صفتان بارزتان تميّزان الباحث والكاتب ونائب مديرة "مبادرة الإصلاح العربي"، سلام الكواكبي، هما، المعرفة العميقة بالأحوال السورية، والهم المرافق لها، ما يجعل المعرفة هنا بعيدة عن أن تكون "تقنية" يقدّمها مجرّد خبير ويمضي، بل هي مؤنسنة وأكثر اقتراباً من هموم البشر وآمالهم، أي أكثر صدقا وإنسانية.
وإذا أضيف لها تواضع العارف، بتنا أمام مثقف يهجس بالهم الوطني ويسعى لتقديم كل ما يستيطع له، ولهذا باتت الطائرة والمطارات تعرفه أكثر من عائلته، ملبّيا نداء كلّ من يسعى لفهم ما يحدث في سوريا، مدافعا عن شعبها وثورتها ضد كل محاولات التعمية والتشويش.
في هذا الحوار الذي أداره الكاتب والباحث طارق عزيزة، يذهب بنا سلام نحو تسليط الضوء على نواقص المعارضة السياسة، واحتمالات إعادة الإعمار و"إمكانية" بناء الهوية السورية، عازفا عن الخوض في مجالات ليست من تخصّصه المباشر وإن كان قد اطلع عليها.
(1): سأبدأ من باريس حيث تقيم، وتتابع عن قرب الموقف الفرنسي خصوصاً والأوروبي بوجه عام حيال الصراع في سوريا. تناولتَ في مقال لك استقبال الرئيس الفرنسي، وفدًا سوريًا من مدينة حلب، بما فيه ممثلون عن "القبعات البيض"، واستقبال البرلمان الفرنسي للوفد. في المقال أدرجت ذلك في سياق الموقف الفرنسي من التدخل الروسي في سوريا، ووصفت ما جرى بـ"صفعة هولاند لبوتين بإحلال الوفد السوري مكانه في الإليزيه يوم زيارته المرتقب"، وأنه "لعبة غير "بريئة"، سجّلت -من خلالها- الدبلوماسية الفرنسية نقاطًا واضحة".
الآن، ماذا تملك فرنسا للتعامل مع "التدخّل الروسي" غير الاحتفاء المشهدي، و"تسجيل النقاط" الدبلوماسية، فهل يمكن لها، مثلاً، أن تعمل من خارج مجلس الأمن للضغط على الروس، بعد عجزها عن تجاوز حائط الفيتو الروسي في المجلس؟ وهل سينجح ذلك دون التنسيق مع شركائها الأوروبيين، في وقت نرى هزال موقف الاتحاد الأوروبي الرسمي في الموضوع السوري، الذي "لا يتجاوز حدود منظمة غير حكومية تُعنى بالشأن الإنساني"، على نحو ما وصفتَه غير مرة؟
في اللغة الدبلوماسية، ما حصل يوم 19 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ليس احتفاءً مشهدياً مجرّداً ولا يمكن اعتباره تسجيل نقاط في مسابقة سياسية تحسمها القوة. إنّ الرسائل بين الدول تأخذ أشكالاً متعدّدة، وما السعي إلى تحميل هذه الرسالة مضامين عالية إلا ترجمة واضحة لهذا الموقف. والموقف الفرنسي، معزّزاً نسبياً بموقف ألماني واضح، يفيد في المماحكات الدبلوماسية التي ستوصل عاجلاً أم آجلاً إلى حل. واللغة الدبلوماسية غير المعتادة التي استخدمها الفرنسيون والألمان في اللقاء الأخير مع بوتين لا يمكن أن تمر من دون انتباه وقلق روسيين. الروس لا يسعون إلى حرب عالمية ثالثة على الرغم من الفنتازيا السياسية التي يحلو للبعض الغوص فيها تطرّقاً إلى مثل هذا السيناريو. هم يسعون، في ظل هلامية الإدارة الأميركية وضحالة الموقف الأوروبي وتبعية الإدارات العربية، إلى الحصول على أقصى ما يمكن الحصول عليه من مكتسبات على الأرض. أما بخصوص مجلس الأمن، فالموقف الفرنسي كان واضحاً وأثار غيرة من هادنوا قليلاً الروس مما دفعهم إلى تبني خطاب أعلى وتيرة كالمندوبة الأميركية والمندوب البريطاني. أتفق معك بأنّ هذا لا يمكن أن يُترجم إلى أفعال ميدانية، عدا المساعدات المادية والإنسانية، إلا أنّ الحل السوري مرتبط أولاً وأساساً بالعمل السياسي، وهو ربما ما لم تتمكن من أدواته أطراف عديدة في المشهد.
الانتخابات القادمة في فرنسا، ربما أتت بوزير الخارجية الأسبق إبان اندلاع الثورة السورية آلان جوبيه، وهو سيحافظ على الخط السياسي الخارجي عموماً وفي الشأن السوري خصوصاً، على الرغم من ارتفاع نسبة من يسعى في حزبه إلى التواصل الإيجابي مع الروس. إن تضافرت جهوده مع الإدارة الأميركية الجديدة، فسينجم بالتأكيد عن هذا كله، لجمٌ للرعونة الروسية التي لم تجد أمامها من يقل لها أفٍّ.
(2): عند الحديث عن هذا المآل الكارثي الذي بلغناه، كثيراً ما يجري الحديث عن أخطاء المعارضة السورية وفشلها، وفي مقال لك كتبتَ أنّ "أهم ما ميّز المعارضات السورية خلال السنوات الخمس الماضية، هو الابتعاد تماماً عن ممارسة أي فعل اعتراف بخطأ أو محاولة تصحيح ما ارتكبته عمداً أو سهواً من أخطاء مترامية الأبعاد ومأساوية الوقع." ما تفسيرك لذلك. وما قولك في أنّ "الهيئة العليا للمفاوضات" عنوان التمثيل الحالي للمعارضة "الفاشلة" ذاتها، أعطت لنفسها، أو لممثلين عن مكوناتها دوراً في المرحلة الانتقالية، وفق وثيقة أصدرتها في أيلول/سبتمبر الماضي، بعنوان "الإطار التنفيذي للعملية السياسية وفق بيان جنيف2012". ما سرّ استمرار هؤلاء في تصدّر المشهد، وهل عجز السوريون عن إنتاج "نخبة" بديلة تمثّلهم؟
المعارضة السورية لم تكن موجودة تنظيمياً قبل انطلاقة الحراك الاحتجاجي في سوريا. خلال عقود من التصحير والترهيب والاستقطاب، كان هناك معارضون كثر بعيداً عن أطر تنظيمية تعمل في الهواء الطلق. كل ما كان منظّماً كان في الظلام وما يحمله هذا الظلام من خشية من الآخر ومن شك بالآخر ومن تمسّك بالرأي ومن تطرّف فيه أيضاً. كنا نقول في البداية بأنّ نقص الخبرة بالعمل السياسي أفضى إلى نتائج لمسناها في بدايات تشكّل أجسام المعارضة. ولكن، وبعد مرور ما يقارب السنوات الستة، يحلو لي أن أقول، من خلال خبرتي التعليمية، أنّ الطالب الذي يحمل البكالوريا، يخرج بعد ثلاثة سنوات من معهد العلوم السياسية وهو يعرف ألف باء السياسة. ويبدو أنّ هذه الألف باء عصيةٌ على مجموعة كبيرة ممن تنطّحوا للبروز ولفرض الأنا الذاتية في الساحة المعارضة. والطالح أطاح بالصالح مبدئياً. أما فيما يخص الاعتراف بالخطأ أو التنّحي سعياً لفسح المجال للآخرين، فأعتقد بأنّ الأمر أوسع من أن ينحصر في أداء المعارضة أو أيّة فئة سياسية أو ثقافية. هناك عناد مترسّخ في هذا الموضوع، ويمكن أنّه يعتبر لدى البعض وكأنه انتقاصٌ من رجولة أو من كرامة. على الرغم من أنّ الاعتذار والتنحي هو من صفات العظماء. شارل ديغول، على سبيل المثال لا الحصر، تنحّى سنة 1969 بعدما رأى أنّ سياسته أفضت إلى ثورة الطلاب سنة 1968. أما في تسلسل الأخطاء وتعاقبها، فقد اختلطت السذاجة السياسية لدى البعض بالمراهنات غير المتوازنة لدى البعض الآخر، وأفضت إلى ما أفضت إليه. لحسن الحظ ما زالت أجسام المعارضة تحتوي على عناصر ناجحة في تكوين الرؤية السياسية ووضع الاستراتيجيات العملية.
المشكلة تكمن في أنّها تعمل بشكل معزول، أو بالأحرى، فهي معزولة نسبياً بإرادة من يتحكّم بالقرار، وذلك لأسباب متعدّدة. ولا يمكن أن نجود بأفضل من الموجود، وهذه الملاحظة ليست ساذجة أو تقليدية، بل هي تتوافق مع قراءة واقعية. وبالتالي، فالهيئة العليا، هي أفضل ما تمخّضت عنه سنوات الجمر الماضية على الرغم من ضعف الأداء.
من جهة النخبة، فلقد سال الكثير من الحبر في استعراض تاريخها وتطوّرها وانعزالها واستقالتها وانخراطها... الخ. أوجز فأقول، بأنّ الثورة السورية وما تلاها من مقتلة، أناطت اللثام عن عجز كبير لدى جزء كبير ممن تنطّحوا ليكونوا نخباً ثقافية أو سياسية أو اقتصادية، على أن يلعبوا أيّ دور يستند إلى فهم حقيقي وواقعي وغير متعجرف وغير متصنّع وغير عاجي لمجتمعاتهم. وعلى الرغم من أنّ غالبية عظمى منهم تربّوا وترعرعوا في هذه المجتمعات، إلا أنّهم سرعان ما ميّزوا أنفسهم عنها عندما انتقلوا إلى الضفة الأخرى، ليس طبقياً حتماً، فجميع المثقفين على الأقل هم من الفقراء، وإنّما فكرياً وتحليلياً وتموضعياً من قضايا المجتمع، من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً. وأكاد أعتقد بأنّ النخبة الجديدة هي التي ستمحو عجز سابقتها بتكوين ثقافي / علمي أضعف ربما ولكن مع رغبة حقيقية في الوصول إلى فهم الواقع وسعي جريء إلى استنباط الحلول من لدنه.
(3): في مسألة اللجوء السوري، أشرتَ مرةّ إلى تنظّم اللاجئين مدنياً في عدد من بلدان اللجوء غير العربية، وأنّ ذلك "أتاح إدارة مشتركة رشيدة تجاوزت الكثير من العقبات". أليست هذه مبالغة، حيث نلاحظ التشرذم وقلّة فاعلية اللاجئين السوريين، إلا ما ندر، خلافاً لما يتيحه "التنظّم مدنياً" من إمكانات تنسيق الجهود وتكاملها، وكم مرة لم ينجحوا في الاتّفاق على مكان أو موعد لوقفة تضامنية مثلاً؟ كيف السبيل، برأيك، إلى تفعيل "مجتمع مدني سوري" في الشتات؟ ومن خلال نشاطك وعملك ضمن العديد من مؤسسات "المجتمع المدني"، لا سيّما تلك المعنية بالشأن الثقافي، كيف تنظر إلى "المجتمع المدني" السوري وتجربته خلال السنوات القليلة الماضية، بسلبياتها وإيجابياتها، وما المهام المنوطة به راهناً ومستقبلاً؟
ربما بالغتُ قليلاً إثر اطلاعي على تجربة بعينها. والسعي إلى إبراز النجاح في تجربة، هو محاولة لاستنهاض العزائم في التجارب الأخرى، وهي الغالبة، التي تستنكف عن النجاح أو تسعى إلى عدمه. التجاذبات العقائدية أثّرت كثيراً في تنظيم المجتمع المدني السوري في الشتات. لكنّها لم تكن السبب الوحيد، بل تعدّتها الشخصنة وتضخم الأنا الذاتية والرغبة في التصدّر. ويجدر التنويه إلى أنّ غالبية السوريين المغتربين لم يكونوا ناشطين في المجتمع المدني لدول الاستقبال لأسباب متعدّدة، لا تنحصر فقط بخوفهم من العمل المدني، المتأصّل في ثقافتهم المحمولة من بلد المنشأ، ولا في أنانية وظيفية أوجبتها الغربة وصعوباتها في البدايات، أو في نقص فهمهم لدور المسؤولية الاجتماعية الذي تعتمد عليه أساساً كلّ الأنشطة المدنية.
أما فيما يتعلق بالمجتمع المدني في البلد الأم، فلم يكن موجوداً بمعناه المتعارف عليه في السنوات الخمسين الأخيرة. كان هناك مجتمع خيري لا يتجاوز حدوده المرسومة من قبل السلطات النافذة. كما أنّ الألفية الثانية عرفت استعراض تمدّن تبوّأته السلطة بخلق مجتمعها المدني في إطار ما يسمّى "المنظمات غير الحكومية شديدة الحكومية"، وهو مفهوم متعارف عليه في أغلب الأنظمة غير الديمقراطية والتي تركب موجة العصر الحديث وتستقطب المفاهيم النبيلة لمصالحها السلطوية. فلغة "حقوق الانسان" كما "المجتمع المدني" فقدت كلّ معانيها عندما استولت على استخداماتها فئات حاكمة بعيدة الانتماء إلى أيٍّ من مفاهيم الديمقراطية أو المشاركة أو العدالة.
إذًا، هناك عملية إعادة اكتشاف للمجتمع المدني تبرز من خلال تكاثر المنظمات غير الحكومية السورية في بلدان اللجوء المجاورة لسوريا. وهناك اكتشاف لمفهوم العمل الجماعي لدى جموع السوريين في الشتات. الضعف التنظيمي اللاإرادي مقبل في مرحلة أولى، كما في حالة المعارضة، ولكنه يصبح ثقيل الظل بعد تجربة سنوات عدة.
أعتقد، بأنّ الفرصة ستكون لدى مجتمع الشتات بأن ينخرط أكثر في نشاطات مجتمعاته المدنية المحلية في مكان الإقامة ليتعرّف على قيمة هذا النشاط وليتعلّم أن يبتعد به عن الانتماءات الإيديولوجية أو الالتزامات القبلية أو الميولات المذهبية. وأكاد أقول بأنّ النشاطات التي أشرفت عليها مجموعات "أجنبية" مدنية أسدت خدمة أكبر أحياناً من المجموعات السورية.
في تجربة قريبة، قامت مؤسستان ثقافيتان بتنشيط لقاءات ثقافية سورية في برلين. وقد نجح هذا النشاط بشكل كبير وجذب عديداً من السوريين كما الألمان، وأتاح استخدام العامل الثقافي كمحرّك للاندماج كما أنّه سمح بالتواصل المهني بين القادمين الجدد ونظرائهم في بلد الاستقبال. عندما يكون العمل مؤسّسي وبعيد عن الشخصنة والحساسيات الذاتية المتراكمة، يمكن له أن ينجح. تنويهي بنجاح هذا العمل هو من ضمن السعي إلى النظر إلى الجانب الممتلئ من الكوب.
سيكون للمجتمع المدني دور أساسي في المستقبل على كافة الأصعدة. ولا تفيد طهرانية البعض في شيء عند تحييد المجتمع المدني، فهذا المفهوم مقبول في دولٍ ديمقراطية، أما في الدول التي تفتقد لهذه التجربة، فلا يمكن أن يكون المجتمع المدني بعيداً أو منفصلاً عن المطالب الرئيسية في الحرية وفي حماية حقوق الانسان والسعي إلى التحوّل السياسي. ولا يمكنه بحال من الأحوال أن يكون على مسافة واحدة من الجاني ومن الضحية. والتجارب القائمة حالياً في دول اللجوء الحدودية، كما في الداخل حيث أمكن، هي أساس هام لمستقبل أفضل. وعلى الرغم من الهنّات ومن الإساءات ومن بعض الفساد في بعض القطاعات، إلا أنّه مسار لا يمكن التخلّي عنه، ولقد عبرت من خلاله كثيرٌ من المجتمعات.
(4): "الفيدرالية" و"اللامركزية" هما من العناوين الإشكالية التي تُثار في نقاشات السوريين (وغير السوريين) حول مستقبل سوريا. ونعلم أنّ للمفهومين أشكالاً ودرجاتٍ عدّة، كيف تنظر إلى الموضوع؟ وبرأيك أيُّ "لامركزية" أو "فيدرالية" (بحسب إجابتك) هي التي يمكن تحقّقها في سوريا. هل تُلحظ هذه المسألة في الاجتماعات والمبادرات الكثيرة التي تدور حول "الدستور السوري" المقبل، ولعلّك شاركت في بعضها.
أنا لا أتوقّف عند التسميات، ولا أشيطن أيّة تسمية أو أتبنى بشكل أعمى تسمية أخرى. المشكلة في الوعي الجمعي السوري خصوصاً والعربي عموماً هو نقص المعرفة بالمفاهيم. فالفيدرالية تعني للكثيرين التقسيم في البلد الواحد إن اعتبرنا في الأساس أنّ هناك انتماء جمعي إلى مفهوم الوطن لم تؤثّر عليه سنوات الجمر الأمني وفتته إلى انتماءات جهوية، قبلية، طائفية ومذهبية. وربما ساعد في ذلك إساءة استخدام المصطلح من قبل كتّاب وصحفيين من دون وجه معرفة. هناك تخندق شديد لدى البعض نتيجة هذا التخوّف، وقد برز في أكثر من نقاش وندوة. كما أدّت الخطوة الأحادية من جانب حزب العمال الكردستاني بجناحه السوري، في فرضها في منطقة محدّدة دون توافق وطني إلى أن يكون هذا المفهوم مرفوضاً من قبل الكثيرين. فلنسعى إلى البحث أكثر في مفهوم اللامركزية السياسية والإدارية، وهي يمكن أن تكون غير متناظرة.
العودة في سوريا المستقبل، إن كتب لنا أن نراه يوماً، إلى ما سبق عام 2011 من حكم شديد المركزية/ الهدّامة قد صار من الماضي. وعلى الرغم من أنّ بعض الاقتصاديين الجادين يعتبرون بأنّ إدارة عملية إعادة البناء ستحتاج في مراحلها الأولى إلى إدارة مركزية قوية، إلا أنّه يمكن التوفيق بين مركزية التنظيم المالي ولامركزية القرار بخصوص استثماره وتحديد أولوياته. عملية معقدة تحتاج إلى ترّوي وذهنية منفتحة وابتعاد عن الأحكام المسبقة وأحكام النوايا. للأسف، كل ما أسلفت من احتياجات نفتقده في ساحة الحوار السياسي القائم حالياً. لا يوجد نموذج كامل مسبق الصنع، بل يجب أن نجترح نموذجنا من خلال الاستفادة من تجارب الآخرين. ويجب أخذ العلم بأنّنا لسنا في صدد اختراع الدولاب، ونحتاج إلى التمكّن من أدواتنا المعرفية لكي نستحصل على النتائج الجيدة أو المقبولة. هذا ما سعينا وما زلنا نسعى إليه في حلقات بحثية ضمن "مبادرة الإصلاح العربي" لتصوّر الأنسب كمقترح ليس إلا.
(5): عطفاً على السؤال السابق، أمام تمزّق النسيج الوطني بفعل الاستبداد المديد ثمّ الحرب، في بلد متعدّد القوميات والأديان والمذاهب، هل ترى أنّ ذلك قد ينطوي على مخاطر تعيق إعادة بناء هوية وطنية سورية، عابرة للانتماءات ما قبل الوطنية (المذهبية، والعرقية، والمناطقية..)؟
مسألة الهوية تبقى مسألة شائكة. فقد "ضحكنا" على بعضنا بعضًا عندما أبدينا تمسكاً بهوية سورية جامعة. لم تكن هذه الهوية متجذرة لصغر سن الدولة السورية أولاً، ولتعدّد العوامل الداخلية والخارجية التي أضعفتها حتى الممات. يحلو للكثيرين منّا أن يلقي باللائمة على "الآخر" مستعمراً مباشراً أم قوى خارجية خفية أو ظاهرة. وفي الواقع، أسأنا، بنخبنا وبغيرها، التعامل مع مسألة الهوية وأحلناها إلى معتقدات إقصائية. في مرّة من المرات، وأثناء سنوات دراستي، انتقدت بعض اللبنانيين من أصل سوري لموقفهم من السوريين، مشدّداً على أصولهم ومستغرباً تنكّرهم لها. فأجابتني أستاذتي بعبارة مقتضبة ولكنها موقظة، أنّ "الهوية مسألة اختيار". وصرت من حينها مؤمناً بهذا الأمر رغم عدم توافقه مع بعض المدارس الفكرية التي تربيت على اعتماد خلاصاتها واستنتاجاتها. وخلال سنوات التجربة العملية والاحتكاك الإنساني، تأكد لي صحة هذا الأمر. وعملية "إعادة" بناء الهوية الوطنية (لاحظ أنني استخدمت معترضتين على كلمة الإعادة ليس لعدم قناعتي بها بل لعدم تأكدي من وجود ما تلاها أساساً كما سبق وأشرت في الأعلى) ستحتاج ليس فقط إلى وقف القتل والقتال، بل إلى مشروع وطني مشترك، كما إلى عقد اجتماعي لم يصنعه السوريون، ولا كثير غيرهم من أبناء المنطقة، منذ تخلصّهم من الانتدابات والاحتلالات والحمايات (أو بالأحرى تخليصهم منها). هذه العملية تحتاج أساساً، وقبل توّفر النيات، إلى تحسّن، في توزيع الثروات أو ما بقي منها قابلاً للاستثمار. الانتماء إلى وطن لا يُطعمك ولا يكسيك ولا يجد لك فرصة عمل ولا يحترم الحدود الدنيا من حقوقك لا يوجد، برأيي المتواضع، إلا في القصائد التعبوية من الدرجة العاشرة. إن إدارة مسألة التنوع ستكون المحكّ الأساسي في الحكم على نجاح عملية إعادة البناء للهوية الوطنية تلك. ولا يمكن لعملية إدارة التنوع أن تكون ناجحة إلا في ظلّ منظومة ديمقراطية. إذاً، وخلاصة لكل ما سبق، التشاؤل مسيطر مبدئياً حتى أكون إيجابياً في الطرح.
(6): الحرب ستنتهي في نهاية المطاف، وستتكشّف أكثر فأكثر نتائجها الاقتصادية الكارثية. وباعتبار أنّك مجاز في الاقتصاد أساساً، فما النموذج الاقتصادي الذي تراه الأكثر مواءمةً لسوريا ما بعد الحرب، لتجاوز نتائج الحرب الكارثية التي لحقت بها؟
حتى لا تبتعد في تفاؤلك بخصوص إجازتي الجامعية الأولى، فما تعلمته من الاقتصاد لا يتعدّى ما تعلمته من اللغة الصينية على الرغم من تفوّقي الدراسي. أما تكويني الاقتصادي المبدئي، فقد تأتّى من خلال قراءات ذاتية. وللطرفة، أذكر أنّني حصلت على علامة عالية في مادة لم أقرأ كتابها المفروض ولم أجب على الأسئلة من ضمن ما أتت به صفحات هذا الكتاب الجامعي (والكتب الجامعية في سوريا كانت جزءًا من انحدار التعليم العالي ليس بحد ذاتها ولكن في حصر العلم والتعلم بين دفاتها). وعندما سألت أستاذ المادة عن السر، وخصوصاً أن هذا التصرّف كان يودي بصاحبه إلى الرسوب عادة، قال لي، وصرنا أصدقاء إثر ذلك، أنه شعر من خلال أجوبتي أنني قارئ ولا يهمه أن يكون كتابه من بين ما أقرأ.
كلّ هذه المقدمة لأقول لك بأنني لن أدّعي فهماً معمّقاً، ولن أستطيع اجتراع الحل. بالمقابل، فأنا أثق دائماً في الدراسات المقارنة مع الإحلال المنطقي في ضوء المعطيات المحلية لكل بلد. فالاستفادة من تجارب الآخرين شيء أساسي، ولكن لا يعني هذا أنّ ما اقترفه آخرون من حلول سيكون مناسباً لما سنتبناه نحن. ونحن هذه مهمة جداً، فهل سيكون لنا خيار وضع خطة الإنقاذ الاقتصادية؟ في ضوء كل ما ليس لنا فيه دور حتى الآن، فأنا لا أعتقد بأنّنا سنساهم فعلاً في وضع هذه الخطة. دولٌ عديدة عبرت الدمار وتجاوزته، منها ما فشل تماماً كلبنان والبلقان، ومنها من نجح بشكل هائل كاليابان وألمانيا. سيعتمد السوريون أساساً على تمويل خارجي عماده ستدفعه الدول التي ساهمت في التدمير. كما ستخضع سوريا إلى شروط الموسكوف (ليس من روسيا فحسب)، في عملية إدارتها للاقتصاد عموماً. وبالمحصلة، صيغة إعادة البناء تتوّقف على صيغة إيقاف التدمير. فإن استمرت السيطرة الروسية والإيرانية، فالنموذج شبه واضح وسيتم من خلاله تعزيز رأسمالية الجماعة. أما إن خرج الأمر، ولو نسبياً، عن هيمنة هذين "الصديقين"، فلشكل العملية أبعادٌ أخرى مرتبطة بالمنظومة الاقتصادية الليبرالية العالمية بأدواتها المتعدّدة. وأخيراً، أعتقد، وهذا ما أعمل عليه الآن من خلال مشروع بحثي جديد، فللدياسبورا السورية، القديمة كما الجديدة، دورٌ هام ستقوم بلعبه في الداخل مع كلّ ما يمكن أن يفرضه هذا الدور من طموحات سياسية أو تشكيلات اجتماعية.
(7): ختاماً، عندما ستُطوى صفحة النظام الحالي، ما هو تصوّرك لشكل نظام الحكم في سوريا الجديدة، وأنت تعلم مدى الاستقطاب الحاد اليوم بين مشروعين رئيسيين: إسلامي مدجّج بالعقيدة والسلاح، وديمقراطي علماني لا يكاد يملك من القوّة إلا ما تحوزه أفكاره من قيم إنسانية عالمية، وما هي حظوظ تعزيز المشاركة السياسية وعودة الناس إلى دائرة الفعل العام مع ازدهار التطرّف، وبروز أيديولوجيات شمولية تتلطى بستار الدين؟
اسمح لي بأن لا أرى هذين المشروعين بالتحديد الذي تراه أنت في السؤال على الأقل. صحيح أنّ المشروع الإسلامي، المدجج بالسلاح أو المدجّج بقدسية النص، هو الغالب في الساحة الصراعية، ولكن السياسة تغيب عنه. وبالتالي، من يؤمن بإسلامية الحل ويعتنق العملية السياسية، فسيكون له موقع أساس. أما من يؤمن بفرض إسلامية الحل عبر السلاح والترهيب، فهو ملفوظ وقد أظهرت عديد من التجارب المحلية والإقليمية ذلك. أما عن المشروع العلماني الديمقراطي، فأرجو منك أن تحدّده لي فلربما غاب عني. هناك ديمقراطيون وهناك علمانيون وليس هناك من مشاريع واضحة لكليهما. ولماذا أفصّل، لأنني أعتقد بوجود إسلاميين ديمقراطيين كما بوجود علمانيين غير ديمقراطيين. وعلى الرغم من قناعتي المبدئية بأن لا علمانية من دون ديمقراطية، وهذا يثقل الانتقادات الموجهة لي، فأنا لا أعتقد بأنّ فرض العلمانية من فوق كما فعل أتاتورك أو بورقيبة هو من العلمانية في شيء. هي أداة سياسية أراد من خلالها الحاكم السيطرة على المجتمع. فكما ادّعى الطاغية صدام حسين علمانيةً ما في زمان ما، انتقل إلى مركب الإسلاموية ومارس مزاودة على السلفية في مظاهرها على الأقل. الملاءمة بين التيارات أمر أساسي لمستقبل بلد مثل سوريا. لا يمكن لأحد أن يُقصي الآخر. وعملية الإقصاء ستكون جزءاً أساسياً من دوام الموت.
(الصورة الرئيسية: الباحث والكاتب سلام الكواكبي. المصدر: خاص حكاية ما انحكت/ الصورة من مجموعة الكاتب)