منذ منتصف التسعينيات خلال القرن الماضي، عملت الساحة الفنية التركية والسوق الفني التركي للانفتاح على البلدان الأخرى، غير أنّ الأمر لم يتضمن أيّ تعاون مع سوريا، فمنذ خمس سنوات لم يكن هناك أيّة علاقات على الساحة الفنية بين البلدين.
غير أنّه قام بعض الأفراد والتجمّعات الفنية المكوّنة من أكثرية سورية (ولكن التي أيضاً تضمّنت أتراك وعرب وأوروبيون) بتشكيل هياكل لتعزيز الثقافة السورية وللعمل من أجل خلق روابط للتواصل مع المجتمع المحلي والمشهد الفني ولتوفير نقاط إلتقاء للاجئين السوريين في اسطنبول، حيث قُدر عددهم بـ ٣٣٠،٠٠٠ في عام ٢٠١٤. كما تساعد هذه التجمّعات الفنانين السوريين الذين وصلوا حديثاً إلى إسطنبول.
بإستثناء فترة قصيرة خلال مطلع القرن الحالي، لطالما كانت العلاقات التركية - السورية متوترة منذ عقود، فعدم وجود لغة وطنية مشتركة بين البلدين ساعد في الأمر، أضف إلى ذلك حقيقة أنّ المشهد السياسي في تركيا أصبح أكثر استقطاباً في السنوات الأخيرة. وإزاء هذه الخلفية، بدأ الفنانون السوريون بالاستقرار في مدينة لم يكن مشهدها الفني أو ممارسيها الثقافين على دراية أو تواصل مع الساحة الفنية السورية.
ومن هنا، فتحت بايجز، أول مكتبة عربية في اسطنبول، أبوابها لتلبية احتياجات السوريين في المدينة وللتقريب بين المجتمع المضيف والمهاجرين العرب. وتمّ تأسيس المكان من قبل فنانين وناشرين سوريين بالتعاون مع شركاء أتراك وغير أتراك. يتألف المكان من مكتبة ومقهى ومساحة للأطفال، بالإضافة إلى استضافته الأحداث الثقافية، فندخل المكان في إحدى الليالي الباردة في شهر كانون الأول لنجد غرفة مريحة ملأى بالكتب باللغات العربية والتركية والإنجليزية والفرنسية، ونسمع أفراداً يتجاذبون أطراف الحديث بالعربية في الطابق العلوي للمقهى، فـ "كل يوم خميس نعطي المشورة القانونية المجانية للاجئين السوريين"، يقول لـ "حكاية ما انحكت" أحد المتطوعين.
في عام ٢٠١٤، افتتح مقهى ومركز الفنون آرت هير إسطنبول أبوابه في منطقة كاديكوى، والذي بدأ مؤخراً بتقديم الإقامات الفنيّة. منذ تأسيسه، سعى المؤسسون للتواصل مع المجتمع الفنّي المحلي وللترحيب بالتجريب الفنّي. على الطابق الأرضي خلف واجهة زجاجية مؤلفة من نوافذ مفتوحة يوجد طاولات ومطبخ صغير للخدمة الذاتية. أما الطابق الأول، فهو عبارة عن استوديو للعمل الفنّي وفي الطابق السفلي يوجد غرفة مظلمة وسرير لحالات الطوارئ.
قام المصوّر السوري عمر بيرقدار، بالمشاركة في مبادرة تأسيس آرت هير وبالترحيب بعدد من الفنانين السوريين، فحين قرّر العديد منهم مغادرة تركيا، خلّفوا وراءهم أدوات وأحذية ومجموعة من الحقائب في المكان، فقام بيرقدار بإعداد أرشيف للحفاظ على فن هؤلاء، وفي كثيرٍ من الأحيان، تمّ نقله لتجنّب حدوث أي أضرار.
أصبحت اسطنبول، مثل بيروت، نقطة توّقف للفنانين السوريين، فعلى سبيل المثال، قام الرسام هاسكو هاسكو بجعل إسطنبول مركزه قبل السفر إلى ألمانيا. أما الرسام محمد ظاظا فقد جاء أصلاً لرؤية أحد الأصدقاء، ثم قرّر البقاء ، وإن لفترة وجيزة.
قرّر الفنان التشكيلي السوري علي عبد الكريم، والمعروف باسم "علي عمر"، البقاء في اسطنبول رغم الصعوبات مالية، فـ "في أيّ مكان في العالم، كسب العيش من الفن ليس سهلاً، وربّما هو أكثر صعوبة في تركيا، وأنا كنت على علم تام بهذا الأمر عندما اخترت أن أكون فناناً. لكن السوق (الفني) في اسطنبول ليس قوياً، وقلائل هم من يشترون الأعمال الفنية وهناك حتى أقل من لديهم الوسائل للقيام بذلك. وهذا يؤثر على جميع الفنانين، بما فيها الفنانين الأتراك".
أعمال علي عمر الأخيرة، هي عبارة عن لوحات كبيرة بألوان غنية كانت من بين الأعمال المعروضة في آرت هير، عندما قامت مجموعة من الطلاب الأتراك في مجال إدارة الفن التركي من جامعة بيلجي ومحاضرتهم الدكتورة دريا يوسيل بزيارة المركز في الأول من كانون الاول ٢٠١٦.
"لقد كانت تجربة مثيرة جداً للاهتمام لطلابي لمجيئهم الى آرت هير"، ذكرت يوسيل في وقتٍ لاحق، إذ "كان الطلاب مهتمون في بعض الأعمال الفنية. حتى أنهم قالوا لي أنهم سيزورون آرت هير مرّة أخرى. لم يعرف طلابي هذه الجماعات من الفنانين من قبل، ولهذا السبب هذه الزيارات هي مثيرة بالنسبة لهم".
"هذا العام، نريد أن نعمل مع آرت هير في مشروع سوف نقوم بإعداده ضمن منهاج الصف. من خلال هذا المشروع، سيلتقي المزيد من الطلاب مع الفنانين السوريين، ويمكننا أن نقوم بالإعلانات لكي يشارك الأشخاص من المشهد الفني التركي بصفتهم الجمهور. وهذا بدوره سيؤدي إلى زيادة الوعي" شرحت يوسيل.
ورداً على سؤال حول علاقة المؤسسات التركية الفنية مع الفن العربي عموماً والفن السوري خصوصاً قبل عام ٢٠١١، أجابت أسينا غونال منسقّة البرامج في ديبو اسطنبول : "قليل منّا يتكلّم العربية، وكان من المفترض أن نترك الماضي العثماني وراءنا (تماشياً مع إرث أتاتورك) كما أنّ الأتراك مستشرقون تماماً عندما يتعلق الأمر بالعرب... ".
وتعتبر ديبو إحدى المؤسسات القليلة التي تعاونت مع فنانين سوريون أو عرضت أعمالهم. غير أن معرض سالت المشهور بفرعه في منطقة غالاتا قام بعرض معرض بعنوان مشمش من دمشق، وهو المعرض الذي يتحدث عن الأفراد في الشتات سابقاً وحاضراً، والذي تمّ تنظيمه من قبل عاطف أكين وديليك وينشستر خلال العام المنصرم كما أشارت غونال. في فصل الربيع، تعاونت مؤسسة ديبو مع شيناي أوزدين، العضو في المنزل الثقافي هامش الذي قام بتأسيسه مجموعة من الفنانين والمثقفين السوريين والأتراك، لحدث الأفلام الوثائقية والمحاضرات SaturDox 2016 .
ماذا عن الأصوات السورية؟
"وماذا عن الأصوات السورية؟"
سألت غونال، "نحن لا نسمع عن ذلك! نحن لا نسمع عن أيّة تمثيل جيد للسوريين في وسائل الإعلام التركية أو الغربية. لذلك قمنا بتنظيم ستة عروض من الأفلام الوثائقية حول سوريا [SaturDox]، والتي تلت كلٍّ منها مناقشات وكانت هذه مفيدة للغاية".
عقود من حدّ حرية التعبير تركت أثراً لا يُمحى على الفنانين السوريين وإنتاجهم الفني. "كان لدينا الرقابة على السينما خلال نظام الأسد، وهذا يثير تساؤلات عن القيود اللفظية وغير اللفظية وعن الرقابة الذاتية. كان لدينا، على سبيل المثال، عرض فيلم (سينما صامتة) للمخرج ميار الرومي كجزء من سلسلة Synema في تشرين أول ٢٠١٦. من المهم أن نجد طريقة للالتفاف حول القيود والحواجز التي تحول دون إيصال رسالة صادقة، وذلك لطرح الأسئلة وليس لتقديم الإجابات "، قال بيرقدار.
"ومن الضروري أن يكون هناك تعاون سوري-تركي نظراً لأن الفنانين السوريين (ولا سيما صناع السينما) كانوا على مدى عقود مضطرين لإيجاد سبل للعمل ضمن ظروف تحدّ عملهم الإبداعي".
وعرّفت غونال، مؤسسة ديبو بأنّها "مساحة بديلة، حيث يمكن إيجاد أعمال الأصوات المعارضة والأصوات السورية. جزء من المعرض كان يعرض أعمال الرسام محمد ظاظا، الذي (كالعديد من الفنانين) أراد مشاركة عمله مع الجماهير التركية، فاستخدمنا هذه الفرصة لإجراء نقاش حول الفن والقمع والإبداع."
بيرقدار، الذي يجيد اللغة التركية، والذي جعل مقره اسطنبول على مدى السنوات الأربع الماضية، ينصح الطلاب الأتراك من جامعة بيلجي: "إن التحدي الأول الذي ستواجهه هو المال بطبيعة الحال. أنا درست الإعلام والفن والكيمياء وأقوم بأعمال جانبية لشركات الأدوية التي تجلب لي بعض المال. [...] فالأموال من المنح تنفذ".
في اليوم التالي، أوضح بيرقدار أنّ المجتمع التركي لا يزال في مرحلة التعوّد على الفنانين السوريين، إذ "كان الطلاب بالأمس متحمسون، لذلك نحن بحاجة إلى التواصل. الناس في تركيا يفضلّون الحفلات الموسيقية والمسارح على صالات العرض والفنون الجميلة. لا يمكننا أن نتوقّع نفس الاهتمام والإقبال على معارض الفنون البصرية كما هو الحال في لبنان أو سوريا".
لتمكين الفنانين السوريين وتوسيع آفاقهم للمشهد الفني المحلي، قام مركز آرت هير باستضافة عدد من ورش العمل والمناقشات والأفلام والعروض والحفلات الموسيقية. وقد اجتذبت هذه الأخيرة جمهوراً جديداً، بما في ذلك مزيج من الموسيقى التجريبية والفرق الموسيقية المختلفة منها اوركسترا مؤلفة من ١٥ موسيقياً أدوا الأغاني التركية التقليدية.
وتمتلك اسطنبول ساحة موسيقية رائعة ومتنوعة التي هي أيضاً أحد أكبر القطاعات الفنية في المدينة. ومن بين الفنانين السوريين الذين انتقلوا إلى تركيا منذ عام ٢٠١١، كان الموسيقيون محظوظون لسهولة تأسيس أنفسهم هناك.
في آرت هير، قدّم الفنان السوري عبد الواحد الخمرة التراث الموسيقي السوري وفرقة "صبا بردى" إلى الجمهور التركي بالتعاون مع عازف العود المشهور وسيم مقداد واثنين من الموسيقيين الأتراك. ولقد تغيّرت استراتيجية آرت هير على مدى العامين الماضيين، فأصبح الهدف هو أن يكون المركز فسحة للتعاون الفنّي بدلاً من كونه صالة عرض فنية.
اعتمد أكثر العمل في المركز الفني ديبو على المؤسسات الخيرية والتمويل الأوروبي، ولكن هذا الأخير هو الآن في خطر، خصوصاً بعد انسحاب تركيا من التجمّع الفني "كريياتف يوروب" (أوروبا المبدعة) في تشرين الاول ٢٠١٦. "نحن بحاجة لجمع الأموال لتنظيم المعارض ولا نحصل على أيّ تمويل تركي عندما يكون الأمر متصلاً بأعمال فنانين سوريين"، قالت منسقة برنامج ديبو أسينا غونال لموقع حكاية ما انحكت.
" كانت (مظاهرات حديقة) جيزي بارك عام ٢٠١٣ نقطة تحوّل وأمسى المجتمع أكثر استقطاباً. في مجالي السينما والمسرح، كان التغيير جذرياً، ولكن أقل بالنسبة لنا. أن نكون مستقلين مالياً عن الدولة يجعلنا مرنين، ومن حيث المحتوى، لا نواجه الرقابة.... نحن نتلقى طلبات أقل من الخارج للتعاون (الفني). العديد من الفنانين المحليين مكتئبون جداً ولا يريدون البقاء هنا".
ورداً على سؤال حول مساهمة الفنانين السوريين، قالت غونال أنّه لطالما كان التركيز الفنّي على الغرب، ولكن وجود الفنانين السوريين سمح لخلق آفاق جديدة ولاكتساب نظرة ثاقبة عن الإنتاج السوري الفني.
بالنسبة ليوسيل المحاضرة في جامعة بيلجي، وجود الفنانين السوريين تجلّى خلال العامين الماضيين على وجه الخصوص، فـ "لقد أصبح هناك وعي عن الفنانين المهاجرين في المشهد الفني المعاصر في اسطنبول، أيضاً بسبب وسائل الإعلام. كما أنّ التجمّعات الفنية مثل آرت هير أمست معروفة . ليس فقط السوريين، ولكن أيضاً يجب أن ندعم جميع الفنانين المستقلين على الساحة الفنية في اسطنبول".
ويعتقد بيرقدار أنّ مركز آرت هير كان له تأثيرعلى الساحة الفنية المحلية والجوار: "كنّا أول من فتح فسحة للعمل للجمهور، وعملنا معاً لجعلها أكثر دولية. ونحن تعاوّنا مع المجتمع التركي هنا، وكان ذلك مفيداً لفنانينا. فقد كسروا حاجز الشعور بالاغتراب، وبدؤوا بالشعور أنّهم في وطنهم هنا".
بعد قرون من التاريخ المشترك والعقود من الانفصال، وبمواجهة بعض التحديات المشتركة، تمكن الفنانون السوريون بالتغلغل في الوسط الفني التركي وأسسوا العديد من المؤسسات وشبكات التواصل المهمة التي من شأنها أن تُغني المجتمع الفني السوري في تركيا والمجتمع المحلي الذي حضنهم.
تصحيح: كانت النسخة الاصلية تقول "إن الكثير من عمل ديبو يعتمد على المؤسسات الخيرية والتمويل الأوروبي، والذي تم قطعه منذ خروج تركيا من التجمّع "كريياتف يوروب" في تشرين الاول ٢٠١٦." تم تصحيح المعلومة علماً أنه لم يتم قطع كلّ التمويل الأوروبي منذ خروج تركيا من التجمّع.
(الصورة الرئيسية: مركز فنون آرت هير في منطقة كاديكوي في اسطنبول هو فسحة فنية مستقلة - اسطنبول - تركيا - ١-١٢-٢٠١٦ (دريا يوسيل / حكاية ما انحكت)