في الحوار الذي أجراه طارق عزيزة مع الاستاذ سلام الكواكبي تحت عنوان: "بناء الهوية يحتاج إلى مشروع وطني مشترك"، قال الكواكبي جملة سمعتها منه يوماً في مونتريال، وقرأتها على صفحته على الفيسبوك: "أنا لا أعتقد بأنّ فرض العلمانية "من فوق" كما فعل أتاتورك أو بورقيبة هو من العلمانية في شيء".
وبما أنّ العلمانية اليوم، على الأقل في العالم العربي، هي من أكثر المفاهيم التباساً في ذهن الإنسان العربي، ولا أستثني المثقفين العرب، عن قصد أو غير قصد، لذلك رأيت أن أدلى دولي حيث أنّ هذا الموضوع يشغلني منذ زمن بعيد.
لا أماري أنّ أتاتورك فرض العلمانية في تركيا "من فوق"، ولكن على ماذا يستند الكواكبي حين يدّعي، وبشكل قاطع أنّ بورقيبة أيضاً فرضها "من فوق" في تونس؟
كلّ ما نعرفه عن بورقيبة أنّه عدّل قوانين الأسرة ومنع تعدّد الزوجات وأعطى المرأة المسلمة حقوقاً لا تتمتع بها عادة المرأة المسلمة الخاضعة إلى قوانين شرعية قاسية ومجحفة باسم المقدّس، وادعاءاً بمصدرها الإلهي غير القابل للبحث أو النقد.
وحتى في هذا الحيز، بقي نظام الإرث في تونس مطابقاً للقوانين الشرعية وتحديداً كون الذكر يرث ضعف الأنثيين.
لو كان تعديل قوانين الأسرة وحده كافياً لعلمنة الدولة لقلنا بأنّ أمير المؤمنين محمد السادس فرض علمنة الدولة بإدخاله تعديلات على قوانين الأسرة شبيهة إلى حد كبير بالقوانين التونسية بينما ينص الدستور أنّ المغرب دولة إسلامية!
بورقيبة لم يعلن يوماً أنّ تونس علمانية، ولم يتضمن دستور تونس وصفاً كهذا للدولة. المقارنة إذاً بين أتاتورك وبورقيبة في مجال فرض العلمانية "من فوق" لا تصمد أمام أيّ تحليل جدي.
من جهة أخرى، هل يكفي أن ندين علمانية أتاتورك، ونقلّل من أهمية نتائجها في تحديث تركيا ونعتبرها ليست من العلمانية في شيء لمجرّد أنّها فرضت "من فوق"؟
نعرف جميعاً أنّ الغالبية البرلمانية في نظام ديمقراطي لا تعبّر دوماً عن إرادة غالبية الشعب، وكثيراً ما تصوّت الغالبية البرلمانية على قوانين وإجراءات قد لا تصمد أمام استفتاء شعبي. نذكر على سبيل المثال لا الحصر إلغاء حكم الإعدام، السماح بالإجهاض وزواج مثليي الجنس. يمكن القول إذاً أنّها فرضت من فوق. هل نحكم عليها بنتائجها أو نرفضها وندينها كونها لم تخضع لامتحان الاستفتاء الشعبي التحتي؟
وهل يستحق أتاتورك اللوم لأنّه لم ينتظر أن تأتي العلمانية نتيجة توعية وصراعات تتوج باستفتاء شعبي؟ الذي أعرفه أنّ ذلك لم يحصل ولن يحصل في أيّ بلد إسلامي، بما فيها البلدان الثورية الاشتراكية.
العودة اليوم إلى لوم أتاتورك وبورقيبة، لا على ديكتاتوريتهما وإنما على فرضهم للعلمانية "من فوق" (وهذا يصح فقط في الحالة التركية) لا معنى له إلا في سياق الحرب على العلمانية والعلمانيين حيث يجد بعض المثقفين العرب أنفسهم مضطرين أن يبعدوا عن أنفسهم هذه الصفة ولو عن طريق تأجيل طرح قضية فصل الدين عن الدولة لسبب أو لآخر. وأعترف أنّ رفض العلمانية واعتبارها ليست من العلمانية من شيء بسبب كونها جاءت من فوق هي ضربة معلم في العلوم السياسية.
(الصورة الرئيسية: صورة للافتة من مجلس ثوار صلاح الدين أثناء مظاهرة في منطقة صلاح الدين في مدينة حلب. المصدر: Shahba Press Agency's official Facebook page)