الزراعة في ريف إدلب.. معوقات ومصاعب


05 كانون الأول 2016

هدى يحيى

إعلامية وناشطة من ريف إدلب، حائزة على إجازة في التاريخ  

بحسرة كبيرة يتأمّل المزارع أسعد الحسيني، 40عاماً، أرضه الزراعية التي تأخر نمو بذورها هذه السنة، كما في السنوات الأربع الماضية، فمع أنّ أسباب التأخر تختلف من موسم لآخر، لكن تبقى النتائج ذاتها.

أسعد من قرية الدير الشرقي، التابعة لريف إدلب الجنوبي، واحد من مئات المزارعين الذين تضرّرت أراضيهم الزراعية بسبب ما تشهده البلاد من حرب وغلاء ونزوح، يضاف إليها قلّة الأمطار الشتوية هذا العام، حيث تُعد الزراعة مصدر الدخل الأساس لأكثر من 70 بالمئة من أهالي ريف إدلب، ولها الدور الأكبر في الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية الأساسية. إلا أنّ هذا القطاع تأثر كغيره من القطاعات في سوريا عموماً وريف إدلب خصوصاً، نتيجة جملة من المعوقات تبدأ بقلّة المحروقات والأسمدة وتنتهي بصعوبة التصريف.

يقول الحسين، والهم يبدو واضحاً على ملامحه: "لقد اخترت زراعة القمح كونها تعتمد على الأمطار الشتوية، وبالتالي لا أتكلف بثمن وقود ومياه وغيرها"، غير أنّ قلّة الأمطار خيّبت توقعاته وجعلت محصوله يتأخر، إذ يشير بقلق إلى أنّه سوف يضطر إلى أن يسقي المحصول من المياه الجوفية، وهي مكلفة نتيجة غلاء أسعار الوقود، سيما المازوت، وهو المادة الأولية لتشغيل المولدات التي تعمل على استخراج هذه المياه من جوف الأرض، لافتاً إلى أن سعر الليتر الواحد يقارب الـ 350 ليرة سورية، أي ما يعادل أكثر من نصف دولار أمريكي.

مخاوف الحسين من أن تفوق التكاليف قيمة الإنتاج دفعت عدداً كبيراً من المزارعين إلى ترك أراضيهم "بوراً" (غير مستصلحة للزراعة) أو الاتجاه إلى زراعة أنواع أخرى غير القمح، بحيث تكون أسعارها مرتفعة، كاليانسون والكمون وحبّة البركة.

القمح في خطر

إنّ إهمال زراعة القمح من قبل المزارعين، وخاصة في هذه المرحلة من الأزمة السورية، لا يمكن تجاهله، فهو يشكّل المادة الأساسَ للخبز الذي تعاني محافظة إدلب من قلته، لا سيما مع حركة النزوح الكبيرة من ريف حماه إليها، الأمر الذي خلّف كثافة سكانية في الوقت الذي لا يغطي إنتاج المحافظة من القمح سوى حاجة نصف هؤلاء السكان.

يتحدث مدير "زراعة إدلب الحرة"، خالد الحسن، 40عاماً، لـ "حكاية ما انحكت": "تراجع إنتاج محافظة إدلب من القمح من 189000 طناً إلى 40000 طناً"، مرجعاً السبب في ذلك إلى غلاء الوقود وتدني المردود الاقتصادي لهكتار القمح مقارنة مع بقية المحاصيل، الأمر الذي أدّى إلى تراجع زراعة القمح للثلث مقارنة مع الأعوام السابقة.

مزروعات في كفر نبل. تصوير: هدى يحيى 28نوفمبر 2016/ خاص حكاية ما انحكت
مزروعات في كفر نبل. تصوير: هدى يحيى 28نوفمبر 2016/ خاص حكاية ما انحكت

وفي سبيل إيجاد بعض الحلول لمشكلات الفلاحين، تسعى مديرية الزراعة لإيجاد سبل مساعدة للمزارع، تتمثل بحسب المدير الحسن بـ "دعم مستلزمات الإنتاج مثل البذور والسماد، وبأسعار معقولة، وإمّا بدعم سعر الشراء لمحصول القمح حتى يكون السعر مناسباً للمزارع، وبذلك يعود الفلاح لزراعة القمح مجدّداً".

الزيتون والتين مهدّدان أيضاً

لم تكن الأشجار المثمرة بمنأى عن الإهمال في ريف إدلب، فقد تناقص عدد أشجار الزيتون بشكل كبير، ويعود السبب في ذلك وفق المزارع أبو محمد (43/مستعار) إلى "أعمال القطع والحرق بسبب غلاء المحروقات ووسائل التدفئة، مما دفع معظم المزارعين لقلع الأشجار من كرومهم واستخدامها في تدفئة أسرهم"، ويردف أبو محمد متأثراً: "وصلنا لزمن جعلنا نستغني فيه مرغمين عن مّا جنيناه لسنوات".

رئيس غرفة الزراعة السابق، عبده حميدي، يشرح أسباب تراجع موسم الزيتون قائلاً: "بالإضافة لما ذكره أبو محمد، هنالك قلّة الخدمة وغلاء المبيدات الحشرية والظروف المناخية السيئة، هذه كلها أسباب أدّت لانخفاض الإنتاج بنسبة 30 بالمئة تدريجياً منذ عام 2011، وقد انخفض الإنتاج هذا الموسم بنسبة 80 بالمئة مقارنة بالعام الماضي".

هذا التراجع في الإنتاج ترافق مع ارتفاع أجور اليد العاملة والآلات الزراعية، فلم تعد زراعة الزيتون وقطافه حرفة سكان إدلب الأولى في هذه المرحلة، وعلى خلفية ذلك شهدت أعداد كبيرة من معاصر الزيتون حالات إغلاق ملحوظة.

مزروعات في كفر نبل. تصوير: هدى يحيى 28نوفمبر 2016/ خاص حكاية ما انحكت
مزروعات في كفر نبل. تصوير: هدى يحيى 28نوفمبر 2016/ خاص حكاية ما انحكت

ولأشجار التين أوضاع زراعية صعبة خاصة بها، إذ بات قطاف محصولها مرهوناً بإيجاد سوق خارجي للتصريف، وهذا من أصعب ما يواجه المزارعين مع انتشار الحواجز العسكرية على امتداد الطرقات، وبالتالي إمكانية مصادرة المحصول من قبل إحداها، كما حدث مع المزارع ياسين البكور (50عاما /مستعار) الذي يتذكر تلك الحادثة قائلاً لـ "حكاية ما انحكت": "أثناء شحنة لإحدى حمولات التين واجهتنا مشكلة طمع أحد الحواجز النظامية على الطريق الواصل بين ريف إدلب واللاذقية حيث موانئ التصدير، إذ لم يسمح بمرور الحمولة، مدّعياً أنّنا نتاجر لصالح الثوار، فما كان منّا إلا أن تنازلنا عن الحمولة وعدنا أدراجنا دون أن نستطيع فعل أيّ شيء، لقد ذهبت جهودنا طيلة العام في مهبّ الريح، ومع ذلك أحمد الله أنّهم لم يعتقلوني كما يفعلوا مع الكثيرين".

لم يتوقف دور النظام السوري بتدهور القطاع الزراعي في إدلب وريفها على مصادرة المحاصيل، وإنما تعدّاه إلى مسؤوليته عن تجريف مئات الكيلومترات من أشجار الزيتون في محيط حواجزهم المنتشرة هناك إبان "تحريرها من قبل الثوار" بحسب ما صرّح الحميدي.

التوسع العمراني ... بحثاً عن الأمان

التوّسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية عن طريق انتقال عدد كبير من الأهالي من مراكز بعض المدن والبلدات التي تتعرّض للقصف اليومي من قبل الطيران الحربي إلى العيش في الكروم بعد بناء بيوت فيها، كان هو الآخر أحد معوّقات الزراعة، وفي هذا السياق تروي أم عمر (اسم مستعار) الخمسينية كيف اضطرت لبيع منزلها في بنش بسبب القصف، وبثمنه قامت ببناء منزل متواضع في أرضها الزراعية النائية، وهي مقتنعة بهذا الإجراء لسبب وحيد "يكفي أن أشعر ببعض الأمان، وإن كان الأمان قد فقد كلياً في بلدنا هذه الأيام". هذا في الوقت الذي تسترجع فيه أم عمر ذكريات هذه المساحات الزراعية قائله لـ "حكاية ما انحكت": "كانت من أجمل الأراضي العامرة بشتى أنواع المزروعات، إلا أنّها اليوم أصبحت شبه حي متباعد المساكن لأهالي بنش النازحين".

حتى زراعة الخضراوات، تأثرت إلى حد كبير بالأوضاع الأمنية وبالغلاء الفاحش لمتطلبات زراعتها، فالمزارع عادل الأحمد، 46عاماً، أرغم على مغادرة أرضه الزراعية قبل جني محصولها من البطاطا إبان اشتعال المعارك في محيط كفرزيتا الواقعة بين ريف إدلب الجنوبي وريف حماه الشمالي، إذ نزح باتجاه الشمال السوري بصحبة عائلته حرصاً على سلامتهم.

مزارع في أرضه الزراعية في كفر نبل. تصوير: هدى يحيى/28نوفمبر 2016/ خاص حكاية ما انحكت
مزارع في أرضه الزراعية في كفر نبل. تصوير: هدى يحيى/28نوفمبر 2016/ خاص حكاية ما انحكت

أما بالنسبة للمزارع هشام العبيدو، 35عاماً، فهو لم يعد يزرع الخضار نظراً لغلاء السماد الذي يُعد عنصراً أساساً في زراعتها، إذ يقول: "سابقاً كان السماد متوفراً وبأسعار معقولة، ولكنه اليوم غالي الثمن وغير متوّفر في المناطق المحرّرة، وإن حاولنا جلبه من مناطق النظام فلن يسمحوا لنا بمروره إلا بعد دفع الكثير من الأموال"، مؤكداً على أنّ أحدهم قام بإنشاء معمل محلي للسماد، ولكنّه لم يدم طويلاً، إذ تم استهدافه من قبل الطيران الحربي السوري.

الحاجَّة الستِّينية ربيعة (اسم مستعار)، تشكو من ما آلت إليه أوضاعها المعيشية، فتقول بحزن: "لطالما كانت الخضار طعام الفقراء لرخص ثمنها، ولكنها اليوم غدت غالية الثمن، ولا نستطيع شرائها"، وتضيف متنهدة: "لقد أصبحت الحياة صعبة وشبه مستحيلة وخاصة بالنسبة للفقراء الذين يزداد عددهم يوماً بعد يوم".

للمجتمع المدني دور

تدهور القطاع الزراعي في ريف إدلب دفع بعض المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني للاهتمام به مجدداً، ومنها منظمة إحسان للإغاثة والتنمية (هي منظمة مجتمع مدني غير ربحية، غير حكومية، تهتم بدعم مشاريع تنموية وخدمية ذات أثر إيجابي على المدى المتوسط والطويل الأمد بما يسهم في مساندة السوريين داخل سوريا وخارجها، وهي مدعومة من قبل رجال الأعمال السوريين المغتربين التي أطلقت مشروع الدعم الزراعي، وهو يشمل 12 بلدة وقرية بريف إدلب، سرمين، تفتناز، بنش، الطليحة، الطعوم، كيتان، معرة النعسان، شلخ، رام حمدان، سراقب، جسر الشغور، تل مرديخ، رافقها إقامة ندوات توعوية للمزارعين) بحسب المدير التنفيذي للمنظمة، محمد المصري، 39عاماً، الذي قال لـ"حكاية ما انحكت": "أطلقت المنظمة هذا المشروع لدعم محاصيل القمح والشعير والحمص والفول والخضار وتقديم البذور والمعدات اللازمة للزراعة بالإضافة للمحروقات التي تحتاجها الآلات الزراعية للعمل"، وقد بلغ عدد المستفيدين من المشروع 2500 مزارعاً، وزّعت عليهم قسائم زراعية، وذلك بالتعاون مع المجالس المحلية في كلّ منطقة لمعرفة مزارعي المناطق المستفيدة.

من جهة أخرى ترى المهندسة الزراعية سارة بركات، 35عاماً، أنّ القطاع الزراعي في ريف إدلب بحاجة لمزيد من الدعم، بينما الحكومة المؤقتة ومعها الائتلاف لم يبذلا الجهود الكفيلة بتشكيل كيانات إدارية تشرف على العمل الزراعي في المناطق المحرّرة، فكانت المنظمات الإغاثية اللاعب الأبرز على الساحة، فهي من يتواصل مع الفلاحين ويمدّهم ببعض المستلزمات، ولكن دون وجود قاعدة إحصائية أو خطة محددة الأهداف والغايات للفلاحين المستهدفين وأماكن تواجدهم، ما أدّى للعشوائية في الدعم.

وبين أخذ وردّ تستمر معاناة المزارعين في ريف إدلب ضمن ظروف الحرب التي قاسمتهم أرزاقهم، وعلى الرغم من المحاولات لإنقاذ هذا القطاع الهام، فإنه يواصل انحداره، وما من حلّ قريب يلوح في أفق السوريين.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد