ:  "أريد أن تخبر أهلي بوجودي في النظارة"، قلتُ لها سأفعل، ولكن يمكنك الاعتماد عليّ لحين وصولهم، وعندما عرفتْ اسمي قالت موّجهة كلامها لزميلاتها: "تعوا شوفوا هادا المحامي ميشال شماس يلي سمعنا اسمه في الفرع، واندفعت زميلاتها إلى الشبك، وكل واحدة تريد إخبار أهلها. طمأنتهنّ جميعاً على أنهنّ سيخرجن اليوم.. لكون الاتهامات بسيطة من قبيل التظاهر والتحريض ضد النظام، ولم أغادر إلا بعد أن الاطمئنان على  إطلاق سراحهن وسراح الشباب جميعاً.

  كانت الساعة الرابعة بعد الظهر، عندما خرجتُ من القصر العدلي منهكاً، لكن فرحتي  بإطلاق سراح هذا العدد الكبير أنساني تعبي، ولدى وصولي إلى مدخل النظارة الخارجي برفقة أحد المفرج عنهم ويدعى "فاضل"، فوجئت بعدد من الأمهات يعترضون طريقنا ومن بينهم كانت تلك السيدة التي  تعوّدت على رؤيتها يومياً في هذا المكان، سارعتْ تلك السيدة إلى سؤال "فاضل" إن كان قد شاهد أو سمع باسم ابنها المعتقل منذ 2نسيان 2012، رد  قائلا:  "والله يا خالة يا دوب اتذكر اسمي، شوفي حالتي مبهدلة، وثيابي مهترئة وجربان وكمان جوعان .. خليها لألله" ثم انهالت الأسئلة عليه، ارتبك "فاضل" فلم يعد يعرف على من يردّ.. عندها تدخلت وطلبَتُ منهنّ أن يسألوا بالدور، وقلتُ للسيدة: "شو اسم ابنك يا خالة"؟،  أجابت: محمد فلان ابن فلان،  أجابها فاضل: "لا والله يا خالة لم أسمع باسمه. أخرجت السيدة صورة لأبنها قائلة " ألله يرضى عليك يا ابني، هاي صورته تطّلع فيها مليح بلكي بتكون رأيته؟ بجاه ألله طمنّي، النار تحرق قلبي.. هذا وحيدي يلّي بقيلي بها الدنيا"، تمعّن في الصورة جيداً".

أكد لها فاضل عدم مشاهدته مطلقاً، واستمر الأمر لحوالي ربع ساعة حتى تمكّن من الإجابة على أسئلة النساء اللواتي تَحلّقنَ حولنا. وهذا المشهد كان يتكرّر يومياً أمام القصر العدلي كلما أفرج عن معتقل.

  غادرنا المكان إلاّ أنّ تلك السيدة لحقت بنا، وهي تستجدي إجابة تطفىء النار المشتعلة فيها، عندها شعرتُ بغصة كبيرة في حلقي، فالمشهد مؤثر ومحزن، قلتُ لها: "الآن عرفتُ لماذا كنتُ أراك يومياً هنا، ظننتك متسوّلة، أعتذر منك يا خالة، أعطني اسم ابنك بالتفصيل، وما عاد في داعي تجي لهون، أعطني رقم هاتفك، وهذا رقم هاتفي، سأهتم به، وأخبرك حال سماعي أيّ خبر عنه..

  في اليوم التالي أخبرتُ استاذي خليل معتوق- المعتقل منذ 2/10/2012 بأنني سأذهب إلى وزير العدل، لأضعه في صورة معاناة أهالي المعتقلين ومصير أبنائهم، فقال لي "إنت عم تضيّع وقتك"، قلت له ومع ذلك سأذهب لعل وعسى.

 المهم قابلت الوزير، وشرحتُ له معاناة أهالي المعتقلين في البحث عن أبنائهم وأقاربهم المعتقلين لدى الأمن، موضحاً أنهم سيتحوّلون إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة بوجه النظام، سألني الوزير: وماذا تريد أن نفعل؟ هل نشكرهم على ما فعلوه ضد الدولة؟ قلتُ له: يا سيادة الوزير، بهذه الطريقة ستزيدون من أعدائكم في الداخل والخارج، ونصيحتي لكم أن تلتفتوا إلى معاناة الناس لا أن تتعاملوا معهم بمنطق العصابات. عندها قال لي: "من يريد معرفة مصير قريبه عليه مراجعة ديوان الوزارة، ونحن نخاطب الجهات المختصة". قاطعته بالقول: هذا لا يكفي، هذه مأساة ويجب حلّها فوراً بالانفتاح على الشعب قبل فوات الأوان.

  خرجتُ غاضباً من مكتب الوزير، واتجهتُ إلى ديوان الوزارة للاطلاع على قوائم الأسماء المرسلة من الفروع الأمنية، بحثت من بين آلاف الأسماء عن اسم "محمد"  ابن تلك السيدة،  فوجدتُ أسماء لأشخاص أعرفهم، كُتبَ بجانب أسمائهم أنهم غير معروفين، وأسماء أخرى إلى "القضاء المختص" أي المحكمة الميدانية، ثم بعد ذلك وجدتُ اسم ابن تلك السيدة، وقد كُتِبَ بجانبه: "متوفي بتاريخ 17نيسان 2012 بعد تعرّضه لأزمة قلبية، وأرسلتْ برقية عن طريق الشرطة لإعلام أهله بوفاته".. قررتُ أن لا أخبر السيدة بوفاة وحيدها لتعيش على أمل عودته إليها، وبقيت على الاتصال بها تأكيداً على اهتمامي بمأساتها، إلى أن اتصلت بي في أواخر أيلول 2012 وأخبرتني أنهم قبل أسبوع أعلموها بوفاة ابنها نتيجة إصابته بأزمة قلبية، وسلّموها هويته، دون جثته، وأضافت إن جارتها أخبرتها إن "محمد حيّ"، طالما لم يسلموها جثته، فقد سبق أن فعلوها مع أناس اخرين، ثم تبيّن أنهم أحياء: "فبرضاي عليك أنت أبن حلال وبتخاف من ألله، ممكن يكون أبني عايش طمنّي الله يخليلك ولادك.؟!" قلتُ لها : نعم يا خالتي ممكن لا شيء مستبعد، وأنا سمعت هيك قصص كمان"، عندها أخذت تدعو لي وتشكرني لوقوفي معها.. وكان هذا أخر اتصال بيننا، لكن صورتها مازالت في مخيلتي إلى الآن.

    أما قضية المعتقلين فتحوّلت إلى مأساة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، بعد أن فاقت أعداد المعتقلين أيّ تصوّر ممكن، وكَبُرَتْ معها معاناتهم ومعاناة أهاليهم الذين باتوا عرضة للابتزاز والسمسرة، فضلاً عن اتخاذهم كرهائن من قبل نظام الأسد يبتز فيها أهاليهم لفرض شروطه عليهم.. في ظل تقاعس الجهات المحلية والدولية المعنية عن إيجاد حلّ لهذه المأساة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.

  لنعمل ما بوسعنا، لنصرخ بأعلى أصواتنا، ولا يجب أن نكف عن الصراخ طالما يوجد معتقل واحد، سواء في سجون وزنازين النظام أم في سجون المعارضة المسلحة؟

الصورة الرئيسية: رسم يظهر مجموعة من المعتقلين معصوبي الأعين يتم سحبهم لمكان مجهول ضمن حملة "حريتكم عيدنا". المصدر: الصفحة الرسمية لحملة "حرتيكم عيدنا" على الفيسبوك"/ تاريخ: 7 / 8 / 2013

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد