أصبح استخدام النظام السوري للعنف والحصار والتدمير كوسيلة للسيطرة على المناطق وسكانها أمراً معروفاً لدى الجميع في السنوات الأخيرة. لكن استخدام السلطات الإدارية والتشريعية للسيطرة على حركة الأفراد وإقامتهم عادة ما يُغفل في وسائل الإعلام.
إتلاف الوثائق
كانت هناك عدّة مناسبات أتلفت فيها سجلات الأوراق الرسمية بسبب القتال والدمار حول المباني الحكومية. في الوقت الذي أصبحت فيه محاولة إثبات ملكية منزل مهمة شاقة في مثل هذه الحالات (وذلك يعتمد على تعاون موظفي الحكومة) فإنّ محاولة بيع أو شراء أيّ عقار في هذه الظروف أصبح ضرباً من المستحيله، وهذا يعني أنّ المالكين فقدوا قدرتهم على الاستثمار أو حتى استخدام العقار.
أم أحمد (52) عاماً (اسم مستعار)، تعيش في منزل شقيق زوجها في منطقة الملعب في حمص لما يربو على سنتين الآن. كان منزلها يقع في حي الحميدية في المدينة القديمة في حمص. عندما تصاعدت الهجمات والقصف في عام 2012، غادرت بصحبة عائلتها مؤقتاً للعيش مع ابنتها التي كانت تقطن في الوعر الذي كان حيّاً آمناً في ذلك الوقت. بعد أن أغلق النظام المدينة القديمة بفرض حصار بدأ في شهر حزيران من سنة 2012، لم يعد بمقدور أم أحمد العودة إلى منزلها.
استغرق الأمر سنتين تقريباً حتى رُفع الحصار كي تتمكن أم أحمد من تفقد منزلها وترى بنفسها ما حصل له. أحمد، ابنها البكر الذي يعيش حالياً في فرنسا، قال لـ "حكاية ما انحكت": "وصلت إلى منزلنا لترى عائلة تخرج منه حاملة غسالتنا الآلية. وعندما احتجّت، أخبروها بأنها لا تملك أوراق ملكية المنزل معها، وأطلقوا بعض الادعاءات بأنّهم على صلة بمليشيات النظام وهم خارجون حاملين معهم الغسالة."
بعد تشديد الحصار والقصف لمنطقة الوعر، توّجب عليهم مغادرة المنطقة ومن حسن الحظ أنّ لهم قريباً يعيش في الخارج ويملك منزلاً في حي الملعب الآمن.
الرخص والخدمات
اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات تقريباً على رفع النظام للحصار، ما يزال الدخول إلى المدينة القديمة مقيّداً بشدة ويتطلّب موافقة سابقة كما أكد العديد من المقيمين.
حتى عندما تمكنت أم أحمد من زيارة المنزل، لم يسمح لها بالانتقال إليه ثانية، فمنذ أن فرّ ابنها أحمد من البلد لتجنّب الخدمة العسكرية، منعت العائلة من الحصول على موافقة أمنية لأنّ أحد أفرادها مطلوب من قبل السلطات.
"لا يسمح لأيّ عائلة لها فرد مطلوب بالدخول"، قال أحمد متابعاً "ليس بالضرورة أن يكون ابناً، فربما يكون ابن عم أو قريباً بعيداً يحمل اسم العائلة نفسها. عندها تمنع العائلة بأسرها من الحصول على تصريح للعودة إلى منازلهم."
لكن التصاريح ليست العائق الوحيد الذي يواجه من يرغبون بالعودة إلى المدينة القديمة. إصلاح البنية التحتية في حمص القديمة عملية بطيئة جداً وفاسدة وانتقائية، ففي العديد من المناطق لم تُزل الأنقاض كما لم يتم استعادة إمدادات الماء والكهرباء.
العديدون اشتكوا أنّ نسبة كبيرة من الذي تلقاه النظام من الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الدولية الأخرى قد ذهب إلى جيوبهم الخاصة بعد أن رمّموا شارعاً أو اثنين لعرضها أمام آلات التصوير، وذلك وفقاً لأبو وليد (32) عاماً، أب لثلاثة أطفال وناشط إعلامي معارض من الخالدية.
أخبرنا أبو وليد كذلك عن الشكوك التي تراود الكثيرين حول أيّ الأحياء التي تمّ ترميمها وأيّها تم إهماله. كما أشار إلى وجود أجندة تفضيلية ذات طابع طائفي تؤثر على عملية الاختيار، وقد أشار بشكل خاص إلى الحميدية، منطقة ذات غالبية مسيحية كأحد الأحياء المحظوظة.
التحكم بالعقارات من خلال التصاريح الأمنية
لو لم تكن أم أحمد محظوظة لأنّ لديها قريب غني، لربّما كانت قد أجبرت على الانتقال إلى مدينة أخرى فيها بعض المنازل الشاغرة وبعض الخدمات العامة على الأقل.
لكن النظام يقوم وبشكل خاص على منع إعادة التوطين على أسس سياسية، فـ" من المستحيل للحمصيين الحصول على تصريح أمني للاستئجار في دمشق" يقول رامي الذي فشلت والدته في تأجير منزلها في ضواحي دمشق لعائلة من حمص التي لا تزال تعد منطقة مضطربة.
"على التصريح الأمني أن يُصادق عليه من الأفرع الأمنية الثلاثة عشر في دمشق الآن." يتابع رامي. تم إنشاء هذه العملية سنة 2013 كوسيلة للنظام كي يتحكّم ويراقب حركة التنقل وإعادة التوطين. اليوم على السوريين الراغبين ببيع أو شراء أو تأجير أو حتى إعارة منازلهم، عليهم أولاً الحصول على تصريح من الأجهزة الأمنية لهم وللمستأجرين. من الواضح بأنّ
" إذا كانت لديك شكوك بأنّك مطلوب للنظام، فمن الأفضل لك بيع عقارك أو تأجيره بعقد طويل الأمد بينما تستطيع ذلك وقبل أن يحدث تغيير جديد بالأنظمة الغير رسمية". هذا ما تقول أم أيمن (63) عاماً، والتي قامت مؤخراً ببيع منزلين لأبنائها في دمشق كونهم يعيشون في الخارج. على الرغم من ذلك فإنّ أمام السوريين المطلوبين المقيمين في الخارج فرص ضئيلة للحصول على تصريح أمني لبيع أو تأجير عقاراتهم عن طريق أحد المحامين.
"ليس من الآمن ترك المنازل فارغة، والإجراءات الإدارية أصبحت ضرباً من المستحيل. على سبيل المثال، كانت شهادة السجل المدني صالحة لستة أشهر من تاريخ إصدارها في السابق، أما الآن فهي صالحة لمدة اثنتين وسبعين ساعة فقط. في كل خطوة بعملية إصدار تصريح تعاقدي تحتاج إلى إصدار شهادة جديدة عليها طابع جديد يذهب ريعه لإعادة الإعمار والجهود الحربية في كل مرة"، كما تقول أم أيمن. شهادة السجل المدني وثيقة مطلوبة في أيّة معاملة رسمية تقريباً كنوع من إثبات الهوية، وكالعديد من الإجراءات البيروقراطية الأخرى، فإنّ تجديدها يعتمد على التعليمات الشفيهة ما يترك المجال مفتوحاً للفساد. تمّ طرح طوابع إعادة الإعمار والمجهود الحربي مؤخراً إلى معاملات الدولة السورية.
قالت أم أيمن أنّها من نصح أولادها ببيع عقاراتهم بما أنّهم لن يعودوا إلى بلدهم في المستقبل القريب، إذ "أعرف أنّ السعر لن يساعده كثيراً (لابنها) عند تحويله إلى الدولار الأمريكي الآن بسبب تراجع قيمة العملة السورية وانخفاض القيمة الشرائية لها، ولكن على الأقل أدرك بأنّني ما زلت قادرة على بيعه من أجله باستخدام الوكالة العامة التي أعطاني إياها قبل أن يغادر. هناك إشاعات بأنهم سيلغون هذا الخيار قريباً بالنسبة للمقيمين في الخارج."
البقاء أو الرحيل
اليوم بعد تدمير العديد من المناطق السكنية، أو كونها أصبحت غير آمنة وغير خدمية، تواجه العديد من العائلات السورية تحديّاً يتمثّل في دفع ضعفين أو ثلاثة أضعاف مرتب خريج جامعي لاستئجار منزل يكون من الصعوبة بمكان أن يحصلوا على تصريح أمني من أجله. هبوط العملة العشوائي يعني أن معظم المالكين يطلبون دفعة مقدمة لستة أشهر أو حتى لسنة كاملة.
وجدت بعض العائلات أنّ من الحكمة استخدام القليل المتبقي من مدخراتها للهرب من البلد نهائياً. مع عدم وجود حل على المدى المنظور للمستقبل القريب، ومع ازدياد سوء الأحوال المعيشية في كلّ فصل، يقول البعض أنّ استئجار منزل في بلدهم أصبح بمثابة تحد وفعل غير قانوني تماماً مثل دفع أموالهم في محاولة للوصول وطلب اللجوء في أوروبا.
(جميع الأسماء الواردة في التحقيق هي أسماء مستعارة)
(الصورة الرئيسية: مركز مدينة حمص بتاريخ 2 أيار 2014. المصدر: عدسة شاب حمصي. نشرت بموجب سياسة الاستخدام العادل. جميع الحقوق محفوظة للمصور)