منذ أن تمدّد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ثالث أبرز حركة جهادية إسلامية في العالم، في الأراضي العراقية والسورية، مبدياً كلّ تعبيراته العنفية في مواجهة الجميع تقريباً، طُرِحت على بساط البحث جملة أسئلة تتعلق بمستقبل الحركة الجهادية، ومساراتها المحتملة. هل ستواجه طريقاً مسدوداً ويبدأ خطها البياني بالتراجع وصولاً لنهاية هذه التجربة الصراعية المدمرة؟ أم أنّ الواقع يتوّفر دائماً على إمكانية توليدها من جديد؟ وما الذي يغذيها؟ وأيّ الأدوات والوسائل هي الأنجع لمواجهتها؟
لا يمكن من حيث المبدأ، التنبؤ بسيناريوهات محدّدة لمستقبل التيارات الجهادية بدون النظر إلى السياق التاريخي لها، وتقصّي عوامل نشوئها المتعدّدة والمركبة التي تنتمي إلى حقول الثقافة والاقتصاد والسياسة. وكذلك الشروط الراهنة العاملة على تغذيتها وتطوّرها.
سنحاول الإشارة إلى العوامل الأكثر أهمية في رأينا، التي لا تشكل أرضيةً لنمو الإسلام السياسي فقط، بل تتجاوزه للدفع باتجاه سبيلاً ومنهجاً رئيساً لتحقيق مشاريعه السياسة / الدينية.
(1): القراءة الفاسدة للموروث الإسلامي: ليس أكثر من التقديس إفساداً لقراءة التاريخ، بما فيه تاريخ الأديان. وحين يضفي المسلمون بغالبيتهم، رجال دين وفقهاء ومؤمنون عاديون القداسةَ المطلقة ليس على القرآن فقط، بل يمدّون رداء القداسة ليشمل كل ما فعله النبي وصحابته وكل ما نسب إليه من أقوال، واجتهادات الفقهاء المتقدمين حتى القرن الرابع الهجري، والكثير من المتأخرين المعاصرين، تفقد القراءةُ تاريخيتها، ويتم إهدار السياق والشروط التي حكمت صيرورة الدين الإسلامي في لحظة تاريخية محدّدة.
ولهذا فإنّ الوقائع الجهادية والحروب والغزوات التي دوّنت كتب التاريخ والسيرة تفاصيلها، حافظت على حمولتها العاطفية القادرة على الإلهام والشحن. وتحوّل العنف الذي استخدمته الدولة الصاعدة في الفترة المحمدية إلى منهجٍ وحيد معتمد، لا يعجز الجهاديون عن دعمه وتثبيته بما يلزم من نص قرآني أو حديث نبوي، كل ذلك وفقاً لآلية إنتقائية تغفل عامدةً عن وجوهٍ أخرى تتعلق بالجدال والموعظة والرحمة وقبول المختلف. النمط السائد للوعي الديني حافظَ نسبياً على علاقته بمفهوم الخلافة والفرقة الناجية.
الموروث الديني يحفل بالمتناقضات التي تشير إلى جداله مع واقع متغير باستمرار، وينكر المسلم التقليدي هذا التفاعل مدافعاً عن الإسلام بوصفه منظومة متكاملة نهائية تصلح لكلّ زمان ومكان. بالتالي، من الواجب الشرعي تطبيق الأحكام الشرعية بما فيها توّسل العنف لإرغام غير المسلمين وإخضاعهم.
الاتجاه العام لقراءة وتأويل النص، وبالتالي إنتاج الخطاب والشعارات والبرامج للجماعات الإسلامية غير منفصل عموماً عن شروط أخرى تتعلق بالطابع العام للمجتمع واتجاهات تطوره الراهنة، والثقافة والسلطة السياسية، وهو ما يفسر كيف أنتجت فترة الخمسينات في سورية كتاباً بعنوان "اشتراكية الإسلام" من قبل قيادي إخواني (مصطفى السباعي)، اتساقاً مع الروح الوطنية الناهضة في تلك الفترة، وهذا ما لن يتكرّر في ظروف الاستبداد بالتأكيد.
(2): غياب التنمية: التهميش الذي يطال شريحةً واسعة من أفراد المجتمعات المتخلّفة، وفي الأرياف على وجه الخصوص، يوّلد ردود فعل "ضد اجتماعية"، من السهل أن تتلقفها التنظيمات الجهادية وتدرجها في سياق نهجها ومشروعها.
ولأنّ الاحتياجات المادية للإنسان تقع في قاعدة هرم حاجاته، فإنّ عدم تلبيتها على مدى زمني طويل يتسبّب بنماذج متنوعة من الاضطراب الاجتماعي حين تترافق بسويةً بائسة من الوعي الاجتماعي والسياسي. ولأن الحياة لا تعرف الفراغ، فإنّ واقع ضغوط الاحتياجات المادية مع أفق مستقبلي مسدود، يوّلد الإحباط واليأس و يدفع بأعداد متزايدة من الأفراد للبحث عن ملاذاتٍ تُكسب حياتهم وموتهم معنىً، وهذا ما يقدّمه الخط الجهادي الذي يوفر "قضيةً عظيمة" تستحق بذل النفس لأجلها، ويعِد بمكافآتٍ سماوية مغرية لفردٍ محروم من كل شيء.
إنّ الضعف الشديد لعملية التنمية التي تقترب من الصفر في بعض البلدان، تقف وراءه بالدرجة الأولى أنظمة حكم نهّابة ومفقرة لشعوبها، وتابعة للمراكز الرأسمالية التي بدورها لا مصلحة لها في النهوض الاقتصادي والعلمي لتلك البلدان.
لهذا فإنّ مواجهة النزعات التكفيرية الجهادية على المستوى الاستراتيجي (وفق المنهج الوقائي) ينبغي أن تعتمد عملية التنمية الاجتماعية بشقيها الاقتصادي والثقافي، أي كل ما له علاقة بتلبية الاحتياجات المادية الأساسية، واحتياجه للانتماء والمعرفة، وبديهي أنّ ذلك يشمل النظام التعليمي أيضاً.
هذان الأمران (أي التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية) يشكلان عامل حصانةٍ قويّ بمواجهة النشاط الدعوي لتلك الجماعات، فالفرد الذي لديه ما يملأ حياته من عمل وحياة أسرية متوازنة، مع نصيب مقبول من التعلم والثقافة، لن يكون من السهل استجابته لتلك الدعوات.
(3): الاستبداد: نظام الحكم الاستبدادي أكثر أشكال الحكم توليداً للنزعات المتطرفة، إضافةً إلى كونه منبع لجملة من الشرور الاجتماعية المختلفة. ليس أكثر من القهر الغاشم قدرةً على استجرار ردات الفعل البدائية، التي يغلب عليها الطابع الانفعالي. إنّ مصادرة الحريات الشخصية والسياسية، واحتكار السلطة، والاستحواذ على الفضاء العام كله، وعلى موارد الثروة الوطنية (المترافق بالضرورة مع إفقار الشريحة الأوسع من المجتمع) واستباحة كرامات البشر وأجسادهم وحيواتهم، وإقصاء كلّ من لا يكون على الولاء مطلقاً للحاكم، وتنميط المحكومين .... إلخ، يحوّل المجتمع إلى حقل ألغام تنفجر في أول فرصة ممكنة. وحين تكون المشاريع القومية والاشتراكية والتحرّرية مع القوى السياسية الحاملة لتلك المشاريع في مرحلة من التراجع المريع، سيكون الإسلام السياسي وتعبيراته العنفية جاهزاً لاستقطاب وتأطير أشكال الانتفاض المجتمعي وإدراجه في أيديولوجية " خلاصية " لها جاذبيتها لدى عموم المسلمين. وبديهي أنّ تغييب "المواطنة" على مستويي المفهوم والتجربة الناجم عن الاستبداد، سيستحضر بديلاً عقائدياً يوّفره الخطاب الديني، الراديكالي ضمناً، بشعار "أخوّة الإسلام".
طبيعة وبنية وآليات الاستبداد تفضي بالضرورة إلى مجتمع مأزوم، نظام الحكم فيه يتعامل مع أزماته الوطنية الكبرى (اقتصاداً وسياسةً وثقافةً وحقوقاً) بقذفها إلى المستقبل أو تجاهل وجودها والهروب إلى الأمام، وتهرّب الحركة الجهادية إلى الوراء ليصبح الصدام العنيف احتمالاً يصعب تجنبه.
إنّ سياسات الأنظمة المستبدة أدّت غالباً إلى قمع الإسلام السياسي على مستوى التنظيمات، وبنفس الوقت استنباته في التربة الاجتماعية من خلال التزام نهج القمع والتهميش والإفقار. تشعر السلطات بالتهديد المباشر من تمدّد نفوذ حركات الإسلام السياسي. تقوم بزج الإسلاميين في السجون، وهذا ينتج خطاباً وشعارات متطرفة ولجوءاً للسلاح الذي تواجهه السلطة بالسلاح وبالسجون، وهكذا تستمر دوامة العنف بالتوالد.
لهذا، فإنّ إدماج الحركة الإسلامية السلمية في الدولة وتوفير فرصة إشراكها في الحكم، وفق الآليات الديمقراطية، سيكون خياراً إيجابياً في محاصرة التيار الجهادي وإضعافه على المدى الطويل.
(4): التوظيف: عرف التاريخ العديد من تجارب استخدام السلطات المطلقة للميول العنفية المتطرّفة في مواجهة الخصوم، لكن الأذرع الاستخباراتية ذات القدرات الفائقة لدى السلطات المستبدة في العالم المتخلف ولدى بعض حكومات الغرب الرأسمالي، استطاعت حديثا (خاصة منذ ثمانينات القرن العشرين) أن تلعب بنجاح ملحوظ لعبة توليد وتشغيل الحركات الجهادية الإسلامية. وهذا لا يمنع أن يلفحها لهب الجهاد بين حينٍ وآخر، فالأمر أعقد من علاقة رب عمل وعامل.
وسواءٌ تمايزت مصالح الأطراف المشغّلة أم تقاطعت، فإنّ الاستثمار في الحركات الجهادية يستمرّ، وليس أدل على ذلك مما تشهده الساحة العراقية والسورية من مدّ وجزر في نطاق سيطرة داعش، وكيف أنّ أيّ طرف فاعل من أطراف النزاع العنيف يكسب من تقدّمها في مرحلة ثم يكسب من تراجعها في مرحلة تالية، بحيث يبدو الأمر أحياناً وكأنّ تنظيم الدولة الإسلامية بكليته هو "مقاول بالمفرق" يعمل لحساب من يدفع، فضلاً عن الاختراقات الأمنية لأجهزة الاستخبارات الدولية والإقليمية للتنظيم.
القوى الدولية العظمى إذاً توّظف الحركات الجهادية وتستخدمها في إدارة صراعاتها الدولية من خلال الأزمات، وفي خوض بعض حروبها بالوكالة. وفي سورية والعراق والشرق الأوسط عموماً تساعدها في إبقاء المنطقة مشتعلة، أو على درجة عالية من التوتر على الأقل، وبالتالي تكون عاجزة عن إنتاج حكوماتٍ وطنية بحق، وتحرير الإرادة المعطَلة لشعوبها. أما الأنظمة المستبدة فإنها توظف الجهاديين على خطين: أولهما في إقلاق الخصوم الإقليميين وإيلامهم وتهديد أمنهم، كما فعل النظام السوري في العراق ولبنان، وثانيهما في الداخل حين يتضخم الجسم الجهادي ويعلو صوته وترتفع شعاراته الدينية والمذهبية على حساب صوت وشعارات الكتلة الشعبية المطالبة بالتغيير الديمقراطي وبالحرية والكرامة. بذلك تضيف رقعةً إلى ثوب شرعيتها المهلهل، وتوفر لنفسها المسوغ لإسكات الصوت المعارض، بما فيه النقيض التاريخي للخط الجهادي. هنا أيضاً النظام السوري قد يشكل النموذج الأكثر وضوحاً في هذا السياق.
لعبة النار هذه تنطوي على مخاطر جانبية محتملة بالنسبة للمشغّلين، من بينها تعرّض دول الغرب ذاتها لموجات أعمال إرهابية أكبر من قدرتها على الاحتمال، من قبل نفس التنظيمات التي تشغلها، وهذا، فقط، هو ما يدفع تلك الدول لمراجعة استراتيجياتها بهذا الخصوص.
الأنظمة المستبدة (شريكتها في توظيف الجهاديين) تفتقد العقل السياسي لتقوم بتلك المراجعة، حتى لو أطيح بها. تلك من طبيعة أنظمة الطغيان على كل حال.
العوامل هذه تعمل بتضافر وتفاعل فيما بينها، وتتقاطع خطوط تأثيرها تبعاً لإرادات واستراتيجيات دول الغرب الكبرى، وسلطات الدول المتخلّفة، وطبيعة وعمق علاقات المصالح المشتركة أو التبعية أو الخصومة بين هذين الطرفين، وسواءٌ تقاطعت المصالح أو تفارقت فإنّ ما يجمعها دائماً هو الرغبة المشتركة بمصادرة احتمالات نهوض مجتمعي ووطني يفضي إلى أنظمة حكمٍ تعبر عن مصالح شعوبها، وتستطيع ترشيد وعقلنة العلاقة مع الغرب باتجاه الاستقلال: استقلال الإرادة أولاً.
ما سلف ذكره من عوامل رئيسية، لا يقلّل من أهمية عوامل رافدة أخرى كالدور الإيراني الخاص، والتناقض بين الدين والحداثة في مناخ العولمة، والاحتلالات العسكرية لأراضٍ وبلدان إسلامية، واستعصاء الحل العادل للقضية الفلسطينية.
في ظلّ العوامل المذكورة سالفاً، هل يمكن استشراف مستقبل الخط الجهادي الإسلامي ومصيره؟ وهل ستشهد المنطقة تحوّلات سياسية واجتماعية عميقة تخفض من معدلات الانخراط في تياراته؟
لا تبدو في الأفق مؤشرات واضحة على تحوّلات من هذا النوع في مجمل المجتمعات الإسلامية، ولا تغيّرات هامة في سياسات الغرب، ولا طبيعة أنظمة الحكم المتسلّطة، لكلّ هذا فإنّ الشروط الملائمة لإعادة إنتاج الخطاب الجهادي وتياراته ستبقى كما هي تقريباً. بالتالي ينطوي المستقبل المنظور على احتمال ظهور نسخٍ جديدة من طالبان والقاعدة وداعش.
إنّ مواجهة النزعة الجهادية العنفية وتخفيض مخاطرها، غير ممكنة إلا من خلال مجموعة من الرهانات على القوى العلمانية الوطنية التي تقع على عاتقها مهمة هزيمة الاستبداد، ذي المظهر العلماني أو الديني، وإعادة بناء الدولة الوطنية التي تشكل الديمقراطية آلية إنتاج حكوماتها، وبما يتيح للقوى الإسلامية السلمية المشاركة في العملية السياسية، مع الفصل التام بين الشأنين السياسي والديني، ومن ثم الشروع في عملية تنمية متوازنة، اقتصادية تحقّق أقصى قدر ممكن من العدالة في توزيع الثروات الوطنية وتوليد فرص العمل المنتج، وثقافية/ تعليمية تفضي إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة للجماعات الجهادية، وإخضاع الخطاب الديني لمبضع النقد كي يساهم كأيّ نسق ثقافي آخر في الإجابة على أسئلة الحاضر المتجدّدة بدلاً من العودة إلى ماضي الخلافة غير المجيد.
الرهان إذن على الداخل، وفي الداخل، لكل ما من شأنه تحصين الدولة والمجتمع بمواجهة التهديدات ذات المصدر الداخلي أو الخارجي، وبما يكفل علاقة متوازنة مع الخارج تقطع مع تاريخ طويل من التبعية والارتهان، والتجذير العملي لمفهوم المواطنة، ودولة القانون والعدالة، بذلك فقط يمكن لمجتمعاتنا الشرقية الخروج من نفق العنف والدخول في عصر الدولة الحديثة.
(الصورة الرئيسية: ملصق بعنوان "الأسد وداعش واحد"....المصدر: صفحة دولتي على الفيسبوك )