"نصر بيروسي"
بهذا المصطلح وصف مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، في مقابلة نُشرت في 15 تشرين الثاني / نوفمبر 2016، الهجومَ الذي شنّه النظام السوري في شرق حلب. وفي وقت تعجز فيه الكلمات عن التعبير، أتت كلماتُه هذه لتعبّر خيرَ تعبير عما جرى.
فلا شكّ أنّ ثمن تحقيق هذا النصر باهظ للغاية، إذ انتُهكت كافة المعايير الإنسانية والسلوكيات المقبولة في الحرب في خلال هذا الهجوم وفي خلال الحرب بشكل عام. فمع أنّ النظام قد يكسب أراضٍ ويحسّن موقفه الاستراتيجي، إلا أنّه قد شوّه صورته في نظر السوريين والعالم. وتشوّهت صورة حلفائه هي الأخرى وبشدّة، كما وهي حال كافة الأطراف التي ارتكبت جرائم حرب في سوريا.
فهل من الممكن أن يرتكز حكم سوريا يومًا ما على هذه الأعمال الجرمية؟ ولَأنّ هذا واردٌ على مستوًى ما، لكن ليس إلّا في حال أتت كلمة "حكم" بمعنى القمع والهيمنة مع الاستمرار في انتهاك إرادة الشعب بدعم من جهاز أمن جائر.
وفي الواقع يشكّل مفهوم النصر البيروسي نقطة انطلاق مناسبة للنظر في عملية صنع السلام في وضع يظهر فيه بوضوح كمّ هائل من أدلة جرائم الحرب. ويبقى السؤال الذي سيشغل الجميع في خلال صنع سلام سوريا كيفيةَ التصرف بهذه الأدلة. ومن الطبيعي أن يعتمد هذا التساؤل بشكل واسع على الظروف التي سيتم فيها صنع السلام، والمواقع العسكرية المكتسبة، واللعبة الدبلوماسية على الساحة الدولية في ذلك الوقت.
لكن مهما كانت الظروف، سواء حقّق النظام انتصارًا تامًّا، أو انقسمت البلاد إلى أراضٍ تحكمها قوى محلية كأساس لإعادة التفاوض حول النظام السياسي في سوريا، لا يمكن تصوّر أن تتجاهل عمليةُ صنع السلام الأدلةَ المحفوظة في الأرشيفات. أمّا ما مصير هذه المواد، وما هي الإجراءات السياسية التي يجب اتخاذها لتنظيم الأدلة والتجهيز للملاحقة القانونية؟ فسؤالٌ من المتوقع أن يصير سؤالًا حاسمًا عند انتهاء الحرب وحتى في خلالها.
عبارة "لم نكن على علم بذلك" غير مقبولة
لأنّ الصراع السوري اليوم من الصراعات الأكثر توثيقًا في التاريخ، ويجري حاليًّا جمع الأدلة المتناثرة في أرشيف عن الحرب. إذ تنتشر على الإنترنت مئات آلاف الفيديوهات والشهادات والصور التي توثّق بمعظمها انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. أمّا الأطراف المُدانة فتشمل بشكل أساسي النظام السوري، ولكن أيضًا مجموعات المعارضة والثوار، والجيوش الإقليمية والمرتزقة، وروسيا والولايات المتحدة.
وحتى هذا اليوم، لم تُجرى أبحاث تُذكر بهدف تجميع ومقارنة وضمّ المواد التي جمعتها مختلف المنظمات واللجان والمجموعات السورية والدولية، علمًا أنّ هذه الأخيرة تسجّل وتفهرس منذ عام 2011 جرائم الحرب، بما فيها التعذيب والاختفاء القسري والمذابح والقتل العشوائي، وذلك حرصًا منها على تشكيل أرشيف لانتهاكات حقوق الإنسان من شأنه أن يضمن شيئًا من العدالة في المستقبل.
كذلك قدّم الناشطون والفنانون السوريون، إلى جانب المواقع الإعلامية مثل موقع "حكاية ما انحكت"، كمًّا ضخمًا من الأدلة والآراء الخاصة بالحرب يمكن أن تساند الأدلة القانونية خلال عملية عدالة انتقالية تهدف إلى معاقبة المجرمين، أو التعافي من الحرب، أو الاثنين معًا. وبصورة عامة يشكّل توثيق أعمال العنف في سوريا أرشيفًا بارزًا ومركّبًا بمعنى أنّه يتألف من مواد من أنواع مختلفة حثّت على التوصل إليها مصالحُ إيديولوجية وسياسية متنوعة.
وتمثل محاولات الأرشفة هذه تصوّرات للعدالة الانتقالية منها انفعالي ومنها أكثر تمسّكًا بالقوانين. ففي حين غالبًا ما يسعى السوريون وغيرهم ممّن يوثّق أعمال العنف على الأرض إلى إثارة استجابة انفعالية لدى الجمهور، يسعى مناصرو التمسك بالقانون إلى "كبح جماح نزعة الانتقام"1 عبر لغة بيروقراطية غير انفعالية وعمليات ملاحقة قضائية طويلة الأمد تضع معايير عالمية. وتلتقي المقاربتان في إصرارهما على بناء أرشيفات للحرب.
الإنترنت يفيض بالأدلة
تقدّم الأعمال الوحشية المصورة بالهواتف النقالة والفيديوهات المنشورة على موقع "يوتيوب" ومختلف المدونات والصفحات الإلكترونية، فضلًا عن التغطية الإعلامية الكثيفة للقتال في سوريا، مواد أولية تستطيع المنظمات "التنقيب" فيها لاستخراج الأدلة، حتى ولو كانت هذه الأدلة أضعف من أن تثبت صحتها في المحكمة.
لذلك تلجأ منظمات مثل "لجنة العدالة والمساءلة الدولية" إلى جمع أدلة شفهية ومكتوبة صادرة عن سلسلة القيادة، بدءًا من أبرز مسؤولي النظام ووصولًا إلى قوات الشرطة الخاصة والجنود المسؤولين عن إعدام المتظاهرين ومقاتلي المعارضة وتعذيبهم.
ويمكن أن تُضاف إلى هذه الوثائق التي تم تهريبها من سوريا إلى مواقع مختلفة في أوروبا والغرب وثائقُ أخرى تبيّن أعمال عنف مثل "ملف قيصر"، وهو عبارة عن 53 ألف صورة هرّبها من داخل البلاد أحدُ الهاربين من النظام، للمباشرة بعدئذٍ بقضية قضائية سواء في المحكمة الجنائية الدولية أو ضد أعضاء فرديين في النظام مقيمين في دول الغرب. وتُظهر الصور أعمال إيذاء وقتل لحقت بالسجناء المعتقلين لدى النظام السوري.
وقد أكدّت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بعد استخدامها التصوير بالقمر الصناعي وتقنيات تحديد الموقع الجغرافي أنّ بعض صور الجثث أُخذت في باحة مشفى المزة العسكري 601 في دمشق.
ومن جهة أخرى، يتولّى نطاق متنوّع من الناشطين السوريين، والدول الأجنبية، والمنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية، والمؤسسات الدولية كوكالات الأمم المتحدة، تجميع مواد أخرى تتراوح بين تقارير دقيقة حول كلّ عملية تفجير وقتل، وأدلة جنائية مجموعة. ويعني ذلك أنّ مختلف المصالح والقوى السياسية تحاول تذكّر الحرب في سوريا وإحياءها و"أرشفتها".
وتشمل الجهات الفاعلة السورية "مركز الكواكبي لتوثيق الانتهاكات"، و"مركز توثيق الانتهاكات في سوريا"، و"مركز المجتمع المدني والديمقراطية"، و"مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان"، ومنظمة "دولتي"، و"لجان التنسيق المحلية في سوريا"، و"المركز السوري للتوثيق"، و"المركز السوري للعدالة والمساءلة"، و"المرصد السوري لحقوق الإنسان"، ومنظمة "شهداء سورية"، وغيرها.
أما المنظمات الدولية فمنها "مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان"، فضلًا عن المنظمات غير الحكومية الدولية مثل منظمة "الكرامة"، و"منظمة العفو الدولية"، و"الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان"، ومنظمة "أطباء بلا حدود"، و"معهد الولايات المتحدة للسلام"، و"لجنة العدالة والمساءلة الدولية"، ومنظمة "هيومن رايتس ووتش"، و"مجموعة الأزمات الدولية"، والمعهد السوري للعدالة (Justice for Syria)، ومنظمة "مراسلون بلا حدود"، وفرقة العمل السورية لعمليات الطوارئ (Syrian Emergency Task Force)، و"اللجنة السورية لحقوق الإنسان". إلا أنّ هذه اللائحة غير كاملة إذ يفوق عدد مجموعات التوثيق الإجمالي 40 مجموعة.
العدالة الانتقالية ودوافعها المختلفة
يميل السوريون إلى جمع الأدلة لأغراض شخصية، ويتمتع معظمهم بعلاقات وطيدة مع مجموعات المعارضة، إذ إنّهم يريدون الحفاظ على زخم الثورة ويأملون بأن يتم إحقاق العدالة وأن يحاكَم أعضاء النظام كجزء من عملية انتقال السلطة.
أما الجهات الفاعلة الخارجية فغالبًا ما تبرّر تدخلها بمفاهيم مبهمة حول العدالة العالمية، والمحافظة على نظام عالمي عملي، والحرص على استمرار تقدم تاريخ البشرية، وأفكار سامية مشابهة.
فعلى سبيل المثال، قال مدير "لجنة العدالة والمساءلة الدولية" بيل وايلي مؤخرًا في حديث مع صحيفة "ذا نيو يوركر" الأمريكية إنّ عمله على استعادة توثيق الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية لم يطمح إلى إزاحة قادة مثل صدام حسين أو بشار الأسد بحد ذاتهم، بل "إلى إرسال خبر لمجتمع متأثر بالصراع بأن هذه الأمة ستُحكم من الآن فصاعدًا على أساس سيادة القانون". ولا شكّ في أنّ الهدفين متشابكان، ما يبرّر التواطؤ بين المجموعات السورية والدولية.
وتتفق الجهات الفاعلة السورية والأجنبية العاملة في مجال الأدلة الخاصة بالعدالة الانتقالية في قراءتها للصراع السوري، إذ تعتبر أنّ سوريا أصبحت مثالًا عن فشل الانتفاضات العربية وكذلك فشل المؤسسات الدولية في تقديم الاستجابة المناسبة.
وتُزعزع المعاناةُ الإنسانية المستمرة بوتيرة سريعة وعلى نحو صاعق الثقةَ في قدرة المجتمع الدولي القانوني والدبلوماسي على وضع حد للقتال والمباشرة بالاستجابة لمختلف حالات الطوارئ في سوريا والمنطقة.
ومن هذا المنطلق، لا يشكّل الوضع في سوريا أزمة للسوريين فحسب، بل أيضًا لتسوية النزاعات الدولية، إذ يثير شكوكًا حول قدرة النظام الدولي الحالي على مواجهة آلاف الجرائم الموثقة، من جرائم الحرب إلى الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية التي يحدّدها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنّها أعمال مرتكبة "في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موّجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين"2.
إلّا أنّ "إشكاليات الحماية"3 لا تزال غير محلولة بالرغم من عمل الهيئات المعنية مثل عقيدة مسؤولية الحماية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
لذلك، لجأ عدد من الجهات الفاعلة في الصراع، من الناشطين السلميين الذين استُبعدوا نتيجة عسكرة نضالهم، على المستوى المحلي، إلى الجهات الفاعلة الدولية التي لا تؤمن فعلًا بقدرة الجهود الدبلوماسية والعسكرية على إنهاء الحرب، إلى جمع الأدلة، في محاولة لبناء نظام دولي عادل. وتَحوّل الأرشيف الذي يعملون على تشكيله إلى مساحة بديلة لطموحهم باستعادة المبادئ الأخلاقية العالمية وأيضًا لحفظ المشروع الثوري الأساسي في سوريا.
العدالة الانتقالية لا تصنع المعجزات
ففي الواقع، انتُقد إطار العدالة الانتقالية النظري بشدة على مدى السنوات الأخيرة وهناك أسباب تدعو للتشكيك. ففي ما يتعلق بسوريا، يمكنني أن أتفهم التحفظات التي يبديها البعض إزاء التركيز على العدالة الانتقالية في حين تنهدر القنابل على حلب.
وقد يعتبر البعض أنّ التركيز على العلاقات الاجتماعية والسياسية في إطار مستقبلي بعد انتهاء الصراع قد يعيق العمل الذي يجب إنجازه للتوصل إلى هذه العلاقات في الوقت الحالي. ويمكن للعدالة الانتقالية أن تصرف الانتباه عن وقائع الحرب، كقطعة حلوى تحلّق في السماء فيما السماء تعج بطائرات الميغ.
ويجوز إعادة صياغة هذا النقد بشكل آخر، فإذا نظرنا إلى محاولات صنع السلام الفاشلة في خلال السنوات الخمس الماضية، نرى أنّ المجتمع الدولي والدبلوماسيين الغربيين لم يقدّموا قط رؤية واقعية تقبل بها كافة الأطراف. وقد يعود ذلك إلى مجرد سوء تقدير لقوة النظام السوري وحلفائه حزب الله وإيران وروسيا وقدرتهم على المثابرة. فكلما تحدث كل من الولايات المتحدة والمبعوثين الأمميين وحلفاء مجموعات المعارضة الرئيسيين المشاركين في محاربة النظام عن الصورة المرسومة في ذهنهم عن سوريا ما بعد الحرب، افترضوا دائمًا أنّ نظام الأسد سيُهزم أو أقلّه أنّ الأسد سيُعزل.
فبالتلويح بالهزيمة (وبمرحلة انتقالية في الطريق نحو إحلال نظام سياسي جديد) في خطابهم الدبلوماسي، أملوا أن تصبح تلك النتيجةَ المقبولة لا بل المتوقعة. ومنذ عام 2013 أشار فشل هذه الغائية الواضح تدريجيًّا إلى أنّ السيناريوهات الدبلوماسية تتناقض مع الواقع، وبالتالي لا يمكن أن تشكّل منصة لـ"الحل السياسي" المُراد.
إلّا أنّ ما سبق ليس حجّةً لصالح النظام
فقد سمعتُ في الواقع أعضاء في الثورة السلمية يقدّمون الحجة نفسها ولو بمرارة. وفيما كنتُ أبحث في ملاحظاتي الميدانية من صيف 2013، وجدتُ تسجيلًا لحديث مع صديق سوري لي كان قد وصل مؤخرًا إلى بيروت.
وكان ذلك بعد فترة قصيرة من فوز النظام وحزب الله في معركة القصير بعدما قُطع خط الإمدادات بين لبنان وحمص. وبرز حينئذٍ تنظيم الدولة الإسلامية (الذي كان يُعرف في ذلك الوقت بالدولة الإسلامية في العراق والشا) كلاعب أساسي على الساحة، فعمّ جوّ من الهزيمة على المجتمع الثوري السوري في بيروت.
ومن وجهة نظر صديقي والمتظاهرين العلمانيين الذين يشاركونه تفكيره، تغيّر مجرى الأمور لغير صالح ثورتهم، فلم يكفِ أنّ مظاهراتهم السلمية أصبحت عسكرية فيما خضعوا لمعاملات وحشية من قبل النظام، بل حصل ما هو أسوأ إذ حوّل الانتقال إلى الصراع المسلح صراعهم إلى اضطراب مستعصٍ لا ينتهي بين القوى الإقليمية والدولية التي باتت محاربة فيه بالوكالة.
حربٌ أهلية طويلة برز فيها الثوار الآخرون (الإسلاميون في الظاهر) أقوى وأكثر نفوذًا، وبالتالي أكثر استعدادًا للمضي قدمًا بالصراع ضد نظام الأسد. ومن هذا المنظور المحزن الذي ازداد تعاسة على مدى السنوات الثلاث الماضية، ما عاد صديقي يرى أي جدوى من التحدث عن الثورة، فقد استُبدلت الثورة بالحرب، وبدت له هذه الحرب أشبه بالهزيمة.
فاقترحتُ أنّ أقلّ ما يجب فعله توثيق الفظائع المرتكبة بحق المدنيين أملًا في إحقاق العدالة بعد انتهاء الحرب. وذكرتُ "مركز توثيق الانتهاكات في سوريا" الذي تترأسه رزان زيتونه نموذجًا للعمل الثوري في هذا الصراع المطوّل، ومثالًا عن العمل الضروري لحفظ انتهاكات حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الانتقالية في نهاية المطاف.
إلّا أنّ ملاحظتي هذه أزعجته، فقال: "عدالة انتقالية؟! إنها لأولئك الذين لا يريدون القيام بأيّ عمل. يمكنك أن تحلم بحكومة انتقالية مثل كوفي أنان (الموفد الخاص للأمم المتحدة في سوريا لعامي 2011 و2012) لكنّ هذا ليس ما نحتاج إليه. أعني أنه لم يكن ما نحتاج إليه. وكأنّ الحكومة الانتقالية موجودة وكلهم مجتمعون على الطاولة نفسها. ليست هذه هي الحال!
"أتعلم؟ إنّه [بشار الأسد] يضحك الآن. نحن لسنا بحاحة إلى هذه الكلمات الملطَّفة. سيشربهم مع قهوته. ويعطيك العافية. ما من احتمال آخر، أفهمت؟ لقد خسرنا وذلك بسبب هذه الأكاذيب".
ولعلّ كلامه صحيح
فإنّ فشل المجتمع الدولي في تدعيم ما قيل عن مرحلة انتقالية بضغوطات دبلوماسية وعسكرية جعل من الرؤى السياسة الليبرالية أضحوكة. فعندما لا يقدّم الخطابُ الدبلوماسي أيّ نتائج ملموسة للعمل على الحفاظ على الثورة وطموحها الرئيسي بنشر ثقافة سياسية جديدة، من السهل أن ييأس المرء، إزاء العدالة بشكل خاص.
وفي الوقت نفسه، علينا أن نتذكّر أنّ التاريخ المعاصر شهد على حالات أخرى ( كما في التشيلي والأرجنتين) وجب فيها حل الأزمات عبر تجاهل العدالة في البداية، سواء جزئيًّا أو بالكامل، للعودة إلى هذه الأجندة في وقت لاحق. وهنا تصبح الأرشيفات عنصرًا حاسمًا.
وفي حال لبنان حيث حثت حملة أطلقها المجتمع المدني بعد الحرب الأهلية على التذكّر ومناقشة الأزمة، شكّل نقص الأرشيفات المنظمة عائقًا جسيمًا.
ومن وجهة نظر أوسع، يشكّل كلّ اتفاق سلم سياسي نقطةَ انطلاق لعملية انتقالية توازيه صعوبة في سبيل إعادة بناء المجتمع وإحلال الوفاق فيه، لا ينكف الماضي يلوّح فيها، فلا يمكن أبدًا تجاهل الماضي بالكامل. فحتى لو حاول نظام ما دفن الانتهاكات المرتكبة في الماضي، غالبًا ما تعود وتظهر إلى العيان في مرحلة ما.
كيف يمكن لعملية صنع السلام أن تبدأ في سوريا؟
لقد ترك استعداد الرئيس ترامب لتولي مقاليد الحكم في كانون الثاني / يناير المقبل المعارضين المسلحين الرئيسيين للنظام في وضع عسير. فمع أنّ سياسات ترامب لم تتبلور بعد، يبدو أنها تُبعد الدعم الأمريكي أكثر فأكثر عن الجيش السوري الحر، وتقطعه بالكامل عن معظم الحركات الإسلامية، وتؤيد في المقابل التعاون الشديد مع روسيا.
وفي حال استمر الهجوم الحالي في حلب بوتيرته الحالية المرعبة، قد تنتهي سيطرة المعارضة على شرق حلب حتى قبل أن يتولى ترامب الحكم، ما سيهيّئ الساحة لخوض محادثات السلام في ظروف جديدة.
وفي ظروف كهذه، يصعب تصوّر أن تعود الأمم المتحدة إلى الشروط التي نص عليها مؤتمر جنيف1 أو 2 في 2013 و2014، فمن الممكن أن يقود ذلك إلى وضع حرج يصبح فيه التفاوض الخيار الوحيد إلى جانب الهزيمة الكاملة. إلّا أنّ النظام قد يثابر ليحقق نصرًا تامًّا في إدلب وساري الأراضي الخاضعة لسيطرة الثوار.
ولتجنّب الهزيمة المطلقة، يُحتمل أن تطالب قوات المعارضة بتشارك السلطة، وسيتبع ذلك مرة أخرى نمطًا سبق وشهدناه في مراحل انتقالية تلّت حروبًا أخرى. فقد ركّزت مفاوضات سلام كثيرة على وضع حد لأعمال العنف عبر تقديم محفزات تشارك القوى للأطراف المتصارعة، ومن الأمثلة السديدة ما حدث في لبنان أو مؤخرًا في كولومبيا.
لكنّ النظام يحاول حتى هذه اللحظة درء هذا الاحتمال عبر قطع الحوار حول شرعية مجموعات المعارضة كلها، معتبرًا أنّها مجموعات إرهابية ورافضًا الاعتراف بمؤيديها من الشعب.
وقد أدّى ذلك إلى "خلاف جذري"، فوفقًا للباحث أوليفر رامسبوثام، وهو من أهم الباحثين في مواضيع السلم، يمكن الكلام عن "خلاف جذري" عندما ترفض الأطراف التمييز بين مواقفها من جهة ومصالحها واحتياجاتها من جهة أخرى، فتعترض على وضع إطار جديد للمنافسة قادر على تحويل هذه الأخيرة إلى عملية مشتركة لحل المشاكل من شأنها تحويل الجدال العدائي إلى نقاش بنّاء4. وباختصار، عندما تفتقر الأطراف المتصارعة إلى القدرة على التفاهم المتبادل، تبدو كل تسوية سياسية مستقبلية مستحيلةً.
ومن أجل حفظ مستقبل سوريا، علينا أن نأمل بأن يتم التوصل إلى تسوية. وإن حصل ذلك، يجب أن تشمل التسوية الجرائم التي ارتكبتها القوى الإقليمية والدول الغربية وكافة الأطراف المنخرطة في الصراع. لكنّ تسليط الضوء على الانتهاكات الصادرة عن الولايات المتحدة وجيوش دول الغرب سيضخّم الكمّ الهائل والأهم من الأدلة التي توثّق عنف النظام. فالنظام لا يستطيع أن يمحو الحرب كما فعل بعدما دمّر حماه عام 1982 وتمكن من محو الأدلة وإغلاق ملف الحوار، فنحن نعيش اليوم في عصر آخر.
والأرشيف الخاص بالحرب السورية قائم، والعاملون عليه كثيرون وملتزمون فيه حتى وإن لم يكتمل بعد العمل الشاق الهادف إلى ربط الأدلة المختلفة التي يتألف منها. ولَأنّ هذا العمل ضروري لكي يتحضّر الميدان لأخذ الماضي في عين الاعتبار في خلال صنع سلام سوريا.
(الصورة الرئيسية: فيلم متحرك يصوّر كيف قد تتطور العدالة في سوريا ما بعد الصراع – 9-10-2013 (معهد صحافة الحرب والسلم/الفيديو قابل للاستخدام. كافة الحقوق محفوظة للكاتب)