إلى أبو علي صالح
يصعب أن يرقى أيّ موقف إنساني إلى مستوى موقف العسكري الذي يرفض إطلاق النار على أناس عزّل ويعلم أنّه يمكن أن يدفع حياته ثمناً، ويفعل. حدث هذا كثيراً في بدايات الثورة السورية. روايات عديدة من عساكر سوريين أكدت تكرار هذا الموقف النبيل الذي راح ضحيته زملاء لهم رفضوا "أوامر عسكرية". إحدى الروايات تقول إن العسكري الشاب، وهؤلاء غالباً من المجندين الإلزاميين، ارتمى يقبّل قدمي الضابط كي يعفيه من أمر إطلاق النار على عائلة متهمة بإيواء "مسلحين"، فكان أن أعفاه الضابط من المهمة برصاصة في الرأس، متبوعة بصفتي "خائن وجبان".
اليوم لا يوجد في سورية من يذكر اسم أحد من هؤلاء الشباب الجديرين حقاً بألّا يُنسوا، في الوقت الذي لا يوجد في سورية من لا يعرف اسم "إبراهيم اليوسف" الجدير حقاً بأن يُنسى. يستمر اسم المجرم، ويختفي اسما "محسن عامر" و"محمد عدوية"، اللذان رفضا الخروج من الندوة التي باتت مسرحاً لجريمة اليوسف، رغم إعلان اسميهما للخروج باعتبارهما من مولد سني، فيقتلا بالتالي مع زملائهم العلويي المولد.
كذا تختفي أسماء أبطال سوريين كثيرين، منهم من واجه سواد التمييز الطائفي ببياض قلوبهم، وحموا جيران وأصدقاء في بيوتهم في عدرا العمالية، على سبيل المثال فقط، وأنقذوهم من موت طائفي معرّضين أنفسهم للموت على يد آلة القتل الطائفية نفسها. ومنهم من اختار أن يموت على أن يقتل مدنيين عزّل. ومنهم من يندفع لإنقاذ ضحايا تفجير وهو يعلم أنه قد يذهب ضحية انفجار ثان يستهدف أمثاله من أهل المروءة. ومنهم من يندفع لإنقاذ أهالي من تحت أنقاض بيت دمّره القصف وهو يعلم أنه قد يذهب ضحية انهيارٍ تالٍ للإسمنت غير المستقر. ومنهم من غامر بحريته وخسرها لأنه ثابر، رغم التهديدات، على تأمين مواد الإغاثة للعائلات المحتاجة التي هُجّرت من مدنها. ومنهم عسكري يغامر بحياته ويخسرها مقابل أن يقدّم خدمة إنسانية لسجين، كأن يعطيه الموبايل لدقيقة واحدة كي يطمئن أهله.. الخ. تختفي أسماء هؤلاء فيما يرتفع، مثلاً، اسم الشخص الذي أكل كبد خصمه، وتطغى صورته ويصبح فعله رمزاً وحدثاً مرجعياً.
في طغيان الرموز العدائية إدانة للثقافة السورية أكثر مما هي إدانة للسياسة، بقدر ما هي الثقافة أدنى إلى المعنى العميق للصراع، وأبعد عن التحيّزات الآنية. من المفهوم أن يعلي الصراع العسكري من شأن رموز الكراهية والعداوة والوحشية، ويكون هذا صحيحاً أكثر كلّما كان الصراع أكثر دموية وأقلّ معنى. غير أنّ عجز الثقافة عن صيانة مرجعية وطنية وإنسانية سورية توّفرت موادها الأولية بغزارة في ثنايا الصراع السوري، يشكّل إدانة لنا، إدانة للثقافة ومؤشراً على انصياعها للسياسي.
من شأن الثقافة أن تعمل على حماية الأرض الاجتماعية المشتركة التي تعمل السياسة، غالباً، على تفتيتها. ومن شأن الثقافة أن ترفو دائماً الثوب الذي قد تمعن السياسة في تمزيقه. ومن شأنها أن تقيّد حرية السياسي وتحدّ من تماديه، بقدر ما تتمكن من تعزيز حضور القيم الجامعة العليا في وعي جمهورها. وليس فعل الثقافة هذا بلا سند، أي ليس فعلها هذا اصطناع للمشتركات، أو افتعال لجماليات القيم العليا، بل هو في الواقع إظهار وحماية لها، في وجه فاعلية سياسية تقوم على التخريب والفصل والتقسيم واللعب على التمايزات وتحويلها إلى جبهات صراع يستثمر فيها ساسة وعسكريون ودول وتجار حروب.
الأفعال السورية النبيلة الغزيرة تلك هي المحل الوحيد الذي يمكن أن تبنى عليه سوريا جديدة، إن قيّض لمثل هذه "السوريا" أن تبنى. من المتعذّر أن تبنى سوريا على أفعال قتل وكراهية، مهما بلغت قوة "المنتصر". في سوق السياسة السورية المعطوب تتراجع قيمة الأفعال النبيلة، أمام رموز القتل والكراهية. ولا يحدث هذا إلا في غياب ثقافة إنسانية قوية قادرة على تقييد تجاوزات السياسي. الثقافة القوية التي تنتصر للعدل والإنسان، بصرف النظر عن الاعتبارات السياسية، تستطيع وحدها تحصين المجتمع من ابتذالات السياسة.
الثقافة المنصاعة التي يطغى انحيازها السياسي على انحيازها الإنساني، إضافة إلى الإعلام المتاجر، هو المركب الذي يشوّه وجه أيّ قضية عادلة ويحيلها إلى تجارة. والحق أنّ هذا مما ساهم في ضرب مناعة المجتمع السوري وإيصاله إلى تفكّكه الراهن.
بسبب هذا المركب، فإنّ جريمة اغتيال الكاتب الأردني ناهض حتر مثلاً، ترسم على سطح أحداث شرقنا "الأوسط" كاريكاتوراً سياسياً لما نحن فيه. بحسب هذه الجريمة، أو قل بحسب إعلام الجريمة، يبدو الصراع كأنه يقوم بين "فكر" يمثله ناهض حتر وبين جماعات إسلامية متطرفة لا تجادل بل تقتل. هكذا يرتسم في الوعي العام، الخارجي بشكل خاص، الخاضع للإعلام الذي يطير بهذه الجريمة كسمة شرق أوسطية واخزة وجاذبة للقارئ.
والحق أنّ ما تبديه هذه الجريمة، هو أبعد ما يكون عن حقيقة الصراع في منطقتنا. لم يكن ناهض حتر سوى كاتب انساق وراء ثنائية بسيطة ومبتذلة فيما يخص الصراع السوري، ما قاده إلى احتقار شعب كامل دون أن يرف له جفن. ولم يميّزه بين "مثقفي" صنفه سوى فظاظته وتطرّف موقفه، وهو ما أعطاه حضوراً أكبر ووضعه في دائرة الشهرة التي قليلاً ما يحقّقها ذوو الكتابات العقلانية. هكذا هو الحال للأسف، كلّ الناس "تثقفت" بفتوى تافهة مثل "إرضاع الكبير"، فيما لا تعرف إلا نخبة ضيّقة ماذا يقول باحث إسلامي جاد مثل محمد شحرور.
ولا شك أن المغدور ناهض حتر لا يمثل "الفكر" الذي يحمي الجمهور الواسع من سيطرة التطرف الإسلامي، أي لا يمثل النقيض الفعلي للجماعات الإسلامية التي قتلته، وربما كان يشكل إحدى ركائزها. وكان اغتياله من فعل "فكر" تكفيري جاهز دائماً لاحتقار الغير وقتله. وليس لهذا الفكر قبول واسع في الوعي العام. وفي كل حال فإن الجماعات التكفيرية لم تقتله لأنه داعم مهووس لنظام القتل الأسدي، بل لأنه نشر رسماً كاريكاتورياً يسيء، في نظرهم، للذات الإلهية.
تحت هذا السطح الكاريكاتوري الزائف، ولكن القوي والمعزّز إعلامياً وثقافياً، من الطبيعي أن تختفي وتهمل أصوات عقلانية وشخصيات وطنية، لأنّ حضور هذه الشخصيات خال من الوخزة الإعلامية المرغوبة فالإعلام، يبحث عن القول النابي كمادة رائجة، ويجد ضالته في أكثر ممثلي الثقافة المنصاعة خفة أو فظاظة.
(اللوحة الرئيسية: صورة شرائط صفراء تم تعليقها على الأشجار في الساحل السوري، من قبل حركة نحل الساحل بتاريخ 23 / 10/ 2012، كتب عليها "نعم لصوت العقل". المصدر: حركة نحل الساحل)