منذ اندلاعها، ألقت الثورة السورية بأثرها على لبنان. فعلى الرغم من إعلان الحكومة اللبنانية موقفها الرسمي وهو "النأي بالنفس"، لكنه لم يترك أيّ أثرٍ فعلي على الأرض، ذلك أنّ اللبنانيين وقواهم السياسية انقسموا حيال الثورة بين مؤيّد ومعارض. وتُرجم هذا الانقسام، عملياً وبصورة أكبر، بعد انزلاق سوريا في أتون التطييف والعسكرة. فقد سارع "حزب الله" لإرسال ميليشياته للقتال إلى جانب النظام، كما انضمّت أعداد من "السلفيين الجهاديين" اللبنانيين إلى تشكيلات جهادية، تقاتل ضد النظام في سوريا. ولم تلبث المعارك أن انتقلت إلى داخل الأراضي اللبنانية، لا سيما المناطق الشرقية المتاخمة للحدود السورية، حيث وقعت العديد من الاشتباكات بين "حزب الله"، وبين جهاديين منخرطين في الحرب السورية، ولم يكن الجيش اللبناني بمنأى عن خوض مواجهات ضدهم.
اليوم، بعد وضع حدّ للفراغ الرئاسي في لبنان، وبدء عهد جديد بانتخاب الجنرال ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وتكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة، يجدر التساؤل: هل سيؤثر هذا على كيفية التفاعل اللبناني مع الحرب السورية؟
في أول خطاب شعبي ألقاه من قصر بعبدا أمام حشود من مناصريه بعيد انتخابه، قال الرئيس اللبناني: "لن نكون مرهونين لأي بلد آخر"، مؤكّداً على التخلص من التأثيرات الخارجية والمحافظة على الاستقلال والسيادة والحرية. هذه الشعارات البرّاقة تكاد لا تخلو منها أيّ خطبة لسياسي لبناني، وتدغدع عنفوان الطامحين إلى حرية لبنانهم وسيادته واستقلاله.
لكن، أيّ معنىً يبقى لكلام الجنرال في ظل استمرار "حزب الله"، (حليفه منذ شباط/ فبراير2006) في أداء مهامه كأحد أدوات إيران الإقليمية، على نحو ما يفعل في سوريا واليمن وغيرها، وكلّ ذلك على حساب لبنانيته المفترضة، فضلاً عن تعارض سلوكه مع موقف لبنان الرسمي (النأي بالنفس). وكيف يمكن لعون ألا يكون مرهوناً "لأي بلد آخر"، في وقت نظرت إيران إلى انتخابه بوصفه "انتصار لنصر الله والمقاومة وأصدقاء إيران"، كما جاء على لسان علي أكبر ولايتي، مستشار خامنئي في الشؤون الدولية. بل إنّ ولايتي وجّه التهنئة بانتخاب عون لحسن نصر الله، أمين عام "حزب الله"!
أما سعد الحريري، المكلّف بتشكيل الحكومة الجديدة، فقد أعلن في مقابلة تلفزيونية حرصه على تحييد لبنان عن مشكلات المنطقة، مؤكّداً أنّه ضدّ كل ما يقوم به "حزب الله" في الخارج، سواء في اليمن أو البحرين أو سوريا، كما اعتبر أنّ "حزب الله" ارتكب خطيئة بحق لبنان بدخوله إلى سوريا دون العودة إلى حكومته أو حلفائه، متسائلاً "لماذا تقديم الخدمات لنظام قاتل؟".
بدوره جبران باسيل، وزير خارجية لبنان وصهر الجنرال عون وخليفته في رئاسة "التيار الوطني الحر"، دعا في حوار مع صحيفة «الشرق الأوسط»، "حزب الله" للخروج من سوريا، وإن كانت دعوته تلك قد أتت بصورة ضمنية غير مباشرة، بقوله "لكن هناك واقعاً قائماً بأن 80 دولة متدخلة بسوريا، ويعتبر «حزب الله» من هذه الأجزاء والأفرقاء المتدخلة بسوريا، وهذا وضع شائك يتطلب انسحاباً كاملاً لجميع الأفرقاء وترك سوريا للسوريين لإنهاء الوضع العسكري القائم ومحاربة الإرهاب وقيام نظام بسوريا يرضي جميع السوريين".
وفي مقابل ما أعلنه ولايتي من أن انتخاب عون نصر لحلفاء إيران، كما مر بيانه، فإنّ السعودية تفترض أنّ تحالف عون مع "حزب الله" لم يعد قائماً باعتبار أنّ عون اليوم يمثل اللبنانيين جميعاً، وهو ما عبّر عنه ثامر السبهان، وزير الدولة للشؤون الخليجية السعودي، بالقول: "الرئيس اللبناني ملزم الآن بأن يدع كل ما كان في السابق ويعمل لمصلحة لبنان"، مؤكّداً أنّ عون حريص على ذلك، وقد طمأن الجانب السعودي بشأنه. تصريحات جبران باسيل، في حديثه للشرق الأوسط، تناغمت مع هذا الموقف، بقوله "عندما كان [عون] رئيس تكتل التغيير والإصلاح كان حليفاً لـ«حزب الله»، واليوم هو حليف لكل اللبنانيين". وفي حين اعتبر علي أكبر ولايتي أنّ انتخاب عون سيؤثر على القضية السورية، بسبب ما سماه "دور عون الإيجابي في دعم جبهة المقاومة في سوريا"، فإن الحريري (رئيس حكومة عون) في مقابلته المشار إليها، قد وصف الأسد مراراً بالقاتل، مؤكّداً أنّه لا يريد زيارة سوريا ولا استقبال مسؤولين سوريين، وأن عودة علاقات طبيعية مع سوريا رهن بعودة الاستقرار اليها وتفاهم السوريين على نظام جديد.
إنّ المستجدّات على الساحة اللبنانية كشفت عن عودة المملكة العربية السعودية بقوّة إلى المشهد اللبناني، من بوابة تسمية سعد الحريري لرئاسة الحكومة. من المفارقات أنّه سيكون على رئيس الحكومة المدعوم من السعودية، العمل مع وزراء ينتمون لحزب تعمل الأخيرة على مكافحة أنشطته التي تصفها بالإرهابية. وسيتحتّم على الحكومة القادمة إدارة "التعايش" بين أعضائها المنقسمين بين المحورين السعودي والإيراني، وما سينتج عن هذا الانقسام من مواقف وسياسات داخلية وخارجية، سيكون من بين أبرزها مسألة العلاقات السورية اللبنانية.
على أنّه حتّى وإن تمّ التوصل إلى تسوية تنهي القتال في سوريا، أو أنّ المعجزة حدثت وطويت صفحة النظام الأسدي إلى غير رجعة، فلن تزول آثار الحريق السوري وتأثيراته المباشرة على لبنان، نظراً للحالة المتردّية التي ستكون عليها سوريا بعد الحرب، كحال أي بلد خارج للتو من صراع مدمّر.
سيعني ذلك استمرار وجود مئات آلاف النازحين السوريين في لبنان، هم الأثر المباشر الأكبر عليه الذي أفرزته الحرب في سوريا، وقد باتوا يشكّلون اليوم ما نسبته نسبته 20% من سكانه، وفق أرقام المنظمات الدولية المعنية. من المرجح أنّ عودة غالبية هؤلاء إلى سوريا لن تكون متاحة لمجرّد وقف القتال، فقد دُمّرت بيوتهم ولم يعد لهم مورد عيش في سوريا. ولعلّ كثيرين منهم (خلا سكان المخيمات) قد شرعوا بالفعل في تأسيس حياة "مستقرّة" نسبياً خلال عدّة سنوات مضت على وجودهم في لبنان، ما يعني مشكلات اجتماعية واقتصادية وديموغرافية، ستُضاف إلى مشكلات لبنان المزمنة ونسيجه الاجتماعي الهش.
إنّ واقع الحالة السورية اللبنانية هو محصلة لتداعيات أحداث وتراكمات لا يبدو أنّ نتائجها ستنتهي بسهولة. هذا يجعل من الصعب الإجابة عن سؤال: متى وكيف سيصبح ممكناً إقامة علاقات "طبيعية"، ندّية وصحّية، بين سوريا ولبنان؟
جانب أساسيّ من الإجابة سبق أن قدّمه وأكّد عليه الشهيد سمير قصير، في تعبير بليغ يكثّف المخرج الذي ينقل العلاقات السورية اللبنانية من استعصائها التاريخي، حين أشار إلى "التلازم بين ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان". نعم، من الصعب تصوّر لبنان مستقل وعلاقة صحيّة مع سوريا من غير الخلاص من الاستبداد الجاثم فوق صدور السوريين، والذي لم يبخل بشروره على اللبنانيين أيضاً، ويتحمّل المسؤولية الأساسية عن تردّي العلاقات بين البلدين. لكن كسر هذا الاستعصاء التاريخي لا يبدو قريباً، ذلك أنّه، في ظل تعقيدات الحرب السورية ومفرزاتها، باتت سوريا في حاجة ليس إلا الديمقراطية فقط، بل إلى الاستقلال أيضاً.
لقد أودى النظام الأسدي باستقلال سوريا كما فعل من قبل في لبنان، وها هي الاحتلالات الروسية والإيرانية و"الجهادية" وسواها، ترسم ملامح الخراب السوري. لقد عانى لبنان من "حروب الآخرين على أرضه" وما فتئ يدفع نتائجها، وها هي سوريا اليوم تجرع من كأس السم نفسه، الذي أذاقه نظامها للآخرين. نظامٌ هو لعنة واحدة حلت على البلدين.
(الصورة الرئيسية: لافتة للشباب السوري الثائر مرفوعة في حي ركن الدين في دمشق. المصدر: الصفحة الرسمية للشباب السوري الثائر على الفيسبوك)